عبــدالناصـــر وثــــورة الجنـــــوب
للتاريخ أكثر من شاهد فهناك من عاصر الأحداث، وهناك من كتب عنها، وهناك من أدرك وقرأ واصدر حكمه الموضوعي ، وهناك من يسطر الحدث ويصدر الحكم حسب المصالح والانتماء، وإذا كانت مقولة: إن المنتصر هو من يكتب التاريخ، فإن تغييب أجزاء من الحقائق يدخل في إطار هذا التدوين لذلك يصبح تاريخ المنتصر لا يخلو من التحريف وتزييف الحقيقة.ولعل المسافات الزمنية الفاصلة بين ما جرى في السابق وما تشكل في الوعي في الراهنِ، وظهور ما كان خلف ستار الصمت، يعيد صياغة الموقف والإدراك بأمور وقناعات ظلت لحقب من المسلمات الثابتة في هذا الجزء من التاريخ السياسي والذي يعد أكثر الجوانب من تاريخ الحضارة الإنسانية تعرضاً للعبة الالتفاف على الحقائق، ومن هنا تصبح مسألة إعادة كتابة وقراءة التاريخ السياسي عملية تدخل في حالات التبدل والمنعطفات الخطيرة في حياة الشعوب.هذا الكتاب هو من إعداد وتأليف سالم علي حلبوب، يجمع فيه بين شهادات الجانب اليمني والمصري والبريطاني، وهذه الطريقة من الجوانب الموضوعية في الكتابة للتاريخ السياسي، يكون الطرح فيها مفتوحاً لعدد من الأطراف المشاركة في تلك الأحداث.صدرت الطبعة الأولى منه في عام 2012م وقد قدم له الأستاذ أحمد سعيد مؤسس إذاعة صوت العرب. و قد احتوى هذا المرجع التاريخي على العديد من الصور والوثائق المعززة لمعنى التوثيق التاريخي، فهو يعد من مرجعيات فترات الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في عدن والجنوب العربي، والدور المصري في هذا الظرف الهام من تاريخ عدن الذي ارتبط بالصراعات الدولية والعربية حول المنطقة، ومكانة عدن السياسية والمد الناصري وحركات التحرر التي نظرت إلى قضية إخراج بريطانيا من الجنوب كجزء من عملية تصفية الحسابات مع الاستعمار القديم، كحلقة اتصال في لعبة الأمم ليبدأ عصر الاستعمار القديم، كحلقة اتصال في لعبة الأمم ليبدأ عصر الاستعمار الجديد، الأميركي والسوفيتي في المنطقة، وتلك من القراءات التي لا تدرك في التاريخ الا بعد تقاطع المسافات، لتكون النظرة عن بعد رؤية مغايرة لتلك المواقف والأحداث.يبدأ مدخل الكتاب تاريخياً بموقف مصر من الاحتلال البريطاني لعدن عام 1839م، محمد علي باشا والي مصر والكابتن هينس، حيث وافقت السلطان العثماني محمود الثاني والذي حكم من عام 1808م حتى عام 1839م كان قد منح الجزيرة العربية لسلطة والى مصر في عام 1834م وكانت بريطانيا تراقب تحركات والى مصر والصراعات المستمرة حتى عام 1835م بين إبراهيم باشا والقبائل العربية في عدة مناطق مثل عسير واليمن وكان ابن والي مصر قد احتل الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، مما دفع ببريطانيا للتخطيط لاحتلال جزيرة سقطرى وكلفت الكابتن هينس وهو ضابط في البحرية الهندية بالقيام بمسح للجزيرة في شهر نوفمبر عام 1833م ولكن تلك المهمة لم تنجح بفعل العوامل الطبيعية ومنها الرياح الشديدة التي تهب على المنطقة، حيث يصعب الدخول والخروج معظم ايام السنة.يقول الكاتب سالم علي حلبوب: (اتخذت بريطانيا قراراً باحتلال عدن تمهيداً لبسط سيطرتها الفعلية على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهذا بعد ان فشلت المحاولات التي قام بها الكاتب هينس مع سلطان عدن محسن بن فضل العبدلي للتنازل عنها مقابل المال، ولم يكن هناك بد من الاستيلاء عليها بالقوة المسلحة وبالفعل تمكن الكابتن هينس من السيطرة الفعلية عليها في 4 ذي القعدة 1254هـ 19يناير 1839م ومنذ ذلك التاريخ أصبحت عدن ملكاً للحكومة البريطانية واتخذت بريطانيا منها قاعدة لإيقاف التوسع المصري في جنوبي الجزيرة العربية، لحماية مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة).