كتب/ هائل علي المذابي يحدث عندما تكون مفكراً أو فيلسوفاً، أن ترفض أفكارك لعدم فهمها خصوصاً حين تقدم على شكل (أفكار) أو فلسفات وكذلك لغرابتها أو لحداثتها وجِدتِها، ما يحدو بك إلى البحث عن قوالب أخرى لتقديم وتسويغ هذه الأفكار، وهذه القوالب تكون بمثابة منفذ للبوح عما تم رفضه في القوالب المألوفة والتقليدية، ونجد هذا لدى الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر ) رائد الوجودية ومؤسسها في العصر الحديث وصاحب الخطوط الفلسفية الثلاثية(الحرية، المسئولية، الالتزام )، والذي قدم أفكاراً فلسفية كثيرة في قالب الأفكار الفلسفية بيد أنه تم رفضها ما جعله ينثرها في قوالب أخرى كانت قوالب أدبية، كالمسرحيات والقصص والروايات : (الأيادي القذرة) ( الذباب )، (ما الأدب؟ )، (ما الخلق الفني ؟) وغيرها، وما ذلك إلا لإيمانهِ العميق بأفكارهِ، واعتقادهِ المطلق بها، واعتزازه بها أيضاً، أما الفكرة الجوهرية في هذا الموضوع فهي حول نفس الفكرة من جهة، أي حول تسويغ الأفكار من خلال قوالب أخرى - غير تقليدية - من قبيل التبسيط، ثم الفكرة الرئيسية وهي ( القوة الروحية والمهيمنة داخل كل شيء في هذا الكون ) سواءً في ممالك الوجود الثلاث (إنسان، حيوان ، نبات) أو حتى في عالم الجوامد، والكون جميعاً بلا استثناء .. كهذه الأفكار قد ترفض بسبب ما وصل إليه العصر وهو عصر التكنولوجيا والماديات والالكترونيات وضمور الروحانيات أو غيابها وتغييبها أيضاً، وهذه الفكرة نفسها نثرها الناقد والأديب والقاص الأمريكي إدجار ألن بو في قصة له عنوانها(دمار منزل آشر) فيتحدث فيها عن إحساس النبات والجدران وكل ما حولنا ومعنا، حتى الحجارة، يقول على لسان الراوي البطل والذي يصف حال الشخصية المحورية في القصة ( رودريك آشر ) يقول : ..... في أحد الأيام كنا نتحدث وأخبرني - يقصد آشر - بأنه يؤمن بأن كل أنواع النباتات لديها القدرة على الشعور والإحساس، كما أخبرني أيضاً عن إيمانهِ بأن الأشياء الجامدة أيضاً لها هذه القدرة تحت ظروف معينة . وكما أسلفت - والحديث ما يزال له - سابقاً فإن معتقده هذا يرتبط بالحجارة القديمة والغبراء التي كانت متراصة فوق بعضها البعض لتشكل منزله القديم، فقد كان يعتقد بأن هذه الحجارة الغبراء القديمة والطريقة التي تمت مرابطتها مع بعضها البعض قد أعطتها نوعاً من الحياة، وكذا مياه البحيرة والأشجار الميتة المحيطة بالمنزل كلها قد اشتركت مع بعضها البعض في خاصية الحياة، فقد قال لي : الدليل على وجود حاسة الشعور لدى مياه البحيرة والحيطان وكذا الأشجار الميتة يكمن في التطور التدريجي للهواء المحيط به، عندها تذكرت الشعور الذي اعتراني عندما رأيت كل هذه الأشياء بمجرد وصولي لمنزله، فحبست أنفاسي أثناء متابعة كلامه، فقال لي : ( إن لهذا الهواء تأثيراً صامتاً و رهيباً على عائلتي، وهو السبب لما أنا عليه اليوم (السيد آشر كان على سرير المرض وهو يقول لصاحبه هذا الكلام.. ) .وحين نتأمل بنظرة فاحصة متمعنة في هذه المقاطع التي تعتبر نقطة القوة في قصة دمار منزل آشر والمحور الجوهري فيها، نتذكر شيئاً من روحانيات الشرق وأحاديث الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام ففي حديث جابر قال : كان عليه الصلاة والسلام يقوم في أصل شجرة أو قال إلى جذع - أي يلقي خطبته مستنداً إلى جذع نخلة - ، ثم اتخذه منبراً، قال فحن الجذع، قال جابر : حتى سمعه أهل المسجد، حتى أتاه عليه الصلاة والسلام فمسحه فسكن ، فقال بعضهم لو لم يأتهِ لحن أبداً إلى يوم القيامة (رواه أحمد والبخاري) .وثمة قصة أخرى أنه عليه الصلاة والسلام احتفن حفنةً ذات مرة من الحصى وراح يتأملها فسأله أصحابه ما بالها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام (إنها تسبح بحمد الله )، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( أحبوا عمتكم النخلة) وقد وصفها بالعمة لأنه حين خلق الله آدم من طينة الأرض وأديمها انتهى ببقاء فضلة من الطينة فخلق الله منها النخلة فصارت بمثابة الأخت لآدم ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام (إن أحد يحبكم فأحبوه ) وهنا نتذكر فلسفة آشر في قصة إدجار ألن بو، ونتذكر كذلك رحلة العجوز الصياد في رواية أرنست هيمنغواي (العجوز والبحر)، والعلاقة التي أقامها العجوز بينه وبين البحر وبين الأسماك وبين الهواء أيضاً في رحلته الطويلة.لا ننسى كذلك دعوة الإحيائيين في المذهب الرومانتيكي في الأدب الذين خاطبوا الطبيعة على أنها روح وشعور وإحساس وكذلك ما يطلق عليه ( compensation) أي التعويض، بمعنى أنه قد يستطيع الإنسان أن يعوض بما فقده ببدائل أخرى في عالم الموجودات بلا استثناء ...- الوقوف على الأطلال ومخاطبتها هو نوع من التعويض أيضاً ..وهاهو عنترة بن شداد يصف شعوره هذا مع حصانه (الأدهم) حين قال : - ولكان لو علم المحاورة اشتكى / ولكان لو علم الكلام مكلمِ إلى قوله : وشكى إلي بعبرةٍ وتحمحمِ - ومثله الشنفرى في قصيدته الشهيرة لامية العرب وهو يصف الحيوانات ويصف إحساسها حين تجوع وحين تبرد ...إلخ .و حسب معتقدات الاسكيمو فإن هناك قوة أو روح مهيمنة تجدها في أي شيء وأي مخلوق وأي ظاهرة في عالم الطبيعة، حيث تعيش تلك القوة أو الروح - التي يطلق عليها إنوا Innua - في داخل الشيء كقوة متحكمة، وأن إنواهات الحجارة لها قواها الخاصة. .وعطفاً على ذلك نجد أن تفسير ( إدجار ألن بو) علمياً حين يصف هذا الشعور والإحساس الموجود لدى بطل القصة (آشر ) وعائلته هو ما يميزهم عن سواهم وهو عينه ما سبب حيرة كبيرة لدى الأطباء، وعجز أيضا عن إيجاد حل له أو دواء ، بمعنى أن الإحساس بالتطور التدريجي للهواء يحتاج إلى حساسية الجماد والنبات أيضا في هذا الاستشعار وهذا إعجاز من جهة وتأكيد لهذه الحقيقة من جهة أخرى.
|
ثقافة
فلسفة الإنوا .. قراءة في قصة « دمار منزل آشر» لإدجار ألن بو
أخبار متعلقة