قد يصبح مفهوماً أن نضع الدكتورين محمد مرسي وباسم يوسف فى جملة مفيدة، وبينهما فقط «واو العطف» حين يصير من حق «المواطن» أن يجتمع مع «المسئول الكبير» فى أى تعبير أو تصرف بعد ثورة أسقطت «الحاكم الإله» أو «نصف الإله» إلى غير رجعة وأعادت للمغلوبين والمقهورين الثقة فى أنفسهم، وأدركوا أن مصير الحاكم بأيدي المحكومين. لكن ما يثير الألم أن هذا العطف يأتى حين تتحول أقوال وأفعال الأول إلى مادة للسخرية والتهكم على الثانى، يطلقها من خلف شاشة زرقاء، فتسيح فى الاتجاهات الأربعة، مخترقة الحدود والقيود والسدود.
وإذا كان البعض يريد أن يعلق الجرس فى رقبة الثانى، ويتهمه بالإسفاف والابتذال وتخطي حدود الأدب واللياقة، فإن الحقيقة هى أن هذا الجرس يعلق فى رقبة الأول أو «إصبعه» لأنه يأتى بما يمد الثانى بزاد وفير ومخزون لا ينضب للضحك طيلة الوقت، مستعرضاً قدراته على إنتاج «الكوميديا السوداء» أمام جمهور غفير يتابعه ويتفاعل معه ويبني من خلال بعض عباراته صورة سلبية عن السلطة الجديدة، التى لا تزال حتى الآن تتصرف وكأنها فى «المعارضة» أو غارقة فى «المظلومية التاريخية» أو البكائية و«الكربلائية» التى عاشت فى أعطافها سنين عدداً مستغلة إياها فى جلب التعاطف واستجداء المناصرة.
ربما لا يفعل باسم يوسف أكثر من إعادة ترجمة ما يدور فى أذهان الناس عن «الحاكم الجديد»، والقيام باستلهام ما يثار فى مخيلة شعب طالما كانت السخرية من حكامه صناعة مستمرة له، وإحدى وسائله التقليدية والعريقة فى المقاومة بالحيلة، لا سيما إن وجد أمامه من لا يفرض الهيبة بالأفعال إنما يطلبها ويلح عليها بالأقوال أو بالدموع أو حتى بالقهر والإكراه. لكن من يجهل التاريخ ولا يدرك حدود واقع يتقلب بين موجات هائلة من تدفق المعلومات والصور والقيم والتصورات والنماذج المعرفية والحالات الإنسانية وطرائق العيش فى ظل ثورة الاتصالات الرهيبة، يعتقد أن صمت الساخر ينزع السخرية أو يقبرها ويقضى عليها فى نفوس الناس وعقولهم.
إن ما ينشره الشباب على شبكة المعلومات الدولية، لا سيما فى مواقع التواصل الاجتماعى، من تعليقات كلامية وإنشائية وصور كاريكاتيرية وتعبيرية عن الدكتور مرسي وغيره من الحاكمين معه أو الحكام من خلاله، يتعدى بكثير ما يعرضه باسم. وما ينطق به الناس على المقاهى وداخل عربات المترو وفى الأسواق والحقول وأمام الآلات المزمجرة فى المصانع وعلى المكاتب داخل المؤسسات البيروقراطية العتيقة يزيد ويفيض أيضاً على ما يأتى به باسم، الذى لن يزيده «الضبط والإحضار» إلا ذيوعاً وشهرة، ويعطي خطابه السياسى المتوزع على اللفظ والحركة والصورة مصداقية ورسوخاً لدى جمهور عريض، رغم ما يحمله أحياناً من إيحاءات جنسية تخدش الحياء أو ما يقوم به من مجافاة للعلم فى بعض المواقف فى عملية الاقتطاف والاقتباس التى تخدم المسار الفكاهى اللاذع. لكنه فى النهاية لا يخترع شيئاً، إنما يتبع الحكمة السابغة التى تقول: (( من أعمالكم سُلِّط عليكم ))
لو بلع باسم يوسف لسانه فى عتمة السجن إلى الأبد، وتم إغلاق كل الصحف والقنوات الفضائية الخاصة وهاجر الكتاب أو صمتوا وتركوا أقلامهم لتجف فى محابرهم أو كفوا عن النقر على مفتاح الحروف بالحواسيب، وحلت المعارضة نفسها وطلب قادتها اللجوء السياسى لأى دولة أوروبية، فهل ستتبخر المشاكل المعقدة وتجد السلطة كفاءتها ووطنيتها ونزاهتها الضائعة، فيسبّح الناس بحمدها ويكبّرون من فرط إنجازاتها المخفية.. يا سادة، إن الهيبة يفرضها العدل والكفاءة وليس الجبروت والخيبة، ومن أراد أن يجعل صورته حسنة فعليه أن يعمل على تحسين الواقع، هذا هو الطريق المستقيم، فلا تضيّعوا الوقت، فلا شيء سيرجع أبداً إلى الوراء.