من هذا المهاد التاريخي ندرك حقيقة الصراع المصري البريطاني على المنطقة والتي كانت فيه عدن إحدى مناطق التنافس على الممرات البحرية التجارية والعسكرية، فهذا الصراع وأنا حسم في تلك المرحلة لصالح النفوذ البريطاني، فإن دورات التاريخ استعادت تلك المواجهة في الحقبة الناصرية، وكأننا أمام تساؤل تاريخي، هل سعى جمال عبدالناصر لمد النفوذ المصري إلى الجزيرة العربية، واليمن هي الطريق الأولى نحو هذا الغرض؟إن مفارقات التاريخ في الصراعات السياسية لا تقف عند حدود نقاط محددة، فالجغرافيا هي من تعيد للمكان حضوره الإستراتيجي كلما إعادت مراكز القوى حساباتها في دائرة حروب المصالح.شكلت اليمن في هذا الصراع الحلقة الأضعف، فقد وصل حكم الأئمة إلى أدنى مستويات التصدع، فأصبحت اليمن المنفذ لهذا التطلع القومي.ولم يكن في الجانب الآخر (الإتحاد السوفيتي) بعيداً عن هذا الحلم، الوصول الى باب المندب وخليج عدن والراجع في تاريخه إلى عهد القياصرة، فكانت عمليات دعم حركات التحرر والفصائل المسلحة في الشرق جزءاً من خطة النفوذ الاشتراكي إلى هنا، والقراءة السياسة لتلك الأحداث توضح بأن هذا المد سوف يخرج من اليمن وبالذات الجنوب نحو الجزيرة العربية لولا نكسة 1967م التي كسرت ليس طموح العرب بالتحرير، بل التوسع السوفيتي عبر المشروع الناصري.من أهم الشهادات التي جاءت في الكتاب، في الهامش بالفصل الذي تتحدث فيه السيدة الدكتورة هدى جمال عبدالناصر، عن عدن والتي كانت منطقة حساسة للانجليز ولم يكونوا يرغبون بالخروج منها مطلقاً.حيث جاء: (وفي عام 1962م وعند زيارة وزير الدفاع البريطاني في عدن سئل في مؤتمر صحفي عما إذا كانت عدن قد أصبحت قاعدة ذرية، كان جوابه بأن عدن الآن مستعدة للدفاع ضد أي هجوم ذري عليها.وفي جواب وزير الدفاع البريطاني هذا، اعتراف ضمني بأن عدن أصبحت فعلاً إحدى القواعد الذرية البريطانية، وهي نفس السنة التي أشارت فيها الصحف البريطانية إلى أن عدن تعتبر إحدى المحطات الأربع العالمية لخزن القنابل الذرية والهيدروجينية البريطانية والثلاث القواعد الأخرى هي بريطانيا نفسها وقبرص وسنغافورة .وفي أوائل السنة نفسها، 1962م وعلى وجه التحديد في 16 يناير 1962م وأثناء زيارة وزير الحرب البريطاني، جون بروفيموه، لعدن صرح في مؤتمر صحفي عندما سئل عما إذا كانت قاعدة عدن الحربية مزودة بالأسلحة النووية ـ صرح يقول بالنص: إنه من غير المعقول أن يهمل المرء الإستراتيجية لأية قاعدة عسكرية.وفي نفس هذا المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الحرب البريطاني، آنذاك صرح:بأن بريطانيا لن تتخلى إطلاقاً عن قاعدتها الحربية في عدن وان الحكومة البريطانية تنفق ملايين الجنيهات من اجل تحسين قاعدتها.وفي شهر يونيو سنة 1964م أكد وزير الخارجية البريطانية المستر بتلر في مجلس العموم البريطاني تصميم بريطانيا على البقاء في قاعدتها الحربية في عدن وقال:ان قاعدتنا في عدن مهمة ليس فقط في مضمار التزاماتنا الدفاعية عن الخليج وفي المنطقة، بل مهمة أيضاً كحلقة اتصال للدفاع عن الكومنولث والغرب عبر العالم كله.