(( كتبت الارستقراطية الفرنسية والإنكليزية كثيرا من الأعمال الهجائية في ذم المجتمع البرجوازي مدفوعة إلى ذلك بحكم وضعيتها التاريخية.
وإذا كان انتقادها المر واللاذع يصيب البرجوازية أحيانـا في صميم قلبها، فإن عجزها المطلق عن فهم سير التاريخ الحديث كان يلبسها دومـا ثوبـا من السخافة والسخرية)) .
هذا الكلام كتبه كارل ماركس في القرن التاسع عشر الميلادي وهو يتناول بالنقد والتحليل بعض الاعمال الأدبية الرفيعة في عصره ، ومن بينها رواية ( مدينة الشمس ) للكاتب الايطالي تومازو كامبانلا ، ورواية جزيرة (طيور البنجوين) للكاتب الفرنسي أناتولي فرانس ورواية ( كونكاس بوربا ) للكاتب البرازيلي الخلاسي دواسس .
مدينة الشمس
مدينة الشمس، كانت الحل الذي بقي معلقـا في مدار الحلم الكبير الذي عاش من أجله الكاتب والمفكر الإيطالي توما زو كامبانلا في القرن السابع عشر. وفي هذه المدينة، وعلى خلاف العقد الاجتماعي الذي وضعه جون لوك بصدد تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بنى كامبانلا مجتمعـا لا يستعمل فيه السكان النقود، ويعملون بضع ساعات للعمل الاجتماعي، وبضع ساعات أخرى لإشباع وتطوير حاجاتهم وقابلياتهم الروحية. أما ثمار عملهم فإنـها تذهب إلى المخازن الاجتماعية التي يتسلمون منها كل ما هو ضروري لهم.
ولم تفت كامبانلا أهمية إدارة المجتمع لضمان قيادته وتنظيمه، حيث وضع على رأس هذه المدينة حاكمـا يتمتع بمعارف واسعة في مختلف العلوم. ولئن جاء هذا التصور على نحو ساذج وعفوي؛ إلا أنـه كان يعكس الإحساس بأهمية القيادة الواعية للعمليات الاجتماعية تحت تأثير الشعور بالإحباط، والتشاؤم والقلق الذي يحيط بحياة الناس في المجتمع البرجوازي، ويسحقهم في طاحونة المزاحمة والمضاربة وفوضى الإنتاج والبطالة وغيرها من الويلات الاقتصادية والاجتماعية.
عمدا حاول الروائي والمفكر الإيطالي كامبانلا ممارسة الحلم لكي ينتقد المجتمع البرجوازي، ويؤسس في عالمه الطوباوي الذهني التجريدي نظامـا اجتماعيـا بدون نقود، وبدون ملكية خاصة، وبدون آلام.. ولكن..!
جزيرة طيور البنجوين
ومرة أخرى، يرتعش الحلم تحت ضربات بؤس الواقع، ويظهر الكاتب الفرنسي أناتولي فرانس ليقدم رؤيا أخرى للخلاص، ويحاول استخدام النقد المتسائل، جاهدا في توظيف الروح المانوية المستخلصة من الفكر الديني بحثـا عن أجوبة لأسئلته المرهقة.
ففي كتاب «جزيرة طيور البنجوين» يصور أناتولي فرانس وبطريقة ساخرة نشأة المدينة والأيديولوجيا والعواطف والأخلاق في جزيرة هادئة تعيش عليها طيور البنجوين الجميلة، حيث توجه إليها أحد القساوسة للتبشير بالمسيحية، ويدعى «مائيل»، الذي قام - بوحي من الرب - بتعميد أسراب من الطيور وتحويلها إلى جماعات إنسانية. ومنذ ذلك الحين انسلخت هذه الطيور عن غرائزها الأليفة، وانتقلت إلى المدنيات البشرية وما بها من خير وشر.
ومع مرور الزمن، تدرك القس «مائيل» الشيخوخة، ويقرر الذهاب مرة أخرى إلى الجزيرة التي أدى فيها رسالته، وذلك للتعرف على ثمار مهمته المقدسة قبل أن يغادر الحياة ويصطحب «مائيل» هذه المرة أحد رجال الدين الشباب ويدعى «بللوك» حيث شاهدا سوية في الجزيرة جماعات من البشر، وقد ناءت ظهورهم بأحجار كبيرة يشتغلون بنقلها من مكان لآخر، فيما تتردد في جوانب أخرى من الجزيرة أصوات بكاء وصرخات استغاثة وشكاوى من قبل جماعات أخرى.
