أ.د. مسعود سعيد عمشوشلا شك في أن الانفتاح الذي شهدته الأقطار العربية في النصف الثاني من القرن العشرين قد شجع عددا من الأدباء والفنانين والمفكرين والسياسيين على تدوين تجاربهم الذاتية وصوغها في أشكال تعبيرية مختلفة تقع كلها في دائرة (كتابة الذات): سير ذاتية، مذكرات، ذكريات، شهادات، مراسلات، يوميات… فمنذ أكثر من عقدين تقريبا أصبحنا نقرأ بين الفينة والأخرى عددا من النصوص (الذاتية) لشخصيات عربية متنوعة المشارب. واليوم أضحت ظاهرة كتابة المذكرات الشخصية جزءاً من المشهد السياسي والثقافي ليس في اليمن فحسب بل في كثير من الأقطار العربية وفي العالم كله، إذ لا يكاد يمر أسبوع أو شهر من دون أن تصدر مذكرات شخصية لهذا الرئيس أو ذلك الزعيم السياسي أو تلك الشخصية (الاعتبارية). ومن ناحية أخرى، يبدو أن الأشكال المختلفة لكتابة الذات، التي تعد السيرة الذاتية أبرزها، أخذت تتداخل في معظم الأحيان. وفي الحقيقة، غالبا ما يصعب تبيان الحدود الفاصلة بشكل قاطع بين السيرة الذاتية وبين الأشكال الأخرى للتعبير عن الذات. ففي حين يركز كاتب السيرة الذاتية على تفاصيل حياته الشخصية يهتم كاتب (المذكرات) بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهد العامة أكثر من اهتمامه بتصوير حياته الخاصة، اللهم إلا بوصفها إحدى مفردات تلك البيئة العامة. إما الاعترافات فيغلب عليها التبرير والتسويغ والمراوغة والتمويه.ولا ريب في أن من بين أشكال كتابة الذات كلها المذكرات الشخصية هي التي تحتوي على أكبر قدر من الأبعاد التاريخية. كما أن الفرق الأساسي بين السيرة الذاتية للأدباء وبين مذكرات الشخصيات العامة يكمن في أن الشخصيات العامة تكون في الغالب مقتنعة بأن تجربتها في الحياة تحتوي على قيمة تاريخية واجتماعية كبيرة ينبغي أن تستفيد منها الأجيال اللاحقة. ومع ذلك عادة ما تؤكد تلك الشخصيات أنها لم تقدم على كتابة تجاربها إلا نزولا عند طلب أحد الأصدقاء. وهذا ما يؤكده محمد جعفر زين في مقدمة مذكراته حينما يكتب: «في الختام أود أن اعبر عن شكري وتقديري العميقين لأخي وصديقي الأستاذ عبد الله حسن العالم الذي لم يكتف بتشجيعي على كتابة هذه الذكريات، بل ذكرني بوقائع وأسماء شخصيات يمني خانتني الذاكرة في الإشارة إليها في المسودة الأولى لهذه المذكرات». ص16بالإضافة إلى التقديم التي وضعها عبد الله حسن العالم للكتاب، والمقدمة، يتضمن الكتاب سته فصول؛ يتناول المؤلف في الأول منها ذكريات الدراسة في لحج ومصر والعودة منها مع مجموعة الطلبة اليمنيين العائدين من مصر). وهذا الفصل الوحيد الذي يتحدث فيه محمد جعفر زين عن بعض شئونه العائلية. وقد ذكر فيه أنه ولد عام 1941، في (حارة السادة) بقرية الوهط اللحجية العبدلية، التي تقع عند المدخل الشمالي لمدينة عدن. وبعد وفاة أمه -وهو في سن السادسة وزواج أبيه من امرأة أخرى- ترعرع محمد في بيت جده عمر حسن مصطفى السقاف، ثم في بيت والده الذي «يرتاده الكثير من الأهل والأقرباء لسماع الأخبار العربية والعالمية التي تذاع من هيئة إذاعة البريطانية»ص22؛ فوالده كان أول من امتلك جهاز راديو في الوهط. ويقول د. محمد جعفر السقاف في مذكراته «إن قرب الوهط من عدن -المدينة الزاخرة بالحركة التجارية والنشاط السياسي والثقافي-، وارتباطها بها سياسيا وتجاريا وثقافيا، قد أسهم بدرجة كبيرة في جعل سكانها، لاسما المتنورين منهم، على صلة دائمة بما يجري في هذه المدينة».