التعاريف فيما يخص الدولة كثيرة ومتضاربة وهي لفلاسفة ومفكرين مرموقين ولكن أهمهم يرجعون إلى ما قبل عصر الدولة الحديثة. وتخفيفا على القارئ فقد سمحت لنفسي بالاجتهاد ووضعت تعريفا للدولة الحديثة وللسلطة فيها وهو كما يلي:
الدولة كيان جيوسياسي يحظى باعتراف منظومة الكيانات الجيوسياسية الأخرى.
وتتكون الدولة من شعب وإقليم ونظام دولة، وقد تكون دولة بسيطة مركزية أو دولة مركبة؛ فيدرالية أو كونفدرالية.
ويتكون شعب الدولة من أفراد منتمين إلى مجموعات اجتماعية طبيعية؛ كالأسرة والعشيرة والقبيلة، والى مجموعات اجتماعية عريقة كالطائفة، والى مجموعات اجتماعية وظيفية؛ كمنظمات المجتمع المدني المختلفة الإغراض، أو إلى مجموعات اقتصادية، أو إلى مجموعات حكومية عسكرية ومدنية.
ويتكون إقليم الدولة من الأرض اليابسة والمياه التي تسيطر عليها الدولة وما يعلوهما من جو وما تحتهما من أعماق تدخل في مدى وسائل السيطرة لديها ويحددها القانون الدولي.
ويتكون نظام الدولة من سلطة سياسية تنفيذية واحدة في الدولة البسيطة وسلطات متعددة في الدولة المركبة تدير وتوجه أجهزة عسكرية ومدنية متنوعة الاختصاصات والأغراض. وسلطة تشريعية وحيدة من غرفة أو غرفتين في الدولة البسيطة، ومتعددة في الدولة المركبة. وسلطة قضائية وحيدة مكونة من درجات واختصاصات قضائية متنوعة في الدولة البسيطة، وسلطات قضائية مماثلة متعددة في الدولة المركبة.
وتمتاز الدولة المركبة عن الدولة البسيطة بسلطة اتحادية (فيدرالية)، وسلطة تشريعية اتحادية تشرع القوانين التي تخص السلطات الاتحادية، ومحكمة عليا تلزم إحكامها الجميع في الدولة المركبة.
إن البحث في مفهوم الدولة هو في الواقع محاولة لإثارة تساؤلات متداخلة من قبيل ما يلي: مم تستمد الدولة شرعيتها وفيم تتحدد غاياتها؟ ما هي طبيعة السلطة السياسية التي تمارسها الدولة؟ هل السلطة التي تمارسها الدولة مستمدة من القانون أم من القوة والعنف؟ ولعل أفضل من أجاب على هذه الأسئلة في رأيي هو الفيلسوف باروخ سبينوزا.
ويؤكد سبينوزا أن غاية الدولة القصوى هي تحرير الأفراد، والحفاظ على أمنهم، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية، وحمايتهم من كل أشكال العنف والتسلط، وتنمية قدراتهم الجسدية والذهنية شريطة عدم إلحاق الضرر بالآخرين والامتثال لسلطة الدولة، وعدم الخروج عن التعاقد والمواثيق المتفق عليها. ويشترط في هذه الدولة أن تكون ديموقراطية تضمن العدل والمساواة والحرية للجميع وأن تحافظ على الأمن و السلم.
مشروعية الدولة وغاياتها:
يعتقد سبينوزا أن غاية الدولة تتمثل في ضمان الحماية للأفراد، وليس في ممارسة السلطة. بل إن على الدولة أن تضمن الشروط الموضوعية التي تمكنهم من استخدام عقولهم والعمل على تنميتها. ومن ثم يؤكد الفيلسوف أن الحرية هي الغاية الأساسية من وجود الدولة. إلا أن ذلك، لا يعني التصرف المطلق بطريقة فيها إيذاء للغير، خصوصا وأن من الناس من فطر على الخضوع للشهوة، ومن المعلوم أيضا أن الجميع ميال إلى الاعتقاد أنه دائما على صواب.
هكذا دعا سبينوزا إلى الاحتكام إلى العقل والابتعاد عن الحقد والغضب والخداع. ومن ثم، كان لابد أن يدرك الأفراد أن تقنين الحرية الفردية ضرورة حتمية وحصرها في حرية التفكير والتعبير وإصدار الأحكام، دون أن يكون في نية الفرد تغيير الأشياء لأن الدولة وحدها تملك سلطة اتخاذ القرار بالتغيير وتنفيذه.
