في ظل عالم صارت العولمة بشتى مفاهيمها هي من تجثو على مختلف الدول وبالأخص النامية منها، لم يعد من الصعوبة بمكان، سواء للشركات العالمية، أو الدول الغنية، أن تنهب الثروات البشرية بطريقة أو بأخرى، ليساهموا في تعزيز قوتهم الاقتصادية ،والتي تعتبر النواة الرئيسية للعولمة، في هذه الشركات أو تلك الدول.
وعند الحديث عن الدول النامية هنا، يتبادر إلى أذهاننا دونما أدنى شك، دول الوطن العربي، أو بالأصح الأوطان العربية، فلم تعد وطنا واحدا، بل عدة أوطان، إذ ساهمت هذه الانقسامات ومحاولات التهام الآخر، في خلق وضع أمني وإجتماعي معقد، تسبب بدوره في ثُقب بسيط تمثل في البحث عن مجتمعات أفضل ليشبع الإنسان غريزته في الإبداع والابتكار.
ولكي يكون المجتمع أفضل، لابد من توفر البيئة المناسبة التي تمكن العالِم من ممارسة أبحاثه، وتلبية طلباته، وتأمين حياة كريمة لأولاده وأحفاده، وهذا مانراه في كبرى الشركات والدول الأجنبية التي توفر كل هذه المتطلبات وأكثر لمن سيساهم في تقوية أجنحتها لتسابق نظيراتها في السيطرة على الكرة الأرضية الصغيرة.
ولشدة سوء الأوضاع في الدول العربية، لم تعد الشركات الكبرى تكلف نفسها عناء البحث عن العلماء، والعباقرة، فقط، عليها أن تُنقّح الطلبات التي تصلها بالآلاف ربما بحثا عن مقعد شاغر.
وإذ يرى البعض أن ماتقوم به هذ الشركات، لا يقل بشاعة عما كان يقوم به المستعمر للأرض بالسلاح، في المقابل، علينا أيضا أن نضع نصب أعيننا الأسباب التي أدت على الأقل إلى تخلي هؤلاء النوابغ عن بلدانهم، ولماذا لم تعد قصائد درويش تدغدغ مشاعرهم عن الوطنية والوطن؟!
الأسباب كثيرة جدا، وكما ذكرت آنفا، الوضع الأمني يتصدر قائمة هذه الأسباب، إذ أن الإنسان في النهاية، إذ زادت الحروب، وساءت الأوضاع، يصبح مطلبه الأساسي والأهم، الأمن والطمأنينة، وهذا يرتبط ارتباطا مباشرا بسوء أنظمة الحكم لدينا، وعدم وجود أي رابط يجمع بين البحث العلمي وسياسة الدولة، وهذا الأخير من وجهة نظري هو سبب النكسة العلمية التي مر بها العرب، بعد أن كانوا يتربعون على عرش التقدم والحضارة، في حقبة من الزمن لم يتبق لنا منها إلا أن جعلناها مخرجا لنقاشاتنا العميقة مع الآخر، أو عندما نشعر حاليا بالخزي، لتخلفنا مقارنة بالمجتمعات التي تعلمت منّا في نفس الحقبة.
ولأنه بالعلم والمال يبني الناس ملكهم، ظل المال وسيظل هو المدد الذي يشجع العلماء، بل حتى الطلاب على مواصلة تعليمهم وتنفيذ اختراعاتهم، وهذا ما نفتقده حتما، إذ تنفق الدول العربية ميزانية لشراء الأسلحة وأحدث الطيران، أضعاف أضعاف مئات ما تنفقه كميزانية للبحث العلمي، هذا إن كان هناك ميزانية أصلا.
إن هذا النزيف للعقول العربية، إلى المهجر، ودونما إنتباه من صناع القرار، لا يجعلنا نشعر بالفخر، بل بالمذلة أننا لم نستطع حتى إستخدام ثرواتنا بطريقة صحيحة، لنلحق بالركب العلمي المتسارع، وليس هذا فحسب، بل شاركنا أيضا في تضييق الخناق على مبدعينا، حتى أصبح الواحد منهم ينتظر فرصة واحدة لأن يطير خارج هذه البلاد، كي لايعود إليها مطلقا..
إننا بحاجة إلى وقفة جادة، ولفت نظر عاجل، علّنا نتدراك ماتبقى من ثروتنا البشرية، ونمنع هذا النزيف، قبل أن يزداد الحال سوءا أكثر مما هو سيء، وأنا على يقين، أن من غادرونا سابقا، عندما يرون التغيير الذي أحدثناه، سيعودون ولو على جناح أول طائر، فكل ما يحنّون إليه هو خدمة أوطانهم، حتى ولو أنهم لم يدركوا هذا الحنين إلا في بلد الغربة، هم على استعداد لبذل التضحية، ونقل التجربة، وتشجيع الجيل الجديد، وقيادة النهضة العلمية الحديثة.
هذه كانت مجرد دعوة لإيقاف النزيف..فهل من طبيب؟؟
[email protected]
نزيف العقل العربي
أخبار متعلقة