نجمي عبدالمجيد لم يكن الروائي الدكتور عبدالرحمن منيف يهدف من خلال نصه الإبداعي، رواية (الآن ... هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى) إلى رصد جوانب من تاريخ وحياة التعذيب والسجون في الوطن العربي. فهو بقدر ما يذهب إلى ذلك الجانب من ماهو مسكوت عنه في الحياة، يقرأ عبر رؤيته بعدم استمرار أو هام الحكم المطلق وسلطة القمع، وكأنه أدرك حتمية الانهيار المرتقب لهذا النوع من أشكال الدولة القمعية، والتي ظلت لعقود في الشرق تحكم عبر العنف ومصادرة الآخر. ولعل المسافة الزمنية ما بين ظهور هذه الرواية وطوفان الربيع العربي يجعلنا نكتشف، أن الكاتب قد قدم في عمق أفكاره درجات متعالية من الإحساس بوجع الإنسانية تجاه هذا القهر الذي لا يحمي الحكم، فكانت هبة الشعوب التي أسقطت مراكز سلطوية تضع مقدرتها في دائرة التأصيل المطلق في هذا الجانب من قراءة تاريخ المنطقة، يأتي دور الأدب في رصد تحركات الأحداث وكأن عبدالرحمن منيف يحدد زمناً أوشك على التراجع، فالقوة مهما طال زمنها لا تمتلك الحق الأبدي في الاستمرار وتلك هي مراحل الشعوب والمجتمعات والسلطات وكل عملية قمع تمارسها الدولة تجاه الفرد لا تخلق إلا مساحات من التصدع في داخل الحكم نفسه، وتلك هي الغفلة التي تسقط بها السلطات العسكرية التي تظن أن قهر الشعوب هو الطريق الوحيد لبقاء الحكم. هذه الرواية لا تقف عند حدود القراءة السياسية لحالة المنطقة لسنوات مضت من القرن الماضي. ولكنها ترسل لنا خطابات علينا إدراكها حول نوعية بين الحكم والشعب ومفاهيم الحرية والديمقراطية بينهما، أما حكم التعذيب والسجون وقوة السلاح فقد وصل إلى أقصى درجات التأزم مع ذاته، فهو لم ينتج سوى أوطان قابلة للانفجار، وهذا ما جرى بعد عقود من عقلية الانفراد والإقصاء، فلم تكن هذه الرواية مجرد رحلة إلى عمق الجسد الذي ضرب وتعذب في سجن الدولة، بل هي حالة كشف لدرجة العجز الذي يصيب الحكم المطلق فلا يجد من حل غير كسر روح الإنسان من خلال هذا الفعل.إن الذاكرة الإنسانية في بعض الأوقات تصاب بفقدان الرؤية تجاه أشياء تجري في الحياة مجرى المعتاد، ولعل فاجعة النفس أن يجد الفرد ذاته وقد تهادنت مع القهر والموت وكأن السكوت هو حدود السلامة من ذاك المنفى المرعب، السجن السياسي، مكان يصنع فيه كل العذاب حالات من التدمير للجسد والروح، ذلك الموقع القصي بالرغم من وجوده على خارطة الوطن، لكنه بعيد ويجب البعد عنه وتلك مفترق الطرق ما بين الذهاب إلى اتجاه السكوت والسير في طريق الاستسلام، أو الخروج عن السلطة فيكون ذلك المعتقل البديل عن الوطن، وتلك وضعية تربت عليها أجيال في الشرق حتى تراكم في الوعي مشهد من السواد الحاجب للرؤية، فالحرية تعني المواجهة، وهي مع النفس قبل تصارعها مع السلطة وهو ما خلق الرقيب الداخلي عند كل فرد يسير في الشارع والمنزل والعمل وغيرها من أماكن الحياة، وكأن السجن قد أصبح ظاهرة اجتماعية. وعندما تصبح الحياة اليومية مجرد هامش يمر به الإنسان، تصبح حالة مساكنة الرعب من الأحوال المعتادة، فهذه الذاكرة - الوعي وقد أصابها كل هذا التصدع إلى حد المحو الكامل بالشعور بالوجع وإغلاق الروح عن سمع أنين الجرح، وهنا يبدأ تاريخ آخر من الموت والقهر، سقوط دون سماع صدى التكسر عند الوقوع، ولكن من يدرك حجم الفاجعة في دمار الفرد. لقد إدراك عبدالرحمن منيف، أن المساحة