أحمد مثنى من بذلة الأمن إلى سلاح القلم
أول عَلاقة لي بالأستاذ أحمد مثنى ترجع إلى المؤتمر الثالث لاتحاد الأدباء والكُتـَّاب اليمنيين الذي عـُقد بعدن أوائل التسعينات، وكانت مناسبة التعارف اختيارنا وإياه في هيئة رئاسة المؤتمر، فكان هو الرئيس وأنا وآخر لا تسعفني الذاكرة بتذكره، عضوين في هيئة الرئاسة.وطوال فترة انعقاد المؤتمر اكتشفت في الرجل ملامح بساطة ووسطية واعتدال وصورة معكوسة تمامـًا عن تلك الصورة النمطية التي تناهت إلى ذهني باعتباره رجلاً عسكريـًا أو مشتغلاً في مجال الأمن، تلك الصورة التي تؤخذ من أطرافها بأنـَّها شخصية جادة وصارمة في المعاملة والتعامل بل وأكثر من ذلك صورة منفرة لأي مشتغل في مجال الأدب والشعر من ذلك العسكري الذي ربما - كما يوحى للبعض - بأنـَّها دخيلة على عالم الأدب والثقافة، وربما يكون مغتصبة لدور غير دورها، وأنـَّها من بنات زرع السلطات الشطرية لأدباء موهومين يشتغلون في العسكرة والأمن ويقتحمون عالم الأدب والأدباء والشعر والشعراء لا لسببٍ إلا في نفس هذه السلطات.كل هذه الهواجس والتصورات النمطية الخاطئة عن العسكري الأديب أحمد مثنى ذابت بمجرد الاقتراب الحميم مع الرجل الآخر الذي ما أنْ يلقي بذلته العسكرية حتى تكتشف فيه صورة الرجل الإنسان، والشخصية المثقفة والمبدعة التي تجعل الواقف أمام رجل كأحمد مثنى يحتار في كيفية أنْ يكون رجل ببذلته العسكرية أو الأمنية يحمل في داخله عالمـًا آخر شفـَّافـًا ورقيقـًا، ومثقفـًا ومبدعـًا.وتلك قصة ذاتية أتمنى على الأستاذ أحمد مثنى أن يرويها ويجلي معالمها؛ لأنـَّها من القصص الذاتية الجديرة بالقراءة؛ لأنـَّها من نبت الاستثناءات الجميلة والعوالم الحياتية التي تكشف عن مسار متناقضٍ بين عالمين لا يلتقيان كثيرًا، العسكرة والأدب!لكن أن يجمع رجل بين هذين العالمين في شخصية واحدة نقية وناصعة بحيث لا يغلب أحدهما على الآخر، ولكنهما يسيران بخط متوازٍ دونما اختراق لأحدهما أو تعدٍّ لأحدهما على الآخر، هو من المصادفات الحسنة وكسب له في الحياة العملية كرجلٍ عسكريٍ مستقيم ومواظب في شغله وعمله، وكسب آخر للثقافة والأدب أن يكون فيها رجل ناهل لعلوم الثقافة والأدب ومبدع في كتابة القصة والرواية والنقد.لكن الحيرة تنجلي عن هذا الاختلاط الذي يمكن يكوِّنه المرء في استكناه عوالم الأستاذ أحمد مثنى سواء في الحياة العملية كرجلٍ شرطيٍ وأمنيٍ وفي الحياة الإبداعية ككاتب ومثقف، بمجرد أنْ يقترب قليلاً منه ويكتشف لطائف إنسانيته وأدبه وتأدبه في المعاملة وخصال هي أقرب إلى التواضع والمجاملة واللطف في المعشر والسريرة المنفتحة التي تجملها ضحكات.لقد اكتشفت خلال جلوسي بقربه في قاعة رئاسة المؤتمر رجلاً بعيدًا تمامـًا عن الخصال العسكرية الصارمة التي من الطبيعي أنْ يتحلى بها، فقد كان ديمقراطيـًا وأريحيـًا في التعامل مع مجريات انعقاد المؤتمر، مستمعـًا جيدًا ومتحليـًا بصفات الانفتاح على الجميع بمن فيهم الغاضبون أو المعارضون أو ما شابه، بل كان يقابل المواقف المتضادة بين الأقوال والأطروحات الحادة المخارج بلمسة فكاهية ضاحكة مداعبة في الكلام تذيب جليد التجهم أو الاعتراض أو المعارضة.كان أحمد مثنى ناجحـًا في إدارة دفة قيادة المؤتمر ببساطته وعدم تسرعه، وبخصال هي أقرب إلى المدنية منها إلى الخصال العسكرية.فاكتشفت من يومها خطل المقابلة الزائفة في استنتاجها بأنَّ الأديب والعسكري لا يمكن في زماننا أنْ يلتقيا في شخصية واحدة، وأنَّ نموذج أحمد مثنى قد يكون استثنائيـًا، لكنه يدحض تصوِّري غلبة شخصيته العملية في الشرطة والأمن على شخصيته الأدبية والإبداعية.وإنـّه علينا حين نقف أمام الأديب والمثقف أحمد مثنى أنْ ننسى تمامـًا أنـَّه يشتغل في مجال طالما كان مضادًا ومصادمـًا للأدب والثقافة.