هل تعبت «قيثارة فلسطين» من «الحياة بلا حياة، ومن الرواية والرواة، ومن الجناية والجناة»؟قبل أن خاطبت الموت بأنك لست خائفا منه، وها أنت تمشي إليه منتصب القامة، كما عرفناك دائما، ربما أنت أخذت بيده، ولم يأخذك هو، فأنت شاعر الثورة، وشاعر المقاومة، والناطق الرسمي باسمها، لم يستكن حرفك للسجن، والإقامة الجبرية، ولا لقهر الاحتلال، كان حرفا صادقا، ومناوئا، وجارحا، وكان صوت الملايين، يرددونه من بعدك، فالقصيدة عندك كانت هي الوطن، بكل قداسته وعنفوانه، وسادن نشيد الانتفاضة، «تقدموا.. تقدموا»، النشيد السهل الممتنع، منذ سنوات حاول المرض اللعين أن يفترسه، لكنه وقف وقاومه، وقابله باستهزاء، ولم يرهبه أن المرض يأخذه قريبا إلى حافة الموت، ربما كان له رجاء بسيط، أن يتركه الموت لبعض الوقت، لينجز قصيدة مازالت بالبال، وان يفرح بأحد أبنائه، وان يطمئن على العائلة والوطن. لكن الموت غافله، في لحظة غاب فيها توهجه وابتسامته، ليلحق برفيق دربه «درويش»، الذي تصادف هذه الأيام ذكرى وفاته السادسة، فربما أصابه الحنين إلى تلك الكتابات والمراسلات بين شاعري المقاومة، عندما غادر «درويش «فلسطين في السبعينيات، فيما بقي «القاسم» في «البلاد»، ليتركا أثرا مميزا، سمياه «كتابات شطري البرتقالة».في مدينة الزرقاء الأردنية كانت الولادة، والى الطائفة الدرزية كانت الجذور، وفلسطين هي المبتدأ والخبر، والأمة العربية هي العباءة والانتماء، خمسة وسبعون عاما من سني العمر في رحلة الحياة، وما يقاربها من حيث العدد، من إبداعات في فنون مختلفة، لكن الشعر هو سيد المقام في بيت إبداعه الكبير. وقبل أن يكمل العشرين عاما، اصدر «مواكب الشمس» في تجربة شعرية رغم حداثتها إلا أنها كانت مفعمة بالصدق والعفوية، وضعته في مطالع الشمس، ليبدأ مسيرة إبداعية ونضالية لا مثيل لها، مبدعا ومجددا، ومقاوما، وميسرا مفردة القصيدة لتكون مفردة الشارع، يتداولها الناس ويرددونها، هذه المسيرة في دروب الشعر بدأها في ديوان «أغاني الدروب» عام 1964، ويتصادف هذا الديوان مع قرب انطلاقة الثورة الفلسطينة، وبعده «ارم» لتأتي هزيمة 1967 ويقدم نفسه من جديد بديوان «دمي على كفي»، وتتوالى إبداعات «القاسم» ويقابلها تكريم عربي ودولي، وجوائز، وترجمة اعمال، وشهرة تجاوزت الأفاق، وقصائد مغناة، وأصبحت قصيدة «منتصب القامة امشي» ايقونة الغناء العربي، لما تحمله من صور ومعان ودلالات، وتجسيد للحالة الفلسطينة، هذه الحالة التي واكبها القاسم في أعماله المختلفة من شعر ونثر ومسرح واوبريت، ولم تحجب الحالة الفلسطينية على كل ما فيها من ظلم وقهر واحتلال، لم تحجب عنه رويته وشفافيته العربية، ولن تخنق الحلم العروبي القومي في روحه، إنما كان قلبه في فلسطين وروحه تمتد فوق الوطن الكبير، وفي باله لواء الاسكندرون، وعربستان والاندلس، ولعل قلبه وهو يدخل سبتة ومليلة في المغرب، لم يتحمل ان يرى حواجز الاجنبي وهي تستوقفه ليستأذن الدخول الى مدينتين عربيتين. في دلالة لا تحتاج الى توضيح عن تلك القناعات، وذلك الاحساس العالي بوطنه الكبير. ولذلك كان طبيعيا ان يصدر احد دواوينه الشعرية بعنوان «عجائب قانا الجديدة». وكانت عناوين إصداراته تؤرخ وتوثق وتصور مراحل في النضال الفلسطيني، ويختار عناوين مثل «حزام الورد الناسف» و»كتاب القدس» و»خذلتني الصحارى» و«الراحلون» و»الموت الكبير» وغيرها.هواجس القاسم لم تقتصر على الراهن، بل كانت تتناول المرض والشيخوخة والأحفاد، ولعل القصيدة الطويلة «هواجس لطقوس الأحفاد» التي يبث فيها هواجس خوفه على الاجيال الجديدة، ولا يريد لها أن تعيش معاناة الأجداد، تنبئ عن تلك الشحنات الإنسانية المتدفقة في روح وشعر «القاسم»، وحلمه بان يعيش الأحفاد حياة افضل، وبالطبع فان الوجه الآخر لهذا الحلم هو زوال الاحتلال، وتعود الارض لاهلها، ليعيشوا كما يستحقون مثل بقية شعوب العالم..الكبير «سميح القاسم»، لن نراك مرة أخرى، كما تعودنا أن نراك بين وقت وآخر، بإطلالتك وأناقتك، وصوتك وابتسامتك، لكنك تطل علينا من هذا الإرث المقاوم الكبير الذي تركته، وهذه القصيدة «الوطن»، ها أنت تخرج بجسدك من المشهد، كما تنبأت ذات يوم بأحد دواوينك «سأخرج من صورتي ذات يوم، لكن أطفال فلسطين، وأطفال غزة هذه الأيام يرددون معك» تقدموا.. «تقدموا.. براجمات حقدكم. وناقلات جندكم.. فكل سماء فوقكم جهنم.. وكل ارض تحتكم جهنم» .
|
ثقافة
سميح القاسم.. قيثارة فلسطين.. يمشي إلى الموت منتصب القامة
أخبار متعلقة