ويعلق القس الشيخ على ما شاهده بالقول إلى تلميذه الشاب «بللوك»:-
«»لقد زهدت نفوس سكان هذه الجزيرة في الحكمة التي كانت دستور معاملاتهم في الفصول التي يحلو فيها الغرام والعشق.. أما الآن فهم يتشاجرون طوال الوقت، ويتعاركون في الصيف والشتاء، فسقطت عنهم تلك الصبية الوادعة التي كانت تغلف حياة طيور البنجوين على ضفاف الأنهار.
ويواصل أناتولي فرانس على لسان القس الشيخ «مائيل» قوله:-
«انظر يا بني صوب الشمال، ها نحن نرى جماعة من الناس تتقاتل بالعصي والفؤوس والمعاول التي كان ينبغي أن يفلحوا بها الأرض.»
وعلى الفور يجيب القس الشاب «بللوك»:-
«إنـهم يفعلون ذلك خوفـا من المستقبل.. فالإنسان لا يتصور الحياة ممكنة بغير أن يستحل لنفسه امتلاك أي شيء، وهؤلاء الناس الذين يتقاتلون إنما يتبارون في امتلاك الأراضي، وكل فريق منهم يتهم الآخر بالسرقة والاغتصاب.»
وفجأة تتعالى في الأفق صرخات قوية يلتفت من جرائها القس العجوز وهو يلفظ أنفاسـا حرى ثم يقول مخاطبـا تلميذه الشاب:-
«ألا ترى يا بني هذا الرجل الغاضب الذي يقضم بأسنانه أنف غريمه المطروح على الأرض. وذلك المتهور الذي يهشم رأس امرأة بحجر كبير لينتزع منها طاسة الحليب التي تحملها.»
ويأتي الرد من بللوك: «إني أراهم يا أبتاه.. إنـهم يشرعون القانون، ويؤسسون الملكية ويركزون أعمدة المدينة ويوطدون أسس الدولة.»
وقبل أن يهم بللوك بمواصلة كلامه، يلتفت القسان إلى مشهد درامي حي، يبدو فيه عملاق ناصع البشرة، حاملا على كتفه جذع شجرة، ويقترب من رجل هزيل الجسم كان يسقي أرضـا مزروعة له تحت شواظ الشمس، ويطلب تسليم المزرعة والتنازل عنها، ثم يهوي بالجذع على رأس الرجل الهزيل ويسقطه ميتـا مضرجـا بدمه وعرقه.
وإزاء هذا المشهد المروع بكى القس العجوز «مائيل» وصلى للرب داعيـا بالانتقام للقتيل، مما أصابه من ظلم على يد قاتله غير أن «بللوك» انبرى قائلا:
«حذار يا أبتاه، فإن ما تدعوه ظلمـا إن هو في الواقع إلا «الحروب والفتوحات، وهي الأسس المقدسة للممالك، وأنت بتأنيبك العملاق الأبيض تهاجم الملكية في صميم أصولها ومبادئها. إن فلاحة الأرض شيء يا أبي، وامتلاك الأرض شيء آخر.. ولا ينبغي الخلط بينهما. فالقوة يا أبي الأقدس هي الأصل الوحيد والمجيد للملكية، وهي لذلك مقدسة ولا تضمحل إلا «أمام قوة أكبر.. فبارك يا أبتاه للسلطة الشرعية التي أسسها هذا العملاق على هذه الأرض، لأن كل سلطة من الله..»
ظل القس العجوز «مائيل» صامتـا، مضطرب الذهن إزاء مذهب تلميذه الشاب «بللوك».. وانسحب إلى شيخوخته محتفظـا بوعيه الديني الذي حاصرته الفجيعة، مفسحـا المجال لتلميذه الذي كان يوظف علوم الدين - التي تعلمها عن أستاذه - لكي يصوغ بها القانون المدني والنظام الحقوقي لمجتمع جزيرة «البنجوين».
لمن هذا الكوخ ؟
ومع مرور الزمن تنمو قيم المجتمع الرأسمالي، غير أنـها تصاب بالعقم والتشوه قبل أن تدركها الشيخوخة وتعجز عن التواصل مع المضمون الإنساني الذي ينبغي أن يسود حضارة هذا العصر.
هذا هو الكاتب البرازيلي «الخلاسي دواسس» يصرخ في وجه القيم والأخلاق البرجوازية التي تشوهت وأصبحت أشبه بهيكل براق لا روح فيه ولا حياة.
لقد انبهر الخلاسي دواسس في مطلع شبابه بالأفكار التي تمجد الملكية وتدعو إلى تقديسها أينما كانت وكيفما كانت.. ولكن..
ها هو «دواسس» يعيش فجيعته في موضع قصي من الكرة الأرضية، ويقترب من محنة الإنسان في عصره، حيث يقدم لنا في روايته الخالدة «كونكاس بوربا» صورة مأساوية لعقم القيم التي تتزيا بلبوس الحضارة والمدنية، وتغتالها في الصميم.