وفي السياق الفكري نفسه تؤكد جاكلين روس (J. Russ) أن دولة الحق أصبحت واقعا معاشا، ولم تعد كيانا مجردا. فدولة الحق تتجلى في الممارسة المعقلنة للسلطة، وتسعى إلى توفير الحريات الفردية وبلورة الحريات العامة. لأن الدولة توجد لخدمة الفرد (وليس العكس)، لأنها تعتبره قيمة مؤسسة. فالدولة إذن تحتل مرتبة تالية للإنسان لأنه الغاية والمعيار الاسمى. وأن سلطة دولة الحق تتخذ ملامح ثلاثة : القانون، والحق، وفصل السلطات. فلا يمكن أن يوجد حق دون قانون عادل وصريح. كما أن إحقاق الحق مستحيل دون فصل السلطات؛ السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. انتهى كلام روس.
ومن الواضح أن القانون العادل واقع معاش في كثير من دول العالم، وان كثيرا من حقوق الإنسان قد توافقت عليها جميع دول العالم الأعضاء في الأمم المتحد بقبولها وتوقيعها على العهد الدولي لحقوق الإنسان الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من ميثاق الأمم المتحدة، وكذا على التشريعات والمواثيق المتتممة لهذا العهد والتي تراكمت على مر السنين. وان فصل السلطات أصبح علامة ثابتة في كل الدساتير الحديثة للدول المختلفة على الرغم من وجود المغالطات والالتفافات والتحايل.
الدولة والسلطة في بلادنا:
وفي مناسباتنا الوطنية وهي في معظمها ذكرى الانقلابات والثورات، يتحدث الخطباء ويكتب الكتاب والصحافيون والمؤرخون، وينشد الشعراء ويغني المغنون، تمجيدا للشعب الذي هب على الظلم والفساد، وقام بالثورة أو الانقلاب التصحيحي. والحال أن الشعب بريء من كل ذلك، بل ومن الانتفاضات القبلية أيضا، براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وإستثني من ذلك الثورات الشعبية ضد الاحتلال الأجنبي .
فالشعب اليمني بغالبيته الساحقة يعيش في قراه يمارس حياته في الزراعة والرعي. وكانت المدن حيث تتمركز السلطة الحاكمة إلى وقت قريب أشبه بالقرى الكبيرة ولا يسكن في أكبرها إلا آلاف قليلة يقدمون الخدمات للدولة وموظفيها باستثناء عدن بطبيعة الحال. والشعب في الريف منتظم في كياناته القبلية التي تحميه من عدوان القبائل الأخرى، وحتى سكان المدن كانوا بشكل أو آخر يحتمون بالقبائل المحيطة بهم بواسطة المعاهدات أو الأعراف التي تكفل لهم الحماية. وحتى عندما توسعت المدن ظل النازحون من الريف محتفظين بولاءاتهم القبلية .
ولأن أنظمة الدول والدويلات التي قامت في اليمن أنظمة متخلفة قامت على الجباية من المواطنين، واستخدمت كل وسائل القمع والبطش في الجباية، دون أن تلحظ على نفسها حقوقا للمواطنين تؤديها إليهم. فقد حدث انفصال نفسي بين المواطن والدولة. فالدولة في نظر المواطن ليست إلا تنظيما قويا أو عصابة لصوص قوية. وما موظفو الدولة وأركانها إلا أعضاء العصابة وزعماءها في نظره .وإذا استثنينا الجنوب تحت حكم الجبهة القومية والحزب الاشتراكي من الجباية، فما ذلك إلا لأن النظام جرد الجميع دفعة واحدة من كل ما تمكن جبايته، ومع ذلك بقي القمع والبطش، بل واللحس، أي القتل السري وكأنما ابتلع الإنسان فم كبير بلسان كلسان الحرباء يخفيه إلى الأبد، فجأة ودون سابق إنذار، فلا حس ولا خبر.
ولذلك فإن المواطن ينظر إلى قضايا الدولة وشؤونها باعتبارها شأنا لا يهمه إلا بقدر ما تتيحه له من فرص للنهب أثناء الصراعات التي تخوضها الدولة، أو للاستفادة من التجند في خدمتها، أو في ما تنزله به من شرور وأضرار على يد جباتها وعساكرها. ومن هنا كان فساد موظفي الدولة وأركانها ونهبهم للمال العام أمرا طبيعيا في نظر المواطن في الشمال، فقد كان النظام في الحنوب (والحق يقال) مبرأ من سرقة المال العام، فلابد أن يتقاسم اللصوص فيما جشموا أنفسهم مشقة سرقته ابتداء.