ص22لهذا، بعد أن أنهى محمد تعليمه الابتدائي في الوهط، قام الجد -»بموافقة الوالد بالطبع»- بنقل محمد إلى عدن ليعيش عند خاله في الخساف، ويدرس في مدرسة بازرعة ثم البادري. ومن أبرز معلميه الشيخ محمد سالم باحميش والأديب حسين سالم باصديق.وفي عام 1954، سافر محمد جعفر إلى القاهرة لتلقى هناك تعليمه الإعدادي والثانوية أسوة بعدد من أبناء الوهط منهم عمر الجاوي وأبوبكر السقاف وخاله عمر محمد حسن السقاف، الذين سبقوه إلى هناك ضمن بعثة السلطنة العبدلية. وفي عام 1959 زفروا من مصر مع عدد من الطلبة اليمنيين إلى تعز. وهناك التقى بالمناضل عبد الله عبد الرزاق باذيب الذي زفر من عدن إلى تعز لإخلاله بقانون الصحافة والنشر في مستعرة عدن. وفي تعز أصدر باذيب صحيفة (الطليعة). ولفترة ساعده الشاب محمد جعفر زين على توزيعها.ص37. وبفضل يوسف عثمان سمنتر، أحد زعماء الحركة اليسارية في الصومال، والحزب الشيوعي الإيطالي، تحصل محمد جعفر زين على منحة دراسية إلى ألمانيا الديمقراطية عام 1960. وبما أنه أنهى بتفوق دراسته الجامعية (إجازة خاصة) في القانون من جامعة همبولدت برلين فقد اقترح عليه أحد اساتذته البقاء لتحضير الدكتوراه. وقبل العرض ورع في تحضير رسالة بعنوان (اتجاه البلدان العربية للتكامل الاقتصادي والنتائج المترتبة على ذلك في حقل تطوير التشريعات الخاصة ببراءة الاختراع في الدول العربية)ص60وكتب د. محمد جعفر زين «أثناء قامتي في عدن -شتاء 1968-1969- كنت بالطبع على اتصال بأصدقائي السياسيين وأقربائي الذين كانوا أعضاء قياديين في الجبهة القومية وينتمون بهذه الدرجة أو تلك للجناح اليساري فيها، وأخص بالذكر الأخ العزيز محمد عيدروس يحيى..) وذكر أيضا محمود عشيش وعبد الفتاح اسماعيل وخالد فضل وفضل سعيد عاطف.في مارس 1972 أنهى محمد جعفر زين دراسة الدكتوراه في الحقوق وعاد إلى عدن مع زوجته الألمانية وبنتهما مريم. وتم تعيينه مديرا لدائرة تخطيط وتنظيم العمل بمجلس الوزراء وكانت مهمته الاعداد الجيد لاجتماعات المجلس وإعداد محاضره.ويذكر. محمد جعفر زين ان موقعه في ذلك النصب أتاح له التعرف على عدد من الشخصيات القيادية مثل عبد العزيز عبد الولي وعلي ناصر محمد. كما أتاح له منصبه المشاركة في مباحثات القاهرة بين شطري اليمن عام 1972 مع صديقه عبدالله حسن العالم الذي أشار عليه عام 2002 بكتابة مذكراته. وقد ضمن محمد جعفر زين الفصل الأول من كتابه (ذكريات العمل في سكرتارية مجلس الوزراء والمشاركة في العمل الوحدوي) بعض تفاصيل تلك المرحلة.[c1]محمد جعفر زين أول رئيس لجامعة عدن[/c]في الفصل الرابع من الكتاب، يتناول د. محمد جعفر زين (ذكريات العمل كأول رئيس لجامعة عدن ومستشار لرئيس هيئة مجلس الشعب الأعلى). ومن المعلوم إنه، عند صدور القانون رقم (22) لعام 1975 بشأن إنشاء جامعة عدن في 10 سبتمبر 1975 لم يتم تعيين رئيس للجامعة. وفي الأول من يناير من عام 1976، صدر قرار جمهوري بتعيين د. محمد جعفر زين أول رئيس لجامعة عدن. وبعد أسبوعين تمّ تعيين د. جعفر الظفاري نائبا لرئيس الجامعة للشئون الأكاديمية. والقاضي محمد أحمد لكو نائبا لرئيس الجامعة للشئون الإدارية والمالية والقانونية. وقد وصف د. محمد جعفر زين، في كتابه، بدايات الإدارة المركزية للجامعة قائلا: «كانت جامعة عدن مكونة عند تأسيسها من أربع كليات تأسست بشكل منفصل عن بعضها البعض... وكانت هذه الكليات عند إنشائها تابعة إداريا وماليا لوزارة التربية والتعليم. وبصدور قانون تأسيس جامعة عدن انتقلت تبعيتها الإدارية والمالية من وزارة التربية والتعاليم إلى إدارة الجامعة. وبالطبع لم