لا شك أن العلم هو الركيزة الأساسية في رقي الشعوب والأمم، فلا نجد امة نهضت بغير العلم وبتحسين جودة التعليم في أوطانها، فما نراه اليوم من تقدم حضاري لبعض الشعوب، وتفوقها على الشعوب الأخرى في كافة مناحي الحياة، هو نتاج أكيد وحتمي لعملية تعليمية متميزة وفريدة، وإصرار غير مسبوق على الارتقاء بالعملية التعليمية والتربوية.فلم نر امة أو شعباً نهض وارتقى في غياب هذه الركيزة، بل على العكس فقد انحدرت الكثير من الشعوب بسبب إهمالها للتعليم وابتعادها عن مسار العمل على جودته كخيار مهم وأساسي للنهضة والتقدم، وارتمت في أحضان التخلف والضياع.وإننا إذ نقف على موضوع من الأهمية بمكان كموضوعنا هذا - العملية التعليمية في اليمن - فإننا نجد أن العملية التعليمية في بلادنا تسير في تدهور مستمر، والسبب في ذلك عائد إلى إهمال الجهات المعنية التي نست أو تناست! بان العملية التعليمية هي بمثابة العمود الفقري للنهوض باقتصاديات البلدان التي تصبوا إلى المجد، والتغاضي عنها كعملية جوهرية في مكافحة الجهل، والقضاء على كل أنواع التخلف، كالتعصب الطائفي المقيت، والتلوث الفكري القاتل، وتحولت من عملية تنوير، وإرشاد، وتأهيل، إلى عملية استرزاق، من قبل أصحاب النفوس المريضة، فأصبحت وسيلة للثراء السريع، والتعيُّش من دماء البسطاء، الذين يحلمون بمستقبل أفضل لأولادهم. إن الانحراف المخيف، والرهيب، في سير العملية التربوية والتعليمية اليوم، والتلاشي التام للدور التعليمي في بلادنا، يجعلنا نقف دقائق حداد على روح التعليم والعلم، الذي كان البارحة في حال أفضل، حتى وان كان سقيما أو مشلولا جزئيا إلا انه كان بحال أحسن مما هو عليه اليوملقد تحولت اشرف مهنة وأنبلها، إلى وسيلة قاتلة، تهدد عقول ملايين من فلذات أكبادنا، وتسمم أفكارهم، في أسلوب ممنهج، ومدروس بعناية فائقة الإتقان، فلم نعد نثق بمن كاد أن يكون رسولا، في أن يربي ويعلم أبناءنا، لأنه هو ذاته مسمم الفكر، والهوى، والاعتقاد، فكم نجد من التلاميذ يشكون سوء أخلاق معلميهم، وكم رأينا من أشكال العنف على المعلمين، بسبب ما ينقلونه من أفكار، وما يمارسونه من سلوكيات في مدارسنا، رغم أن ذلك ليس مبررا للاعتداء على المعلم، وإنما التسمم الفكري قد أصبح مشتركا بين التلميذ والمعلم معاً، فلقد أصبحنا نصاب بقشعريرة مدمية لأبداننا، عندما نتذكر الوضع المزري للعملية التعليمية، ونتذكر ما آلت إليه من ترهل عام وشلل تام في كافة أوصالها.لقد أصبح الكثير من التلاميذ يعتنقون أفكارا لم نعهدها من قبل، ويمارسون سلوكيات لم نكن نتوقعها أو نتخيلها يوما ما، ولم يدر بخلد احدنا يوما، أن انحرافا شديدا قد حصل، وسيحصل في العملية التربوية والتعليمية، وبهذه الصورة المشينة، والرهيبة، فقد تنبه الكثير من أولياء الأمور المبصرين، إضافة إلى المهتمين بالتعليم في اليمن، إلى هذا التدهور، وقاموا بمناشدات متكررة ومتتالية، إلى أهل الحل والعقد في الدولة، منبهين إلى الحال المزري، والمستنقع الخطير الذي تسير نحوه العملية التعليمية في البلاد، وقدم الكثيرون ممن يهمهم شان العلم، أفكارا بناءة رائعة، كان حقا على المعنيين الأخذ بها، لتحسين جودة التعليم، ووضع خطط مدروسة مزمنة، لانتشال العملية التعليمية من براثن الضياع، وتضييع الفرصة على دعاة التخلف من الرجعيين، الذين يريدون إعادتنا إلى القرون الوسطى، ودعاة الطائفية النتنة، والمذهبية المسعورة، والعصبية الفئوية، إلا إن واقع الحال يقول ما قاله