ولقد دلت الأحداث على أن الاستعمار البريطاني، قد جعل من هذه القاعدة الحربية العدوانية في عدن قاعدة وثوب تهدد سلامة وامن الوطن العربي ككل، ولا شك أن في استعمال قواته البحرية التي كانت مرابطة في عدن في عام 1956م ضد مصر أثناء العدوان الثلاثي الغاشم اكبر دليل على ذلك، وكذلك ما حدث في عامي 1955 ـ 1957م لضرب ثورة عمان وما حدث أيضاً من تمردات في شرق إفريقيا، ذهبت قوات بريطانية من هذه القاعدة للحفاظ على المصالح البريطانية والنفطية هناك وأخيراً فإن تدفق القوات البريطانية من عدن لاحتلال واحة البريمي يطرح دليلاً آخر على نية بريطانية العدوانية في استعمال هذه القاعدة العسكرية كمركز عدوان استعماري).كيف كانت قراءة الإتحاد السوفيتي القادم إلى المنطقة عبر بوابة حركات التحرر العربية لمكانة عدن في الصراع الدولية؟ما يستنتج من مرجعيات هذا الكتاب بأن تسليم بريطانيا الحكم للجبهة القومية، هو عملية سياسية هدفت إلى قطع طريق الوصول إلى هذا المكان على أمريكا والتي طمحت إلى احتلال موقع بريطانيا في عدن حتى تتم السيطرة على الميناء الدولي والممرات البحرية غير أن المشروع الناصري قد فوت الفرصة على أمريكا.من القضايا المهمة التي يطرح إبعادها هذا الكتاب والتي مازالت بحاجة لدراسات وجمع معلومات وقراءة موضوعية، الخلافات التي عصفت بالأحزاب السياسية في تلك الحقبة، فهذا الانقسام حول طرق العمل والأهداف السياسية، قد جعل بريطانيا تدرك أن هذه الأرضية لم تعد صالحة للاستقرار فيها، وكما يبدو إنها قد عرفت نحو أي مسار سوف يذهب الجنوب، فكان الاستقلال 30 نوفمبر 1967م الذي أوصل فئة سياسية للحكم واسقط غيرها من المعادلة فكانت بداية نفي الآخر من هذه المساحة، ولكن هنا تدخل حسابات التاريخ التي لا تحدها حالات عابرة من الانتصارات الحماسية ـ السياسية، وفقدان الثوابت هو من أسس تحركات المجتمعات، لذلك نجد الكثير من الثورات ذهبت في غاياتها نحو النفق المظلم، وهذا ما وصل إليه حال الجنوب بعد عام 1967م لقد برهنت قراءة مراحل الصراع، أن الثورة تأتي بالنصر ولكنها لا تصنع قيادة دولة، وهناك فرق بين أن تكون مناضلاً، وان تكون رجل دولة.تلك من المفارقات القاتلة التي سقط فيها الجنوب بعد خروج بريطانيا، حيث غابت الرؤية حول الفرق بين عمل السلاح وقيادة الدولة.وهناك تساؤل تطرحه المسافة الزمنية الفاصلة بين تلك الأحداث والراهن.هل كانت قيادات العمل السياسي على ارض الجنوب، تدرك أن أي بلد تحكمه بريطانيا وتخرج منه بالسلاح والقتل لا يعرف الاستقرار؟ّ!.في السياسة لا يعد الكفاح المسلح سوى بداية الطريق نحو هدف محدد، ولكن تصارع الاتجاهات يخلق أكثر من أزمة ربما تفوق وجود الاستعمار على الأرض، فدوامات التناحر تصبح من قواعد إدارة عمل السلطة،وكما كانت محاربة الاستعمار بالسلاح تصبح عملية إقصاء رفاق المسيرة بنفس الأسلوب.هذا النوع من الكتب تعرفنا على أحداث ومراحل وشخصيات، ولكنها تقرأ من منظور الراهن، لأن مسافات التاريخ تعطي لكل جيل رؤيته نحو ذلك الاتجاه، وخروج المعلومات من دائرة الارتهان الذاتي إلى مساحة القراءة والرأي يعزز جزئيات من التاريخ في سفر ذلك الزمان وهو من الأعمال التي تجعل شاهد الحدث حلقة متصلة مع سجل الوعي الفكري الذي تتراكم مراحله لتشكل لكل فترة من الحياة هوية لتاريخ امة، قد نختلف مع أحداثها، ولكنها تظل أشياء لا يمكن إسقاطها من الذاكرة، فهي جزء من الكل، وهذا ما سعى إليه الأستاذ سالم علي حلبوب من خلال كتابه هذا، فهو شاهد على فترات مازالت العديد من وثائقها بحاجة لمثل هذا المجهود حتى تتوسع مساحات القراءة والتساؤلات في هذا الجانب.