تكن هذه الإدارة موجودة عند صدور هذا القانون، مما جعل تكوين هذه الإدارة يحتل مكان الصدارة في الأشهر الأولى من عملي كرئيس لهذه الجامعة. وقد خصص لي الأخ المرحوم د. سعيد النوبان، الذي عُيّن وزيرا للتربية والتعليم بدلا من الأخ علي ناصر محمد (الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء) ، مكتبا بجانب مكتبه في مبنى الوزارة الكائن في مدينة الشعب، لعدم وجود مبنى مستقل عن الوزارة صالح لأن يكون المركز أو المقر الرئيس لإدارة الجامعة. ومن هذا المكتب باشرت عملي كرئيس لهذه الجامعة الفتية، ثم انتقلت مع الزملاء الذين تعينوا بعدي في إدارة الجامعة إلى عدة غرف في مبنى مركز البحوث التربوية الواقع في خور مكسر. وفي الأشهر الأولى من تعييني كرئيس لجامعة عدن كنت بالطبع على اتصال بالأخ الوزير للتشاور معه في الأمور المتعلقة بتشكيل هيكلها الإداري والمالي. وحينما تشاورنا في أمر تعيين نائبين لرئيس الجامعة أخبرني أن هناك تفكيراً في تعيين فلسطينيين لشغل هذين المنصبين أو على الأقل لشغل منصب نائب رئيس الجامعة للشئون الأكاديمية، وأن الأمر يتطلب بالطبع موافقتي. وقد استقر رأينا ورأي الأخ رئيس الوزراء فيما بعد على ضرورة شغل هذين المنصبين بكوادر محلية، ووقع الاختيار على الأخوين الدكتور جعفر الظفاري الذي كان آنذاك عميدا لكلية التربية، بشغل منصب نائب رئيس الجامعة للشئون الأكاديمية، والأخ محمد أحمد لكو لشغل منصب نائب رئيس الجامعة للشئون الإدارية والمالية. ثم جرى البحث عن شخصية تربوية محلية لشغل مسجل الجامعة ووقع الاختيار على الشخصية التربوية المعروفة الأخ المرحوم عثمان عبده. وبعد إقرار الهيكل الإداري والمالي للجامعة جرى البحث بالطبع عن كوادر مناسبة لمدراء الدوائر التي يتكون منها هيكلها الإداري والمالي، وعن مبنى مؤقت لإدارتهاالمركزية»ص87وكان د. محمد جعفر زين السقاف، ونائبه جعفر الظفاري هما اللذان سارعا إلى المطالبة بإعادة النظر في بعض مواد القانون رقم 22 لعام 1975 التي- في رأيهما- تحتوي على تناقضات مرتبطة بتنظيم الجامعة واستقلاليتها، وتحد من صلاحيات رئيس الجامعة، ليس فيما يتعلق بوضع السياسات الإستراتيجية فقط، بل حتى في إجراءات العمل اليومي؛ مثل تعيين من ينوب رئيس الجامعة من النواب الثلاثة في حالة غيابه، أو تعيين أعضاء الهيئة التعليمية ومساعديهم. وقد تناول محمد جعفر زين تفاصيل مبادرته تلك بشيء من التفصيل في مذكراته. وفي عام 1977 حينما رأى د. محمد جعفر زين عدم حماس وزير التربية لتغيير القانون رقم 22 لعام 1975، اتفق مع عدد من عمداء الكليات وطلب لقاء برئيس مجلس رئاسة الجمهورية سالم ربيع علي لمناقشة استقلالية الجامعة القانونية والمالية. وكانت المقابلة مهذبة وطريفة، لكن الطلب لم يلق آذانا صاغية، وفق شهادة الذين شاركوا في اللقاء، ومن بينهم الأستاذ عمر محسن الكثيري أطال الله عمره.لكنه حينما قابل الدكتور سعيد عبد الخير النوبان عام 1981 ذكره بموقفه الأول تجاه قضية استقلالية الجامعة، وكتب ص105: «تم تعيين د. حسن السلامي وزيرا للتربية والتعليم بدلا عن النوبان الذي عين رئيسا للجامعة بدلا مني. وحين التقيته في عدن، عندما استدعاني الأخ علي ناصر محمد، الذي تولى منصب رئيس هيئة مجلس الشعب الأعلى، بدلا من المرحوم عبدالفتاح اسماعيل، الذي أعفي من هذا المنصب ومن منصبه كأمين عام للحزب كي أتولى منصب المستشار لرئيس هذه الهيئة، علمت أنه (أي د. النوبان) يطالب بأن تتمتع جامعة عدن باستقلال مالي وإداري كامل، وأن