الفن التشكيلي اليمني يبحث عن مستقبل آخر غير الثمانينات
كتبت / د. آمنة النصيري إن تاريخ الفن قد شهد الكثير من التحولات التي مكنت من ولادة الأساليب الفنية العظيمة والنظريات ، وهذا التاريخ على امتداده يوضح اليوم صعوبة دراسة تجربة فنية أو حركة أو ظاهرة، مستقلة عن بقية الظواهر والحركات سواء السابقة عليها أو المعاصرة لها، بل ويصعب أيضا التنبؤ بمستقبل الفن في بلد ما بمعزل عن السياق الاجتماعي- الاقتصادي الثقافي.. إلخ. لذا فإن الدخول في تجربة التشكيل اليمني وملاحقة إيقاعاتها بحثاً عن إشارات قد تفصح عن طبيعة الممارسة التشكيلية المتوقعة في العقود القادمة، يتطلب الانفتاح أولا على توجهات ومنهجيات الفنون المعاصرة.. على اعتبار أن التشكيل اليمني في معظمه امتداد للنتاج البصري العالمي الراهن، ومن ثم يمكن أن نتوقف بعدها عند الفن المحلي بصورة محددة لاستيضاح ما إذا كان سيمضي ضمن الانساق المتوقعة لمثيلاته في الأقطار الأخرى أو أن مساراته ليست موجهة من قبل حركات وزنية خارجية تحظى بالمركزية وبالتأثير، وأن لديه- أي الفن المحلي- ظروفاً ومحددات ربما تعطي مؤشرات مختلفة. وفقاً لما نشر بمجلة مصر المحروسة المصرية الانتقادات الكبيرة المتغايرة التي شهدتها فنون التشكيل منذ البدايات الأولى حتى اليوم تكشف عن عملية تطور الفنون والآلية التي تحكم هذه العملية .. والتي يحدث بواسطتها طمس لبعض القيم والأساليب والإبقاء والتأكيد على البعض الآخر.. مع إمكانية التحوير فيه أو دمجه بالقيم الفنية الجديدة، هكذا كان تطور كل مرحلة فنية يستدعي أن نبذل ملامح من المرحلة السابقة، فجاءت الواقعية لتتخلص من عدد من السمات في الكلاسيكية ثم ألغت المدرسة الانطباعية الكثير من ملامح الفن الواقعي، وقدمت التكعيبية لتستبعد المعايير التقليدية في الرؤية، وتتبدل علاقة العين بالمادة.. هكذا اقتضت شروط التطور شكلاً من التضحية بجزء من التركة لإمكانية إحلال الجديد في الوقت ذاته يوضح التاريخ الفني كيف سارت الفنون الحديثة نحو التجريد والاختزال لتحقيق مبدأ البساطة في الشكل، وتكريس فن الفكرة.. الذي غالى في تهميش الصورة .. ونافس اتجاهات التجريد، وإلى جانبهما توالدت التيارات الحديثة المشغولة بالتجريب وبالتنويع التقني الباحثة عن أدائيات أكثر حرية للعمل الفني. يرى (توماس مونرو) بأن الشروط الخارجية كانت عاملا جوهريا في وصول الفنون التشكيلية إلى أنساقها المعاصرة، حيث يؤكد أن طبيعة المجتمعات الحديثة قد خلقت فنونها. فالضجيج والفوضى والزحام والعمل المضني في الخارج ، يتطلب جوا هادئا بالغ البساطة، يحتاج الإنسان أن يأوي إليه وهو يبرر الشكل الجمالي لغالبية المنازل الأوروبية التي حتى عندما تتجمل لا تستوعب غير قطع فنية محدودة ذات شروط تتسق مع المكان- الحيز، بينما تستبعد الأعمال الفنية ذات البناء المعقد من عالمه المحيط، دون أن يقطع علاقته بها كلية.. فهو قد يزور المعارض التشكيلية ويحضر حفلات سواء أوبرا أو باليه ويستمع إلى سيمفونيات.. الخ، إنما في حياته اليومية العادية سيفضل البسيط الخالي من التعقيد ومن التفاصيل في كل الفنون (فهناك ضغط مستمر على الرجل الذي ليس من أرباب الفن، يدفعه إلى أن يقصر متعه الجمالية على أشكال بسيطة سهلة، يستطيع تلقيها واستيعابها وسط نشاطات أخرى شأنها شأن الشطائر التي يتناولها الإنسان في مطاعم الخدمة السريعة). وكما نلاحظ فإن الخارج دخل بكل اشتراطاته إلى صميم الفن، وكان قد مكن رئيس في الذائقة ولم يقتصر تأثيره على المتلقي فحسب.. بل وفي المبدع - المنتج.. الذي لم يقدر على الخلاص من هذا المؤثر كونه احتل حيزا من شخصيته، وبالتالي هويته وذاته الفنية.. هذه الأخيرة التي غالبا تتشكل من مقومات كثيرة ومن بين تلك المقومات بطبيعة الحال ثقافة وفكر العصر. وهو ما لا يعني أن فردية الفنان والتجربة بما فيهما من تمرد وثورات وتجاوز للزمان .. يظلان غير معزولتين تماما عن المؤثرات المشار إليها .. فالفنان ذات قد ترى ما لا يراه المجموع، ولذا تصر على الخروج من السرب وطرح رؤية قد تسبق زمنها.. إلا أنه من جهة أخرى يعيش في العالم.. ويتأثر به بدءاً من عالمه الصغير وانتهاءً بالمعنى الأوسع للكلمة، ولذا تترك معايشته مع الخارج أثرا قويا على تصوراته الفكرية - الجمالية ، ومن ثم على نصوصه