تستوقفني بعض التعابير الفنية والجمل الوصفية التي تحمل رنينا خاصاً، وإيحاء لافتاً،وربما موقفاً مهيباً، ومع تكرارها ومضغها كاللبان.. تصبح مملة حيناً، ومضحكة حيناً آخر: (نحن أمام لحظة تاريخية فارقة ).. سقطت علينا هذه الجملة أو التعبير الوصفي من أفق ماضي الفكر القومي والماركسي وأدبيات الحركات التحررية أيام الحرب البادرة منذ خمسينيات القرن العشرين حتى الآن، ولعل سكان جنوبنا العزيز يتذكرون حكاية طريفة حصلت في ضالع م/ لحج في ثمانينيات القرن العشرين، ومختصرها أن ليس هناك طرق للسيارات إلى المرتفعات الجبلية والهضابية فكان صاحب حمار يترزق من نقل المؤن إلى المنازل القابعة في قمم الجبال إلى أن قامت سلطة الحزب بشق طريق صخري غير مسفلت.. المهم يفسح للسيارات بالصعود فأقيم مهرجان كبير بهذا الحدث قال فيه كبير المسؤولين: إن شق هذا الطريق لحظة تاريخية، وضربة في مؤخرة الإمبريالية العالمية. فقال صاحب الحمار ساخراً لمن حوله: لا والله ضربة في جحر حماري.
يزعجوننا من نومنا غير المكتمل بسبب جرح الكهرباء غير المندمل ليصرخ المسؤولون في وجوهنا بلهجة الشعارات الثورية وشطحات الزعامة الفردية.. نحن أمام لحظة تاريخية.. وعندما تتفرس في ملامح المتحدث وبعض الجالسين بجانبه.. تنتابك السخرية والرثاء لا لنفسك الصابرة.. بل لغبائهم كونهم صدقوا أنفسهم.
شق طريق صخري فرعي، أو مشروع مياه محدود لثلاث قرى، أو إضافة أربعة صفوف لمدرسة قديمة.. احتفالات وتهاليل وخطب، وتأكيد على أنها (لحظة تاريخية)، وتلتهب الأكف بالتصفيق الحاد، وتشرع كاميرات النفاق في اصطياد بعض من ملامح أريحية المتواجدين، ورضاهم الصادق العفوي او المفتعل مع أن هذه الخدمات.. واجبة من الدولة، ولا تدخل في كهوف اللحظة التاريخية.
كم ابتذلنا الكلمات الموحية الشفيفة، والتعابير الأنيقة والجميلة، والتراكيب اللفظية اللطيفة لكثرة استخدامها في غير مواضعها؟! وأصبحت أو كادت.. تفرغ من مدلولاتها الإيحائية، وإلماحاتها الإيجابية.
واللحظة التاريخية.. مصطلح اجتماعي ذو دلالة سياسية، أو قول جميل ومؤثر.. يقال أو يطلق على حدث كبير جلل، أو مهمة جسيمة وخطيرة، أو قفزة حضارية عظيمة أو على أية تداعيات تحول تاريخي مفصلي يتجاوز المحلي والوطني إلى الإقليمي أو القاري أو العالمي باستباق متمكن نحو آفاق جديدة غير مرتادة.
الشعب أصابه القرف من حرب المصطلحات، ونهشته أنياب الملل من المماحكات المزعجة المربكة التي لا تدل إلا على نفسيات مريضة.. تقدم للأعداء في الداخل والخارج فرحاً كبيراً وسعادة غامرة بالتنازلات المتواصلة، والمواطن المسكين هو الذي يدفع وسيدفع ثمن حماقاتهم النتنة، وعبثهم الدموي، واصطداماتهم السخيفة.
صدق الرائي البردوني عندما قال: ( إن في اليمن جهلاً، ولكنه جهل مسلح )، جهل مركب أحمق، والحمق داء وبيل والتعافي منه يحتاج وقتاً طويلاً، وإدارة قوية، وقد قال الشاعر القديم :
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
لقطات
-- غزت عقولنا ثقافة الحمق المعلب فصرنا نستهلك، في اليوم الواحد، أكبر قدر من سعرات وسعار الشعارات أكثر من ليترات الماء، وبروتينات الغذاء.
في اللحظة الحاضرة وفي الغالب الأعم ارتبطت اللحظة أو اللحظات التاريخية بتفتيت وتفكيك الكيانات العربية، وتجذير المكونات الهلامية التجزيئية، والمسيرات الجنائزية اليومية الباكية.
-- نستمرئ الترديد الببغاوي والإصغاء المتناهي لتفاهات الحكاوي، وتسويق التبريرات للبلاوي، حقاً إنها لحظات تاريخية فارقة .. بسببها البطون أصبحت فارغة.
-- بعد أن لمحت فرحة جاري «التهامي» ببقرته التي كان يتعجل وضعها وولدت له عجلاً صغيراً فابتهج وقال لنا: هذه لحظة تاريخية بالنسبة لي .. ها أنا أقول: يا كاتب التاريخ، سجل بكل توضيح أن كتابتي هذه المقالة عن اللحظة التاريخية هي لحظة تاريخية بحد ذاتها، وما فيش حد أحسن من حد.
-- اللحظة التاريخية أضحت تعبيراً مملاً ومستكرها.. كثرة استخدامه أفرغته من مضمونه الباعث على التفاؤل.
آخر الكلام
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
- أبو العلاء المعري -
بقرة جاري..واللحظة الفاصلة
أخبار متعلقة