تكون مستقلة أيضا عن وزير التربية كجهة مشرفة عليها، وأن تخضع الجامعة مباشرة لإشراف رئيس الوزراء فقط، فقلت له أنك تطالب بما كنت أطالب به، بل أنك تطالب بأكثر من ذلك؛ وهو إخضاع الجامعة لإشراف رئيس الوزراء فقط. وحينما كنت وزيرا للتربية لم تؤيدني في ان تكون الجامعة مستقلة عن الوزارة ماليا وإداريا، بل وافقت على أن يكون في الوزارة نائب لك لشئون التعليم العالي أي لشئون جامعة عدن، وعاتبته على موقفه من تلك القضية، وذكرته بالمثل العربي القائل: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها. لكنه كعادته رد عليّ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، بابتسامة أخوية» ص108[c1]د. محمد جعفر زين ومرارة الوحدة[/c]يتحدث د. محمد جعفر زين، في الفصل السادس (الأخير) من مذكراته (ذكريات العمل في ظل دولة الوحدة)، بمرارة عن الإجراءات التي تعرض لها وأبعدته عن منصبه كملحق ثقافي في برلين، وعدم دفع مستحقاته المالية كمستشار ثقافي في برلين، ويكتب: ص164 «ظليت متابعا عام من ونصف تقريبا وزير التعليم العالي الأخ الدكتور عبد الوهاب راوح ووزارة المالية لإرسال المرتبات التي استحقها وفقا لقرار التعيين بالعقد المحلي الموقع من قبلي وقبل الأخ السفير يحيى علي الأبيض، لكني عرفت من خلال هذه المتابعة الطويلة أن وزير المالية مصر على إلغاء قرار تعييني في منصب المستشار الثقافي في برلين قبل الموافقة على تحويل ما استحقه من مرتبات من ميزانية التعليم العالي. وقد اقتنعت بعد ذلك أن هناك حكومة أخرى غير الحكومة التي يرأسها الأخ عبدالقادر باجمال لا تريد أن أبقى في هذا المنصب، حكومة أخرى هي التي تقرر، حتى في الوظائف التي هي أدنى من مرتبة وزير... وبعد أن تركت العمل مكرها في سفارة بلادنا عدت بالطبع من جديد إلى عملي كمترجم قانوني محلف لدى المحاكم والهيئات الأخرى في برلين».وفي الصفحتين الأخيرتين من كتابه يتحدث د. محمد جعفر زين مبكرا وبجرأة (قبل عام 2007) عن انتهاء وحدة 22 مايو 1990؛ حيث يكتب في صفحتي 165 - 166: «لن أتعرض هنا لما يجري في الجنوب الذي أنتمي إليه، وفي أرض الوطن عموما، أو لما يقوله زعماء النظام السياسي السائد حاليا (2006) في دولة الوحدة التي لم أشعر في يوم من الأيام بالإذلال إلا في ظلها». كما أنني لن أتعرض إلى ما يقوله زعماء المعارضة الآخرين القياديين في حزب الإصلاح أو في الأحزاب الأخرى غير المنحدرين من أي من محافظات ما كان يسمى بالشطر الجنوبي من الوطن، لأن ذلك سوف يتجاوز الإطار المحدد لمذكرات أو ذكريات رجل عاصر تطور الحركة الوطنية والمسيرة السياسية لهذا الشطر بالذات. ولكني هنا أود فقط التعقيب على زعماء التيار المسمى (إصلاح مسار الوحدة) في الحزب الاشتراكي اليمني. وسؤالي الذي أوجهه لهم: ماهي الوحدة التي يريدون إصلاح مسارها؟ أهي الوحدة التقاسمية التي حققوها مع شريكهم فيها المؤتمر الشعبي العام في 22 مايو 1990؟ وأقول لهم إن هذه الوحدة قد انتهت إلى غير رجعة، وذلك بانتصار شريككم فيها في حرب 1994، ولا حاجة لإصلاح مسار وحدة قد انتهت».ص166وفي اعتقادي، ربما تبرر هذه الكلمات الأخيرة عدم تمكني من العثور على أي نسخة من الكتاب في مكتبات البيع أو المكتبات الجامعية أو مكتبات المراكز المتخصصة. ولا حتى في مستودعات الناشر!!!! والله أعلم.[c1] د. محمد جعفر زين: مذكرات أول رئيس لجامعة عدن، مركز عبادي للطباعة والنشر، صنعاء 2007
|
ثقافة
قراءة في كتاب (مذكرات أول رئيس لجامعة عدن: د. محمد جعفر زين)
أخبار متعلقة