وتتلخص فجيعة هذا الكاتب البرازيلي من خلال مشهد تتمحور حوله وقائع وأحداث الرواية، حيث يمر أحد الحقوقيين الذين يدافعون عن أسس الملكية، وينشرون قيمها وتعاليمها، أمام كوخ يحترق، وقد جلست على مقربة منه امرأة عجوز تضم في أحضاها طفليها مع قليل من المتاع..
يسألها الحقوقي البرجوازي فيما إذا كان الكوخ الذي يحترق كوخها أم لا؟
وعندما حركت المرأة وجهها الشاحب مشيرة بالإيجاب، استأذنها لكي تسمح له بإشعال سيجارته من لهب أخشاب الكوخ المتهاوية، تعبيرا عن احترامه لملكيتها..
وماذا بعد؟
من الحق أن قراءة التاريخ ضرورية في سياق التطور الموضوعي للإبداع الفكري والأدبي، ولكن ذلك لا يكتمل بدون التسلح بالنظرة الانتقادية. وعندما تصبح قراءة التاريخ الأدبي ضربـا من الممارسة العاطفية ونوعـا من التشيع الوجداني المتسم بالنزعة الذاتية، فإننا نشوه قيم وجمال ذلك الموروث حين ننتزعه من زمنه الذي تشكل فية بوسائل متواضعة، إلى زمن أبعد مسافة عنه، وأكثر تقدمـا منه.
ولأن الروح النقدية لا تتعمق بدون الارتباط الوثيق بتفاعلات زمنها، وبدون الانتماء إلى عصرها، فإن تجاهل المنجزات الإبداعية والخبرات الكفاحية في مختلف مناحي نشاط الإنسان المادي والمعرفي في عصرنا الراهن لا يمكن أن يخلق ممارسة نقدية هادفة، وحلمـا واعدا.
وفي هذا الاتجاه، فإنه من الصعب أيضـا تصور فاعلية بعض الآراء النظرية التي يتم تداولها بصدد الإبداع والنقد في الفكر والأدب، التي تدعو إلى ما يسمى بكشف وتحليل عوالم النفس الإنسانية وتغيير قيم الإنسان من داخله، دون أن تتناول هذه الممارسة الإبداعية الانتقادية الإنسان بوصفه عضوا في جماعة، وكائنـا اجتماعيـا يعمل ويفكر ويحلم ويتمرد في إطار وعيه ووجوده الاجتماعيين، ويتجه إلى المستقبل بمقدار قدرته على معرفة القوانين التي تحرك واقعه الاجتماعي والسيطرة عليها.
من السهل أن يكتشف الإنسان ذاته في لحظة حب أو غضب أو حلم أو تأثر بتجربة إنسانية ما، ولكن اكتشاف الذات لا يصبح فعالا، ولا يكتمل بدون اكتشاف الموضوع بوصفه الطرف الآخر للمعادلة التي تتجسد في بيئة الإنسان الاجتماعية والقوانين المحركة لها.
ومن هذا المنطلق، فإن موقفنا من الإرهاصات الانتقادية التي حبلت بها الأزمنة السابقة، يجب أن يبتعد عن التشيع العاطفي لها، والانسلاخ عن المنجزات والخبرات الإبداعية في هذا العصر، حيث ينبغي ممارسة القراءة النقدية للتاريخ الفكري والأدبي، بما في ذلك تاريخ الأشخاص المبدعين والظروف التي أحاطت بحياتهم.
من نافل القول أن متغيرات كبيرة حدثت في عالمنا الواقعي منذ الزمن الذي ولدت فيه هذه الروائع الأدبية العالمية حتى اليوم ، حيث اعتادت البشرية في كل أصقاع الأرض على تداول الأعوام والعقود والقرون وصولا الى الألفية الثالثة التي استقبلناها قبل ثلاثة عشر عاما .
وهنا من حقنا أن نتساءل : ما الذي يخلق فينا الدهشة حين نودع عامـا أو عقدا أو قرنا لنستقبل آخر جديدا؟
هذا التساؤل ينبع من قوة المشاعر الإنسانية التي تحيط بعواطفنا وهمومنا وأحلامنا المتدفقة في غمرة التفاعلات الحية التي تعتمل في حياة الناس الاجتماعية.
وهذا التساؤل يرتبط عادة بجملة من عبارات «التهاني والتمنيات» التي يجرى تبادلها بين الناس، على نحو يعبر عن قلق التوحد بين الإنسان والزمن، ويجسد الشعور بضرورة التجاوز إلى المدى الذي يتيح للناس أكبر قدر من النشاط الواعي والهادف.