بين الوعي والقهر كثيراً ما تسقط في مجتمعاتنا في دائرة الصراع، فالوعي أمام الكسر يصبح مثل الشلل العاجز عن الاندفاع نحو أي اتجاه. وحتى الخروج من السجن يجعل الجسد في القهر الدائم، فالوجع هنا ليس جراح التعذيب المرسومة على الجلد، بل المرارة من غفلة المجتمع عن كل هذا السحق لإنسانية الفرد، فهو وأن حمل راية التحدي من اجل الغير يجد نفسه وحيداً بعد كل هذه المعاناة باحثاً عن منفى يذهب إليه لعلاج أو هروباً من لحظات اعتقال قادمة ربما تصبح الفاصلة بين الحياة والموت، وعندها تكتشف حقيقة أكذوبة الوطن وزيف الحرية، لأن المسافات قد حددت من قبل من يحكم، فالحصار هو السجن الأكبر في هذه الأرض (الوطن) أما مكان التعذيب فهو خلاصة القمع حيث ترتفع درجات الصراخ والأنين ولكنها لا تقفز خارج أسوار هذا المكان، وتصبح مثل محاولات الخروج من القبر لمن دفن حياً. والموت بفعل القهر السياسي عند عبدالرحمن منيف وأن انطلق من ظلم الفرد فهو رمز لحالة مجتمع بحالة ووضع الإنسان فيه، فالإنسان المقهور هو جمع وليس مفرداً، ومن خلاله تتجلى صور الحياة في هذا المكان، تراكم من الذل والاستخفاف والركون وتصاعد لقوة السلطة إلى حد سحق ابسط حق يطلبه المواطن، وكلما فتش الفرد عن علامات التعذيب في جسده ومسارات الألم يدرك أن طريق الحرية ربما تطول مسافاتها طالما ظل المجتمع - العامة في تهاون مع سلطة القهر، فهذا الجبروت لا يتضخم إلا في المناطق الداخلة في حالة صوت بين عصب الإحساس ومكان الوجع، وربما تصبح عمليات القطع في الأماكن جزءاً من الموت الساري في كيان الأمة. عندما تصبح الكتابة ضمير الأمة يدرك الكاتب أنه أمام مواجهة مع أكثر من طرف، وأول بداياتها مع الذات، أن تكتب هذا يعني أمانة تاريخية عليه تقديمها للرأي العام، عملية كشف عن ماهو مسكوت عنه في تلك الزوايا المظلمة من زمن الجريمة. يقول بطل الرواية: في لحظات كثيرة افترضت أن الغاية أو النتيجة المؤكدة لهذا الضرب أن أموت. لقد بلغت أكثر من مرة حدود الموت، فخلال فترة تزيد على الساعة بدالى أن الموت ليس احتمالاً وإنما حالة أعيشها، خاصة وأن طريقتهم، الأماكن التي يتخيرونها، الشدة والسرعة في الضرب، الحماس الذي يزيد ويتعالى مع مرور الوقت، جعلني على يقين أن الأمر يتجاوز التعذيب، وأن الهدف أن أموت بين أيديهم). حالة التعذيب هنا لا تهدف إلى العقاب بل إلى سحق الفرد حتى التدمير الكامل والدخول في دائرة الموت هو الوصول إلى الإلغاء المطلق لذاتية الإنسان. هي سلطة القهر التي تمارس قوتها على ذلك المتمرد الخارج عن طاعة الدولة، وهو في مفرده قد يصبح الخطوة الأولى نحو توسع دائرة الرفض والخنوع، لذلك تسرع قوة السلطة إلى ضرب هذا المنفرد، ولكن الحالة ربما لا تكون فرداً بل أكثر لذلك يصبح السجن امتداداً لهذا القمع والذي يبدأ من لحظة الاعتقال بعد منتصف الليل وكأن الليل رمز لظلام السجن وغرفه الغارقة بالعفن وبرودة جدرانه التي تخزن من أوجاع الضرب، وأرضه المتساقطة عليها قطرات الدماء بفعل هذا الضرب والذي يتحول مثل رقصات عبدة الشيطان، تلك شهوة الدم المنسكب على أرضية لا قلب لها، فهي مثل شكل الجريمة الصامتة في هذا المكان، عندما تنسحب آخر الأنفاس من الجسد تكون المهمة قد أديت حسب تعاليم الجلاد ووصل التأديب إلى أقصى حالات الصمت الكامل لهذا الجسد ويصبح المعتقل السياسي من مجرد سجين