أبو الشعراء المتنبي يرحمه الله حين قال:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تناديفالمعنيون تركوا الأجيال تغرق في مستنقع التخلف، ملتهين بالكراسي والمناصب وممارسات الإقصاء الجذري، والتهميش التام، والحزبية المريضة، هذا كله وأكثر يحدث في هرم المؤسسة التعليمية، ممثلة بوزارة التربية والتعليم، مما زاد الطين بلة، وأنتجت لنا هذه الممارسات المزيد من حالات التشوه الدائمة، التي لن يمحوها إلا قرار شجاع، وحازم، يجرم كل من يحاول الزج بالمؤسسات التعليمية في أتون الصراعات الحزبية والمذهبية، وان يطبق في حق كل من يمارس أي شكل من أشكال التحزب، أو التعصب لفئة، أو طائفة، اشد العقوبات، وتوجه له تهمة الخيانة العظمى لله والوطن والأجيال القادمة.الدولة هي المسئولة الأولى عما آلت إليه الأمور، من تدهور سريع وملفت للانتباه في البنية التعليمية - الهشة أصلا- فإهمال الدولة للمدارس الحكومية، بعدم توفير ابسط المقومات التعليمية فيها، كتغييب أهم ركن في العملية التعليمية -الكتاب المدرسي- عن ملايين الطلاب في أنحاء البلاد، باعتباره أهم الوسائل التعليمية الممكنة، - برغم توفره على أرصفة بعض الشوارع!!!!- ناهيك عن كارثة غياب التخطيط أثناء إنشاء هذه المدارس، فنجد مدارس حكومية متكدسة في منطقة ما، هي ليست بحاجة إلى هذا العدد من المدارس، وهناك مدرسة تم إنشاؤها في مكان لا يستطيع الطلاب الوصول إليه لعدة اعتبارات، منها البعد الشاسع عن التجمع السكاني، وعدم توفر وسائل النقل التي تسهل عملية الوصول من والى المدرسة، وهناك مدرسة يواجه الطلاب صعوبة التوجه إليها، نتيجة لوقوعها في منطقة تنازع قبلي أو ثأر، فتتحول هذه المدارس التي بنيت بطريقة عشوائية، إلى مأوى للمواشي التائهة، هذا إذا لم تظل في أيدي مجموعة من المتشردين أو مسلحي قبيلة معينة، وفي أحسن الحالات تتحول إلى ثكنة عسكرية للجيش، وإذا تحدثنا عن تسونامي المدارس الأهلية، فحدث ولا حرج، فالتصاريح لإنشاء هذه المدارس تصرف لكل من هب ودب، دون تحقيق أو تدقيق في ضوابط وشروط إنشائها، وفي تسيب صريح وواضح، وتغافل تام عن تطبيق معايير الجودة التعليمية، فانتشرت هذه المدارس بشكل يدعو إلى القلق، فنجد بين المدرسة والأخرى مرمى حجر، وهذا يثبت ويؤكد فيما لا يدع مجالاً للشك، انه لا توجد أي قوانين، أو تشريعات تطبق لتنظيم عملية إنشاء المدارس الأهلية، أو انه توجد قوانين ولكنها مجرد حبرٍ على ورق، ولا تحقق أدنى المعايير في إنشائها، لتجعلها صالحة لمزاولة مهنة مقدسة كمهنة التعليم. لقد أصبحت العملية التعليمية مصدر ربح لدى الكثير من ربابنة المال، ، وبأسلوب تجاري بحت، دون مراعاة لوازع الأخلاق والضمير، فلا هم لهم سوى اكتساب المال، في عملية هستيرية، نلحظها بداية كل عام دراسي، ويقبل الطلاب على الانخراط في صفوف وطوابير أقرانهم ممن سبقوهم إلى الجهل والتخلف، في ظل إهمال صريح للكادر التعليمي والتربوي فيها، وعدم الاكتراث بما يحمله من مؤهلات، وبما لديه من مهارات، فالمدير لا توجد لديه أي مؤهلات تربوية، تعينه على القيام بصناعة عملية تربوية وتعليمية فريدة وناجحة، اللهم من بعض الشهادات، التي اكتسبها من هنا وهناك، بصور مشروعة وغير مشروعة، إضافة إلى طاقم تعليمي، اغلبه من حملة شهادة الثانوية العامة، أو دبلوم عالٍ، إلا ما ندر، ممن لديهم شهادات عليا، رمت بهم الحاجة والعوز في براثن مصاصي دماء الشعب، من مريدي المال والثروة، المتخمين بأحلام خيالية ستتحقق نتيجة الكسب السريع من إنشاء هذه المدارس.