وأشكاله. إن الاسترسال هنا في تبرير منطق التحولات الذهنية والجمالية والفنية لدى الآخر هو بغرض توضيح صيرورة التحول والتطور في صورة الفن ثم العودة إلى الداخل- البيئة المحلية - حيث لا بد من أن أسئلة كثيرة ستتوارد أهمها مثل: هل منتج الفن قد عايش الظروف ذاتها أو حتى ظروفٍا مشابهة لتلك التي ذكرناها بالنسبة للفنان الغربي؟! وهل يمكن للفنان أن ينجح في التواصل مع عموم حركة الفن عالمياً.. وهو معزول إلى حد كبير عن عملية التواصل أساسا.. إلا من وسائل محدودة - مفترضاً أنه امتداد لثقافة وللثقافة الإنسانية عامة؟! وما مدى نجاح الفن في تجاوز الإشكالات المجتمعية والاقتصادية .. وإنتاج نصوص لا تصغي إلا للشروط الإنسانية الإبداعية .. وهل توجد مؤشرات تدل على تشكل حركات فعالة محليا في مجالات إبداعية متنوعة داخل الثقافة اليمنية؟! أم أن الواقع لا يحتمل سوى تجارب فردية تمكنت من الإنتاج والتجدد وتجاوز محدودية نشاطها مكانياً.. بسبب عوامل فردية أيضا ساعدتها على أن تكون على ما هي عليه. أما الإجابة على معظم هذه الأسئلة فإنها مستمدة من السمات المتمثلة في المنتوج التشكيلي المحلي.. فمنذ الثمانينات- وهي سنوات ظهور النشاط التشكيلي بصورة حيوية - حتى السنوات الأخيرة الحالية لم تطرأ على التشكيل انتقالات ذات أهمية إذ أن المتغيرات والتطورات في عموم الفن اليمني لا تتعدى هامشاً محدوداً .. قياسا إلى الفترة الزمنية التي كانت بدأت تخطو نحو خلق حركة واضحة الملامح.. إلا أن الأمر توقف عند تلك السنوات بل والانتماء. فقد كادت السنوات الأخيرة تفتقد إلى تجارب تتمتع بقدر من الخصوصية، باستثناء عدد محدود للغاية من التشكيليين الشباب الذين تحمل أعمالهم ملامح خاصة يمكن أن تميزها عن سيل اللوحات المتشابهة للفنانين (الشباب) من دارسين وهواة. وهؤلاء الأخيرون يتكئون على علاقة صرفة بالواقع لعدة أسباب لعل أهمها يتمثل في أن اعتماد النقل الحرفي من البيئة يسهل عليهم مآزق ولوج التيارات الحديثة التي تقتضي الكثير من الدراسة والاشتغال الذهني والتجريب.. وفي المقابل قد يجد البعض منهم أنه يتواجد في محيط يسهل تكريس هذا التوجه، حيث تفتح السوق ذراعيها للمباشرة والتعبيري والتسجيلي من الأعمال .. ويتجاوب الجمهور الذي تغلب عليه الأمية الفنية مع أمية الفنان الفار من تبعات وأعباء البحث. كما أن اتساع مساحة الجهل.. وغياب المعايير الفنية حتى في وسائل الإعلام التي تضع الفن المتدني في مصاف التجارب الجادة.. نتيجة غياب النقد والصحافة المتخصصة في مثل هذه المجالات سبباً آخر يساهم في تعميق الظاهرة ..اللافت للانتباه في هذه السنوات نشوء أقسام وكليات للفنون البصرية.. وهو ما يضع أكثر من سؤال حول دور المؤسسة الأكاديمية الناشئة في إعداد جيل أو أجيال جديدة من الفنانين.. إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن تلك المؤسسات بالمستوى الذي نراها تقدمه تعاني من إشكالات تجربة التعليم في اليمن .. حيث إن مستوى الأداء الأكاديمي المتدني نتيجة غياب الإمكانات المادية وتدني مستوى الكادر التعليمي ذاته .. ينعكس كلية على الخريجين الذين يحصل غالبيتهم على الشهادات ولم يحصل بعد على المبادئ الأولى في الرسم والتصوير أو حتى في الجوانب المصرفية.. وكثير من هؤلاء يفاجؤون بعد الدراسة بأنهم يبدؤون مرة أخرى، فإما أن يعتمدوا الدراسة الذاتية ومحاولة التغلب على الضعف ونقص الخبرة بالجهد والبحث المغنيين، وإما يبقى خيار التصالح مع المجتمع .. والنزول إلى الجماهير العريضة بمنتج فني تضع هي شروطه ومعاييره وليس الفنان فتقترب اللوحات من الأعمال الشعبية الفطرية وتتراجع أطروحات الفن الحديث وفلسفات التجديد والجماليات المعاصرة تماماً عن هذا النمط .. ولذا يصعب أن يفتح نتاج كهذا أفقا لمستقبل التجربة. إن التشكيل اليمني الآن ما زال يتمثل من تبقى من الجيل الثمانيني، وعدد قليل من الشباب الذين تفلتوا من سلطة الوعي السائد، والعلاقات المسطحة مع الفن ومع الواقع . لكن إن ظلت التجارب المتفردة تدور في هذه المجموعة الضيقة.. واستمر الإيقاع البطيء ذاته في حركة الثقافة المحلية وبقيت الإشكالات نفسها تتكرر في كل عقد زمني كيف نتوقع مستقبلاً مغايراً للفن التشكيلي اليمني ؟!! .إن مستقبل الفن القادم في اليمن، مرهون بتجاوز المشكلات الراهنة.