إن هذا المواطن الحريص على حقوقه إلى درجة أنه قد يقتل أخاه دفاعا عن حقه في شبر من الأرض أو دراهم معدودات، لا ينظر إلى المال العام وممتلكات الدولة إلا باعتبارها حقا مكتسبا لأعضاء العصابة اللصوص. وظل قصارى ما يأمله هو أن ينضم إلى العصابة (الدولة) لينال نصيبا من الغنائم .
وحتى بعد قيام ثورة سبتمبر التي وسعت قاعدة الدولة فوجد المواطن القبلي طريقه إليها، ظل محتفظا بنفس النظرة ذاتها إلى الدولة والمال العام. ولعل هذا ما يفسر هذا الانتشار الواسع للفساد الحكومي ولا مبالاة المواطنين في آن واحد .
ومن هنا يتضح أن إلصاق تهمة الثورة والانقلاب بالشعب ليست إلا تهمة بوسع أي محام مبتدئ تبرئة هذا الشعب منها لانعدام الحافز .وذلك حتى اندلعت الاحتجاجات الأخيرة في الجنوب في الحراك الجنوبي، في الشمال ضمن مسلسل الربيع القطري.
الثورات والانتفاضات والانقلابات :
عندما قامت ثورة 1948 وقام بها وزراء، وموظفون في الدولة، وضباط، ونفذها شيوخ قبائل، واعتبرها الشعب القبلي أمرا لا شأن له به. وعندما وجد المواطن فرصة للاستفادة من الصراع بالتجند مع الإمام أحمد ونهب صنعاء فعلها دون تردد، وكرر السلوك نفسه في عدن عام 1994 .
وعندما قامت ثورة 26 سبتمبر 1962 قام بها ضباط من الجيش، وشاركهم في التخطيط موظفون، وبعض الشيوخ، كادت الثورة أن تلقى مصير أختها ثورة 1948 لولا الدعم المصري الذي كان وراء قيام الثورة ابتداء. وقد تجند الشعب القبلي مع الجانبين الملكي والجمهوري واستفاد ماديا من الجانبين، إلا إذا وجد وظيفة دائمة مع الدولة (العصابة في رأيه) فانه كان يستقر في خدمتها .
وقد يبدو أن هذا لا ينطبق على بعض القبائل ومنها قبائل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر التي لم ترتزق من الجانب الملكي رغم أنه لم توفر لها وظيفة دائمة في ذلك الوقت مع الدولة الجمهورية!!.( أصبح جميع أفراد القبيلة موظفين فيما بعد)، إلا أن الشيخ الأحمر قد فسر لنا هذا التناقض في حديث له مع مجلة (الوسط) العدد (144) في 31/04/94، قائلا: (حاشد حمت الثورة والنظام الجمهوري. والدافع الوحيد لحاشد هو الثأر للوالد وحميد وإلا فإنهم كانوا سيتصرفون كالقبائل الأخرى).
فالثأر عامل حاسم في سيكولوجية القبيلة. وهنا تتضح سذاجة قادة الحزب الاشتراكي عند توقعوا أن تناصرهم قبائل بكيل في صراعهم ضد المؤتمر والإصلاح متناسين أنهم سبق وأن اغتالوا سبعين من كبار مشايخها الذين كانوا في ضيافتهم في الجنوب أوائل السبعينات .
الانقلابات في العهد الجمهوري :
كانت الانقلابات ضد السلال ثم ضد الإرياني ومن بعده الحمدي من تدبير وتنفيذ أركان النظام والدولة بالاشتراك مع شيوخ القبائل، الذين كان لهم دور في كل انقلاب، ومع ذلك احتفظوا برؤوسهم ومكانتهم، رغم أن شركاءهم من أركان الدولة أطاح بهم الانقلاب التالي. ولا ننسى ملاحظة أن كل الانقلابات حظيت بدعم خارجي. أما انقلابات الجنوب فقد كانت كلها صراعات على السلطة بين القادة الحزبيين ذات طابع قبلي متأدلج. وتتميز المحاولة الانقلابية الناصرية في الشمال بأنها لم تشرك شيوخ القبائل وان كانت من تدبير موظفين كبار في الدولة مدنيين وعسكريين بتمويل من ليبيا، ولعلها فشلت لغياب عنصر الشيوخ المهم .
وهناك تجربة الجبهة الوطنية التي رغم شعبيتها المفترضة وعظمة دوافعها وأهدافها لم تكن أكثر من غزو جنوبي لنظام الشمال انتهت بتوافق النظامين واتفاقهما.