الإخوان والقاعدة
قبل ثورة يناير لم تكن هناك صلة مباشرة بين «جماعة الإخوان» و«تنظيم القاعدة» وإن ظل هناك من ينظر دوماً إلى كل التنظيمات التى ترفع الإسلام شعاراً سياسياً لها على أنها خرجت من عباءة «الجماعة». وبعد الثورة انفتح الباب أمام مناقشة مختلفة فى ظل النقاش الذى يدور حول ظهور تباشير «القاعدة» فى مصر، سواء بتسلل عناصر منها إلى البلاد مستغلة الفوضى الأمنية أو بإيقاظ خلاياها النائمة. ولا يمكن إنكار حقيقة تبين توافر البيئة المناسبة للتنظيمات التكفيرية فى ضوء عدة معطيات تظهر حالياً عياناً بياناً، على النحو التالى:
1 - إن شعارات وهتافات وآراء السلفية الجهادية المقتربة من «القاعدة» أو المتماهية فيها والمتحالفة معها ملأت الأسماع والأبصار فى قلب القاهرة، ومارس أصحابها أدواراً فى وضح النهار، فظهروا فى برامج متلفزة، وخطبوا فى المصلين بالمساجد وفي المتظاهرين فى الساحات والميادين، وعقدوا المؤتمرات الصحفية وأطلقوا التصريحات المعادية لقوى المعارضة والمساندة للسلطة فى بعض الأحيان، ثم المنتقدة للسلطة نفسها فى أحيان أخرى، مع رفض هؤلاء للمسار السياسي الحالي برمته، من منطلق الاعتقاد أن الديمقراطية عملية كفرية وكل ما ينتج عنها من مؤسسات وقرارات وتشريعات مخالف للشريعة .
2 - إن محمد مرسي أصدر عفواً عن بعض هؤلاء خرجوا بمقتضاه من السجون، وبعضهم راح لينضم إلى الإرهابيين فى سيناء، وبعضهم أراد ذات يوم أن يقتحم مبنى وزارة الدفاع، لكن الجيش لقنهم درساً قاسياً .
3 - إن الإخوان يطلقون أحياناً تهديدات مبطنة إما باستخدام هؤلاء عصا غليظة ضد منافسيهم السياسيين أو باستعمالهم فزاعة للخارج طمعاً فى أن يناصر «الجماعة» فى مواجهة هذه التنظيمات الإرهابية وذلك الفكر التكفيري، ويؤمن بأن لها دوراً فى الدفاع عن المصالح الغربية. وهناك دوماً تلميحات إلى أن «الجماعة» قد يريحها دخول الجيش فى معارك استنزاف ضد السلفيين الجهاديين، بما يشغله عن متابعة ما يجرى فى الداخل، ويعطى الفرصة كاملة للإخوان أن يتمكنوا من مفاصل الدولة ويمسكوا برقاب الناس ويهندسوا العملية السياسية على مقاسهم غير عابئين بتردي الاقتصاد أو غياب الأمن، ثم يستديرون فيما بعد على الجيش بعد تغييبه أو تحييده أو إشغاله، ليؤخونوه أو يحولوه إلى مجرد سوط فى يد «الجماعة» يدافع عن سلطتها وثروتها .
4 - إن ما لا يمكن إنكاره أن كل هذه التنظيمات والتجمعات والجماعات المسيسة ذات الإسناد الإسلامى، العنيف منها والمؤمن بالمسار السلمى الطبيعى فى التغيير، خرجت من عباءة جماعة الإخوان، إما رغبة فى منافستها ومضاهاتها، أو تذمراً من مسلكها لا سيما بعد رميها بمداهنة السلطات المتعاقبة على مدار تاريخ مصر الحديث والمعاصر، أو سعياً إلى دفع ما يسمى «مشروع الإحياء الإسلامى» نحو طرق أقصر وأسرع إلى الهدف وهو حيازة السلطة .
5 - إن هناك نقاط التقاء وتقاطع فى التفكير بين هذه التنظيمات على غلوها وبين من يتحكمون الآن فى رقبة جماعة الإخوان نفسها، إذ يحتفي هؤلاء بأفكار سيد قطب التى ترمي المختلف معها بالجاهلية والكفر، وترفض التعددية السياسية، وتزعم أنها طرح لوجهة نظر الله فى الواقع المعيش حالياً .
6 - إن مراهنات السلطة على بعض فصائل السلفية الجهادية تعد مقامرة ثمنها فادح على أمن مصر ومستقبلها، لأنها ستفتح باباً، لا قِبل لنا به، للتدخل الخارجي فى شئون بلادنا، أكثر مما هو عليه، وبطريقة خشنة وليست ناعمة مثل ما هو الحال الآن. بل إن هذا الخطر سيمتد إلى من هم فى الحكم، فتجربة التعامل مع التكفيريين غير مأمونة العواقب، وقد ترتد إلى نحر من يتوهم أن بوسعه أن يستعمل هؤلاء مؤقتاً كأداة فى كسب الصراع على الكراسي .
محمد مرسي وباسم يوسف و(الإخوان) و(القاعدة)
أخبار متعلقة