لا استطيع أن أتخيل لا أنا ولا القارئ أي عطاء علمي سوف يقدمه هؤلاء المعلمون، من ذوي المؤهلات الدنيا، إضافة إلى الذين لديهم الكفاءات أيضا، في ظل أجور متدنية، لا يتعدى اكبر اجر يتقاضاه المعلم ذو الشهادة العليا 30الف ريال، ولا نستطيع أن نفكر في الانجاز العلمي الذي سيتحقق في ظل هكذا حال.إن إلقاءنا باللائمة على الدولة ممثلة بوزارة التعليم، كونها الجهة الرسمية الأولى المعنية بتطبيق جودة التعليم، إلا إن المواطن -الأب- أيضا لا يعفى من المسئولية، حيث يناله نصيب الأسد كسبب وعنصر هام في هذه المعادلة، حيث نجد تغافلاً تاماً من قبل الآباء عن ماهية المدارس التي يرمون بفلذات أكبادهم فيها، وعدم البحث والتحري عن أدائها التعليمي ومستواه، ولا عن دورها الرائد في نشر الرسالة التربوية والعلمية، وتغيب الدقة في الاختيار من بين المدارس المتميزة، فيقومون بإرسال أبنائهم إلى مدارس مقنعة غير معروفة، بل وأحيانا مدارس محجبة لا يعرف رأسها من قدميها، وحكم الكشف عليها حرام لأنها عورة، وعواقب فضحها وخيمة ولا تحمد عقباها.إن إهمال التعليم وأهميته في أوساط الأسرة والمجتمع، والحكومة كجهة معنية ومسئولة عن تحسين التعليم وجودة العملية التعليمية والتربوية، أدى بنا إلى الضياع، فلم نكن امة تذكر بالأمس إلا همسا، ولن نصبح اكبر من ذلك إذا استمر الحال على ما هو عليه، ومع غياب قانون صريح وواضح، ينظم العملية التعليمية ويقننها وابتعاد الجهات المعنية بشكل ملحوظ، عن الإشراف المباشر والفعال على سير العملية التعليمية وفق أسس واضحة ومعايير معترف بها، بسبب هذا وذاك كانت النتيجة الحتمية هي ظهور الكثير من المؤسسات التعليمية والتربوية الزائفة والمقلدة، وكثرت وأصبحت لا تعد ولا تحصى فكان منها الغث والسمين، والتي بدورها شاركت بشكل أساسي في ضياع الأجيال وتغييب الحس المسئول بالعلم باعتباره سلاحاً في حرب الفقر والنهوض ببلادنا وانتشالها من مخالب الجهل والتخلف اللذين لم يتقزما أو يصغر حجمهما أو يتضاءلا منذ قيام الثورة إلى الآن، بل استمرا في التكاثر بشكل وبائي مخيف يهدد بزوال امتنا السعيدة.في الأخير نوجز ونلخص المأساة ومن المسئول، فنقول إن الدولة ممثلة في رئاسة الوزراء، ووزارة التربية والتعليم، مسئولة مسئولية كاملة عما يحدث لأبنائنا وإخواننا من غسل للأدمغة والعقول، وما يحدث للتعليم والعملية التعليمية برمتها من تزييف وتزوير وتدمير، وما سببته من خلخلة منظمة لقيم شبابنا الذي نعول عليهم الكثير في المستقبل، فغياب الرقابة والتفتيش على هذه المدارس أدى إلى الحال الراهنة وتمسك مسئولينا بمناصبهم وكراسيهم خوفا عليها من الارتماء في أحضان أخرى غير أحضانهم الدافئة، فاقم المشكلة فأصبح كل معتوه ومن به جنة ينشئ مدرسة أهلية، في إهمال جريء لما يمكن أن تحتويه المدارس الأهلية من إمكانيات، وكثير منها في فقر مدقع واحتياج لأبسط مقومات المدارس العادية، وقدرات تعليمية رديئة في رسالة واضحة وجلية مفادها نحن لا نريد تنمية عقولكم نحن نريد تنمية جيوبنا.كل هذا واكبر، يحصل في وطننا الحبيب، ناهيك عن حالات التزوير، والغش المباح، بكل أساليبه في عملية هدم لأكبر قدر من عقول شبابنا، وتسميم أفكارهم بكل ما يمكن فعله، في رسالة اخرى مفادها - لسنا بحاجة إلى عقول أبنائكم لتصنع المستقبل بل نحن في حاجة إلى عقول تستوعب ما نقول ونفعل.
|
آراء
العملية التعليمية في اليمن
أخبار متعلقة