الانتفاضات القبلية :
كانت الانتفاضات القبلية كلها من صنع شيوخ القبائل ولحسابهم الخاص ومنها انتفاضات شيوخ القبائل الاقيال ( كانوا أقيالا أما اليوم فهم فاسدون وعملاء) الذين يستمدون زعامتهم وقوتهم من ولاء قبائلهم وكان هدفهم في الشمال والجنوب هو الحصول على نفوذ اكبر في الدولة ونصيب اكبر في غنائمها . ومنهم في الأطراف من حاول بناء سلطنة مستقلة على غرار سلطنات الجنوب والخليج. ونوع آخر من الانتفاضات تمثلت في مشراكة الشيوخ الإقطاعيين من ألوية اب وتعز في الثورات، وهم صنف من الشيوخ يعامل قبيلته معاملة العبيد والاقنان، وهؤلاء يستمدون قوتهم من الدولة التي يشترون دعمها بالرشوة، وكانت انتفاضاتهم عبارة عن مشاركة في الثورات والانقلابات أملا في أنظمة حكم أقل وطأة عليهم في الجبايات، وكمثال على ذلك انعكست مشاركتهم في ثورتي 1948 و 1962 على ميثاقي الثورتين اللذين جعلا الزكاة أمانة. وقد أخفقت كل انتفاضات الشيوخ القبلية لأن الشعب كما أسلفت لا يعتبر هذه القضايا قضاياه فلا يبذل جهدا حقيقيا لنصرتها.
دور المجتمع المدني :
كان للمجتمع المدني في اليمن مساهمتان بارزتان: إحداهما للمجتمع المدني المتطور الذي نشأ في عدن في ظل الحكم البريطاني. فقد افرز هذا المجتمع المدني قيادات الجبهة القومية وجبهة التحرير، ورفع قضايا التحرر من الاستعمار والوحدة اليمنية شعارات ناضل من اجلها، ولكن تحقيق الاستقلال وتسلم الجبهة القومية للحكم قضى على المجتمع السياسي والمدني المستقل الممثل في الأحزاب والنقابات الحرة.
فالمجتمع المدني كالسمك والمناخ الديمقراطي كالماء بالنسبة له، وهو يختنق ويموت في ظل الديكتاتورية، وعلى أي حال كان هذا المجتمع سيلقى نفس المصير لو أن جبهة التحرير كانت هي من تسلم الحكم بدلا من الجبهة القومية فهي أيضا كانت تتخذ الحزب الواحد المصري الشمولي نموذجا لها.
والتجربة الثانية للمجتمع المدني كانت تجربة المقاومة الشعبية التي أسهمت في تثبيت الجمهورية والسلطة في ملحمة السبعين يوما، فكان جزاؤها من السلطة جزاء سنمار.
إذن فإن المجتمع المدني- وهو الشعب في ارقي مستويات وعيه وتنظيمه - قد ظهر في ماضي اليمن مرتين واثر في تاريخ البلاد تأثيرا خلاقا ومصيريا وتقدميا، حيث حمى الجمهورية في أحلك أوقاتها ورفع لواء التحرير والوحدة في الجنوب، وكان دوره حاسما في المرتين .
وقد ظهر هذا المجتمع المدني مرة أخرى بعد الوحدة. ولكن تداعيات ما بعد حرب 94 أخذت في السعي إلى الغائه من قبل المتنفذين .و لكن المجتمع المدني الذي كسب من الوحدة حرية التشكل والحركة، وعلى الرغم من العراقيل، كان العمود الفقري لثورة الحراك في الجنوب وثورة الربيع (القطري) في الشمال، وان افتقد في الحالتين القيادة العليا الممثلة والحاملة لأحلامه بصدق وإخلاص؛ فتسلطت عليه وركبته ديناصورات المتنفذين التي سامت الناس سوء العذاب طوال العقود الخمسة الماضية.
لقد وعى صالح منذ بداياته الحقيقة التي سردناها: وهي هيمنة شيوخ القبائل على الشعب في اليمن، وفهم أن إرضاء شيوخ القبائل وأركان النظام من كبار الموظفين عسكريين ومدنيين ومقاسمتهم مالية الدولة كفيلة بسلامته واستمرار حكمه.وهذا ما جعله يستمر كل هذه المدة. ولكن مغامرات صالح في سياساته الخارجية افقدته الدعم الخارجي المالي اللازم لسياسة الاسترضاء خاصة من دول الجوار التي غدت تهيئه للسقوط عن طريق تركه يغرق في أزماته بالامتناع عن مساعدته، أن لم يكن بالعمل الايجابي الهادف لإسقاطه.. ففي ظروف الأزمة الاقتصادية لم تعد مالية الدولة كافية لإرضاء الصف الذي يتزايد طوله من مبتزي الدولة، وهو ما يتم اليوم على حساب لقمة الشعب بكل معنى الكلمة. هذا الشعب الذي أفقدته سياسات عبده صالح حتى فرص الهجرة .