إلى جثة تدفن سراً بعد منتصف الليل في قبر مجهول بين الجبال أو صحراء وربما تلقى في البحر أو تترك لكلاب تلك الأماكن البعيدة عن عيون الناس، ويتحول الفرد من كائن إلى حالة مجهولة في عالم الفناء. ولكن وربما من كل هذا الوجع في قلب الإنسان العربي لم تنتج فترات القمع حتمية استمرار الحكم المطلق. فالرهان على البقاء الدائم كشفت عنه الحقائق بأنه مرض ووهم تعاني منه السلطة، فهذا الإرهاب السياسي وبقدر ما كسر من مقدرة الإرادة، فهو مثل حال كل الأنظمة التي لم تتعلم من تجارب التاريخ، بأن قوة القهر لا تصنع ركائز الحكم المطلق، بل هي من أسباب سقوطه عند منعطفات من الأوقات يصل فيها إلى مستويات من التفسخ الذي يأكل في جسد الدولة من كل الاتجاهات. وهنا تطرح علينا هذه الرواية قراءة من منظور آخر، فهي بقدر ما تفضح جوانب من القهر السياسي، فهي تؤكد عبر إزاحة فواصل المنع، بأن جروح الجسد لا تظل حبيسة مواقع من مزق شكلها الآدمي، بل هي تخرج للعالم حاملة معها صوت الوجع للضمير الإنساني، فالسجن وعبر حقب التعذيب لم يعد للمفرد أو الجمع بل أصبح معتقلاً دخله الوطن والشعب، وذلك ما يقرب لحظات الانفجار الذي ينسف كل وسائل الخراب النفسي ويسقط تحته سيادة الحكم المطلق وعبادة الفرد. يقول الأستاذ سعد الله ونوس عن هذه الرواية: (حين فرغت من رواية عبدالرحمن منيف الجديدة، وأحسست حلقي جافاً، وغمرني شعور ذاهل بالعار. كيف نعيش حياتنا اليومية، ونحن نساكن هذا الرعب الذي يتربص بنا هنا .. والآن أي صملاخ بليد يحجب عن أسماعنا الصراخ والأنين، كي نواصل نومنا كل ليلة ! أية ذاكرة مثقوبة تلك التي تتيح لنا أن نتناسى الآلاف الذين يهترئون في السجون هنا... والآن ! هذا عار يكاد يلامس التواطؤ من خوفنا، وغفلتنا، وصمتنا يغزل الجلاد سياطه ومن خوفنا وغفلتنا، وصمتنا تغص بنا السجون، وتغدو الحياة هنا والآن كابوساً من الجنون والرعب. إن رواية عبدالرحمن منيف تمزق الصمت، وتعلن الفضيحة. هذه الأوطان- السجون فضيحة، وهؤلاء المواطنون - المساجين فضيحة، وهذا التاريخ الشرق أوسطي معتقل يستنقع في الفضيحة. ورغم أن الرواية تلاحق هذه الفضيحة بتنوعاتها الفطرية وتعدد مستوياتها، فإنها تتعمد أن تظل قولاً ناقصاً، قولاً لا يكتمل إلا إذا أضاف القارئ عليه موقفاً أو فعلاً وبين التعرية والتحريض، وبين النمنمة الغنية والوعي التاريخي، يبني عبد الرحمن منيف رواية ـ شهادة، لن نستطيع الاستغناء عنها إذا أردنا أن نعرف الـ الآن.. وهنا، وإذا أردنا أن نغير الـ هنا، والآن أيضا).وبعد تغيرات عديدة وهامة جرت في المشهد العربي، هل غاب صوت الآنين في السجون العربية؟.ذلك أحد الأسئلة الذي يتحول إلى وعي بمعنى التغيير، فهذه الرواية سوف تظل لعقود عديدة قراءة لنوعية العلاقة بين الحرية والقمع، بين الحكم المطلق وكرامة الفرد، وبها ارتقى الدكتور عبد الرحمن منيف إلى مستوى الضمير والشهادة على عصر من الجرائم والإقصاء والتفرد بالحكم، وكلما أعادت هذه المجتمعات إلى إنتاج أزماتها، سوف تظل رواية (الآن.. هنا) حالة مواجهة مع المجتمع والتاريخ، وكأن قدر الإنسان في شرق المتوسط أما السكون أو التمرد، ولكن سلطة القمع لا تملك مقدرة التأصيل في الحياة.
|
ثقافة
رواية عبدالرحمن منيف (الآن ... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى) سقوط أوهام الحكم المطلق
أخبار متعلقة