بخلاصة نقول إنَّ الأيام أثبتت أنَّ المسيرة العملية الشرطوية للأستاذ أحمد مثنى سواء في إدارة مرور تعز أو نيابته لإدارة أمن عدن أو إدارة أمن ريمة أو عمله الحالي في إدارة الأمن السياحي هي سيرة حياة عملية خاصة حافلة ومتميزة نضعها جانبـًا ونحن نقرأ إبداع وأدب ونقد الأستاذ أحمد مثنى كأديبٍ روائيٍ أو ناقدٍ أدبي فبينهما مساحة فصل واسعة تسمح للقارئ أنْ يقرأ رواياته أو نقده أو إبداعه دون أي تأثير سلبي لسيرته العملية في الأمن والشرطة.رحلة أدبيةأحمد مثنى الأديب في رحلته الأدبية منذ صدور روايته (هموم الجد قواسم) و(باقة طل على صدر الجولبة) يخرج إلينا بكتاب هو نقدي بعنوان (في الدفاع عن الأصالة) هو حصيلة كتاباته النقدية التي نشرها في العديد من الصحف اليمنية ومنها صحيفة (14 أكتوبر) والكتاب كما قال الأستاذ والأديب والناقد عبدالباري طاهر يضم أبحاثـًا ومقالات (تظهر بجلاءٍ مدى اهتمام الباحث المثنى بالنتاج العربي واليمني بوجه أخص وهو - أي المثنى - يقدم قراءة حائزة ومحبة للإنتاج الأدبي والفكري خصوصـًا الإبداع الذي ينفع الناس، ويخدم قضايا الحياة والنماء والتطور ما فهو مدافع صادق ومبدئي عن قضايا الثورة والجمهورية والحرية والعدالة.كما أنَّ الكتاب حسب - عبدالباري طاهر - سياحة فكرية تمتدُ عميقـًا من الأدبي إلى الثقافي إلى السياسي وتطوف في أرجاء واسعة في الزمان والمكان، وفيها قراءة تاريخية وفلسفية وثقافية تتنوع وتتعدد ولكنها تصبُ في مجرى الحداثة والتقدم وبناء الذات الوطنية).على أعتاب العنوانومن عنوان الكتاب يبدو أنَّ الأستاذ أحمد مثنى قد أبحر - كما يبدو للبعض - من العنوان (في الدفاع عن الأصالة) ضد التيار السائد، التيار الحداثي، وسيبدو وكأنـَّه مدافع تقليدي عن أحد الثنائيات التي شغلت الأدب والنقد العربي طويلاً وهي ثنائية الأصالة والمعاصرة وجال فيها النقاد العرب بين مؤيد لأولهما ومعارض لثانيهما وبين تصنيفات حدية أمام تلك الثنائية.لكن الأستاذ مثنى في مقدمة الكتاب يدافع عن اختياراته بالوقوف ضد الجميع وينحاز بخصوصيته في الدفاع عن الأصالة بقوله:(ساورني الإحساس الذي حفزني كثيرًا للخوض في هذا الجانب الأدبي دفاعـًا عن الأصالة؛ لأنـَّها لا تعني كما يتبادر إلى ذهن البعض بأنـَّها الماضي بكل غثه وسمينه أو هي مجموعة العَلاقات التقليدية سواء تلك العَلاقات الأدبية أو الفكرية أو الحياتية أو في أي مجال من مجالات المعرفة والتطور التي يجب أنْ تمتد حسب رأيهم من الماضي إلى الحاضر لتظل تفعل فعلتها فيه متجاوزة ومهشمة لكل أشكال التطورات الحياتية والفكرية المتجددة.. وكان من نتيجة ذلك الإحساس أنْ كتبت فصلاً أطلقت عليه عنوانـًا هو (في الدفاع عن الأصالة) حيث أوضحت وأجليت بعض الشيء، ذلك الغبار العالق على الأصالة جراء تلك الكتابات).فالمثنى يرى أنَّ (الأصالة منظومة متكاملة فكرًا ومعرفةً وحياة.. وهي كما سبق القول فعل إنساني يتوجب أن ينضاف إلى تلك الأفعال الإنسانية لتغدو هذه الأفعال المعاصرة خاصة الإيجابية منها ضمن ركام المعرفة، التي ستكون زادًا للأجيال القادمة، ولسوف يعتبرونها ضمن منظومة هذه الأصالة).لذلك فالأصالة حسب ما يرى المثنى ( لا تعني في مدلولها المحافظة على ما كان قائمـًا والدوران في فلكه وسحبه على الحاضر، بل تعني وتخاطب الفعل بتطويره وتشييد كل ما هو جدير بالحياة وتطورها المستمر صوب رقي المجتمعات، وانتقالها إلى ما هو أفضل في حياتها وعَلاقتها بالآخرين).فالأصالة في مفهومها الواسع (هي الفعل الإنساني لكل ما هو مفيد وإيجابي، سواء في مرحلة الفعل أو في المراحل اللاحقة عليه؛ لأنَّ الفعل الإيجابي يظل فنارًا للأجيال اللاحقة عليه يضيء طريق تطورها وارتقائها إلى الأفضل، والفعل السلبي يظل هو الآخر مرافقـًا ليفصح للأجيال من أنْ تجنبه وتبتعد عن الإتيان بشاكلته).