لقد كانت دولة الوحدة فرصة تاريخية للنظام (الجديد) لإقامة قاعدة مدنية واسعة من المجتمع المدني تقف وراءه لو تعايش الاشتراكي والمؤتمر. ولكنهما وقعا ضحية طبيعتهما وتكوينهما الشمولي فكان تبادلهما إطلاق النار في 1994 كمن يطلق النار على قدميه ليجعل نفسه عاجزا كسيحا، وقد كان تنافسهما على ولاء أجهزة الدولة سببا في ترك الحبل لها على الغارب فتضاعف الفساد .
واليوم نرى المؤتمر مشبعا بالقيادات القبلية بينما نجد أن حزب الإصلاح ثاني أكبر الأحزاب قد انتهج النهج الخلدوني في إقامة الدولة منذ يومه الأول القائل بالجمع بين العقيدة والفكر (الإخوان)، والعصبية القبلية حاشد والشيخ الأحمر، متبعا مثال دولة آل سعود.
ولقد كان المانع الوحيد من إقدام القيادات القبلية على الإمساك بالسلطة في الدولة المركزية في الشمال، هو وجود نظام راديكالي في الجنوب يسعى إلى بسط سيطرته على كامل البلاد،.و قد زال هذا المانع (لسخرية الأقدار) على يد المستفيد الأكبر من وجوده، ليجعل مستقبل البلاد مفتوحا على أسوأ الاحتمالات ومنها الصوملة. (هناك مانع جديد اليوم هم الحوثيون والحراك وهما حركتان تهمشان المشايخ بل وتناوئانهما في كثير من الأحيان).
إن حالة الانسداد التي بلغها حكم صالح جعلت حلفاءه عسكريين ومدنيين وشيوخ دين وشيوخ قبائل يتجهون للتآمر عليه كما بينته التجربة التاريخية التي سردناها. بينما كان هو يبحث عن المؤامرات في أحزاب المعارضة وصحفها وفي المجتمع المدني المسالم. وهي كلها أحزاب ومنظمات وصحف لا تقوى على تغيير رئيس قسم شرطة في حارة، ولا تزال، ولن يقوم نظام دولة حديثة إلا باتخاذها حليفا للدولة المدنية الديمقراطية التي لا يعيش المجتمع المدني إلا بوجودها وقوتها، الدولة التي اثبت المجتمع المدني في تجربتيه السابقتين انه اقدر الحلفاء على حمايتها ودعمها والانتصار لها إذا اعتمدت عليه ورعته، ثم ألم يكن عدد من رؤساء الأمن السياسي شركاء في كل انقلاب؟
وطريق آخر هو، أن تقوى قوى المجتمع المدني، القليلة العدد والضعيفة، على مواصلة الثورة وتجذيرها، بالتحالف مع القوة الحديثة الوحيدة ذات الشأن وهو الجيش، في إنشاء نظام الدولة المنشود، ولكن ذلك يبدو مستبعدا مع تشتتها وخضوعها للديناصورات، وإغفالها أمر الجيش والتحرك الفعال للتحالف مع قطاعات قوية منه وتدبير المؤامرات معها لتحقيق الأهداف كما يفعل الثوار الجادون.
ولكن عندما تهيمن الذهنية القبلية على النظام والمجتمع ويعم الفساد الجيش وقادته فإنه لا يمكن الركون إليه كله كوحدة واحدة. أولم يقتتل رفاق السلاح في الجيش (العقائدي) (المؤدلج) (المنضبط) في الجنوب في كل معسكر على أساس قبلي محض في يناير 1986 ليتركوا الدولة أشلاء ممزقة؟ ثم ألم يكن الجيش نفسه شريكا رئيسيا في الانقلابات على الأنظمة من وراء ظهر الشعب وفي غياب المجتمع المدني منجرا وراء قادته المتنفذين؟
واليوم وقد تم خلع صالح من منصبه كرئيس هل انتهى نظام صالح؟ كل شيء يقول انه لايزال حيا يرزق ولكن أكلح وجها وافسد ممارسة وأسوأ طوية.
الدولة والسلطة والثورات والانتفاضات
أخبار متعلقة