وحين نتساءل مع أنفسنا.. تكبر الدهشة.. وتقوى ضرورتها وتتجلى الخبرة الإنسانية في هموم وأشواق الإنسان إلى الحرية التي هي وعي الضرورة.. فيما يمد الوعي عنقه نحو الزمن الذي يأتي ويتحرك.
ومن خلال عبارات التهاني والتمنيات الإنسانية، يتعمق الشعور الواعي بأن حرية الإنسان ليست مستقلة عن مجمل الظروف التاريخية والقوانين المحركة للكون والمجتمع.. ويبقى الزمن متحركـا.. لكن حركته ليست هي الأخرى مستقلة عن هموم ونشاط الإنسان، فمادية الكون والعالم تكمن في الترابط الموضوعي بين جميع الظواهر والأشياء التي تعتمل في واقع الإنسان والمكان والزمان، وتتجلى في النشاط الواعي الذي يستهدف السيطرة على القوانين المحركة لها.
وهكذا، تأتي التمنيات لتصوغ موقفـا واعيـا إلى جانب قيم الحق والجمال والحب والسلام، ولتغدو وسيلة وعي أعمق للعالم، بهدف تغييره نحو الأفضل والأجمل. وتبدو التمنيات الطيبة مشحونة بالقلق والتصميم على تجاوز أوجاع الزمن الحاضر، إذ يتم تداولها في مثل هذه الظروف التي ينشر فيها مصاصو دماء الشعوب أشباح الموت الجماعي والفقر والخوف، ويحاولون اغتيال الحمام ومصادرة الأغاني وإيقاف عجلة التاريخ والعودة بها إلى الوراء.
حقـا أن تمنياتنا لا تخلو من الدهشة التي تجسد ضرورة الانتقال عبر لحظات التجدد إلى وجود أكثر اكتمالا، وإلى أحلام أعظم تحققـا.. ولأنـها كذلك فهي تصبح أسلوبـا تعبيريـا جماعيـا يتجه بالبشرية نحو القوى الخلاقة والكامنة فيها، ويستنهضها نحو آفاق التجدد والتجاوز والنماء.
وهي بهذا المعنى تصاغ على نحو فني وفكري يجعل من عباراتها الرقيقة امتدادا لحلم الإنسان نحو الغد الجميل الذي ينهزم فيه الظلام والخوف والاستلاب، وينتصر فيه الضوء والأمان والانتماء، ويصبح فيه الإنسان بطل العمل وأداة السلام. ولهذا السبب ستظل التمنيات الطيبة فنـارا للإلهام وتصورا واعيـا لآفاق التغيير.
ولئن كانت التمنيات الإنسانية تنساب بعفوية جماعية واعية في إطار الدهشة التي تحيط بالناس في لحظات التجدد عند مطلع كل عام وكل عقد من الزمان ، فإنـها تلتحم بالكون وتمتزج بقضية الإنسان، تلك القضية التي يمارس الناس من أجلها تمنياتهم، ويتعرضون على محاريبها لكل صنوف المعاناة، ويرفعون تحت لوائها بيارق العشق والحب والأحلام الجميلة التي يحاربها المنغلقون على أنماط حياة ونظم حكم قديمة ومتكلسة وجدوا عليها آباءهم الموغلين في قساوة البداوة وانغلاق الجاهلية.
في هذ الاتجاه، تستحيل التمنيات الطيبة لتشكل ضربـا من السفر إلى مدن الحب والجمال الفاضلة التي هام بها، وكافح وتعذب في الطريق إليها، رتل طويل من العظماء الذين أنجبتهم البشرية أمثال سقراط والخيام والمعري والحلاج وابن عربي وطاغور وماركس وإنجلز ولينين وغوركي ولوركا وناظم حكمت وبابلو نيرودا، وغيرهم من الذين صاغوا بخبراتهم وإبداعاتهم جدلية العلاقة بين الزمان والإنسان، حيث رفضوا العيش في اللاوعي واللازمان، وفضلوا الكفاح والعذاب والحلم كوسيلة يستشرف بها الإنسان مكانه في الزمان كدليل على انتسابه الواعي لعصره وانتمائه الواعي للإنسانية.. فاستحقوا الخلود بعد أن خلفوا للبشرية تراثـا كفاحيـا إبداعيـا يندمج فيه الحلم بالتغيير، وتتحد فيه التمنيات الطيبة بالنشاط الواعي والهادف.
وعلى هذا الطريق ستبقى تمنياتنا كل عام تجسيدا لوعي الضرورة وتصميمـا على السفر نحو العالم الأجمل.
تداول الأيام والأعوام
أخبار متعلقة