أ . د . هشام محسن السقاف رئيس منتدى (( الوهط )) الثقافي بمحافظة لحج لـ :14اكتوبر
الـتـقـاه / عـيـدروس زكـي إن الحديث إلى شخصية أكاديمية مثقفة و سياسية سامقة بحجم الأستاذ الدكتور هشام محسن السقاف، المدير العام لمكتب وزارة التربية و التعليم بمحافظة لحج، رئيس منتدى (( الوهط )) الثقافي بالمحافظة، لهو حديث ذو شجون، إذ سبرنا معه أغوار مشهد الأغنية اللحجية بأريحية منداحة حول قديمها نديمها و مستوياته العــلى التي احتلتها حتى وصلت أصداؤها إلى أصقاع العالم بأسره، و مآلاتها المريرة في الوقت الحاضر ، و مسببات الغياب في هذه الأثناء لفاعلية مثلثها الأساس المكون من : ((القصيدة الموضوعية - اللحن الشجي - المطرب البديع )) الذين أضحوا ــ مجتمعين ــ اليوم بعيدين جداً عن الأغنية اللحجية المعهودة . إدارة الثقافة بصحيفة (( 14 أكتوبر )) غاصت في أعماق الأغنية اللحجية والمؤثرات الاجتماعية والسياسية عليها ماضياً وراهناً مع السياسي والأديب والمؤرخ والشاعر والقاص الشهير الأستاذ الدكتور هشام محسن السقاف، وخرجت من لقائها به بالحصيلة المعلوماتية المهمة المفيدة التالية : خصوبة الفكرة الإنسانية- ما الذي جعل الأغنية اللحجية تتربع عرش المكانة المرموقة الأرفع في صعيدها الفني الموضوعي الهادف عالمياً، في القرن الميلادي الماضي العشرين وكأنما وصفة سحرية لازمتها؟ -- في البدء نثمن عالياً الاهتمام السرمدي لإدارة الثقافة بصحيفة (( 14 أكتوبر)) الغراء بالشأن الثقافي الفني الغنائي الوطني ولا سيما الفن اللحجي الأصيل الطروب، و ثمة ما يلح في مشهد الثقافة للبحث في جنباته عن إجابات شافية لأكثر الأسئلة إقلاقا ً هذه الأيام، ارتباطا ً بتداعيات ما يحدث، وهل السقوط المدوي في عديد النواحي وصولاً إلى الثقافي والأخلاقي، كلها شواهد على مرتبة الأسى التي نقف عليها تمثلاً لحال الشاعر القديم الباكي امـرئ الـقـيـس على أطلاله ؟ ! (( وقوفاً بها صحبي علي مطيهم ** يقولون :لا تهلك أسىً و تجمل )) . و لقد مثلت الثقافة في دثارها العام، و الشعر و الأدب والموسيقى و المسرح في جنباتها المثلى، حالات مجتمعة للوعي الناهض في (( سلطنة لحج ))، (( العبدلية))، الأثيرة السائدة حتى الـ 30 من نوفمبر (( تشرين الثاني)) 1967 م، يوم استقلال الوطن المجيد، لحج على عهد (( عبادلها)) الرواد اتكاء ً على وضع سياسي مستقر استمد ديمومته من النشاط الاجتماعي للسكان في الزراعة و الفلاحة و الارتباط بالرضا النفسي في (( الذات اللحجية))، و ما صاحبه من انتعاش اقتصادي سببه (( الإتاوات)) المستقطعة على البضائع المارة بالسلطنة من البر (( اليمني)) إلى (( عدن )) أو الخارج من (( عدن)) إلى (( اليمن))، و دون أن نغمط الإرادة السياسية حقها في تسخير ذلك لصالح (( السلطنة)) فامتازت عن جوارها الآخر بصفة الدولة الكاملة، فظهر في (( سلطنة لحج)) التعليم النظامي المبكر و قبل ذلك كانت حلقات (( الجوامع)) تكتمل بـ (( السلطان)) نفسه الذي كان وقتها يذهب هو بشخصه إلى العلم لا أن يذهب العلم إليه، و كانت الخصوبة تنزاح من التربة إلى الفكرة الإنسانية بتباشير الغناء الفطري الذي تردده الألسن، استجابة لخرير السيول وانسجاماً مع حفيف المحصول و استرسالاًً إلى مواكب الأفراح و الزيارات لأولياء الله الصالحين و ما أكثرهم في لحج ، هذا الاحتفاء بكل ما هو نابض في جنبات الأرض والإنسان، لا بد ــ و نشدد هنا على لا بد ــ أن يرقى بمصنفاته من التراجيع والأهازيج التي تردد دون أن تجتاز عتبات البيت الشعري الواحد أو الثاني، لتجد في ناحية الابتكار للأمير الشاعر الراحل أحمد بن فضل بن علي بن محسن العبدلي الشهير برتبته العسكرية (( القومندان ))، ما يجعلها زاهية باكتمالها كأغنية : (( يا فل يا عود ماء وردي و عنبر و انته عسل (( جرداني )) وسكرفين وليت ؟ ! . . دوبي تخبرلما متى ؟ !يا قلبي تصبرفين وليت ؟ ! . . قلبي تفطر بعدك على الله في بحر أو بريا ليل أبيض أو يوم أزهرفيه اللقاءيا قلبي تصبرانته بطل من شافك تقهقر تخشى بعادك عرب و بربر ليه يا سيد مني تفرفر ؟ !ما بأعذركيا قلبي تصبرالعنق بلور و الصدر مرمر و أنا متيم باجي و بأزقرباقول قر يا سمن البقر قرلما متى ؟ !يا قلبي تصبراشرب معي يا سيد و اسهر سمرة كما (( عبلة )) و (عنتر ))لما يقول : الله أكبرما بأفرقكيا قلبي تصبركم لي من المولد تخور بالي (( مشبك )) أو ((مكركر ))و الزين سمرني و كثريوم الهناءيا قلبي تصبرشوف العشي سود و غبر ركب على الوادي و زقرهاتوا عباتي خاف بأمطر ؟ !يا فرحتييا قلبي تصبر شن المطر و السيل دفر و الطين ساقي خاف يوفر ؟ !عاد البقر من شق (( خنفر ))با جيبهايا قلبي تصبر هذا (( زبيدي )) بلح و صفر صبح مناصف رطب مفرفرو ذا عنب من (( زحلة )) و (( صوفر ))خريفيا قلبي تصبر )) .فرضيات دلالية ريادية- فترة ما بعد (( القومندان )) هل ثمة عوامل وضعت الأغنية اللحجية في الصدارة نفسها التي عاشتها في عهده الذهبي ، الذي شهد انبلاج فجر أغنية لحجية مستقلة بذاتها أسست بأيد (( قومندانية )) صرفة ؟ !-- أجل . . إذ كان (( عبادل الأغنية اللحجية )) في (( دورتها الثانية )) يتلمسون بحس المبدعين سبل النشور لأفق موسيقي مغاير دون جحود أو تنكر لكبيرهم الذي (( علمهم فن )) ، الأمير أحمد بن فضل بن علي بن محسن العبدلي (( القومندان )) ، ففرضيات واقع ما بعد الحرب الكونية العالمية الثانية غير ما في الدلالة و المضمون لما كان يعتمل في ثنايا الديار اللحجية عقب الحرب العالمية الأولى، و الاستعداد الفطري للتجديد نما عن رؤية ثاقبة لمواكبة مستجدات ما طرأ في الحياة العامة، بالخروج من عباءة (( القومندان ))، ليس على شاكلة التمرد على (( أستاذهم )) و إنما بالامتداد المنظور، و كانت ريادة هذا الاتجاه للفنان الكبير فضل محمد اللحجي، والأستاذ الشاعر والثائر الفنان عبد الله هادي سبيت، إلى جوار المبدعين : الأمير محسن بن أحمد بن مهدي العبدلي، والأمير صالح بن مهدي بن علي العبدلي و صلاح ناصر كرد ومحمد سعد صنعاني و أحمد يوسف الزبيدي ومحمد صالح حمدون و حسن محمد عطاء الله وأحمد صالح عيسى ومهدي درويش البان وعبد الكريم عبد الله توفيق و فيصل علوي وعلي سعيد العودي وفضل ميزر خميس و فضل كريدي و يسلم حسن صالح وسعودي أحمد صالح تفاحة ومحمد عوض شاكر وعبد الله سالم باجهل وأحمد عباد الحسيني و محمد رزق و غيرهم كثيرون من أعلام لحج الفنية وعمالقتها المبدعـون شعراً و لحناً و غناء طروباً .(( العاطفي )) و (( الوطني )) و المواكبة- قطار الأغنية اللحجية الخالدة في عهدها الأزهر ، هل قضبانه كانت متينة و مضت بركبها في خطيها (( العاطفي )) و (( الوطني )) المتوازيين ؟ -- إن الحس الفني كان ينطلق بالأغنية اللحجية لمواكبة الأوضاع الاجتماعية و السياسية المتبدلة بتبدل الوعي العام محلياً و عربياً دون أن يخلو (( العاطفي)) من مكانته في نهر الإبداع المتحرك ، فجاءت (( التخريجات)) في (( العاطفة)) ارتقاء ً إلى الأفضل على سلم الإبداع ، كأغاني : (( سألت العين)) و (( القمر كم با يذكرني ؟ ! )) و (( يا باهي الجبين)) و (( و لما متى يبعد و هو مني قريب ؟ !)) إلى جانب : (( أسألك بالحب يا فاتن جميل)) و (( يا معذب في الهوى ما أصبرك)) و (( لوعتي)) و (( يا شاكي غرامك )) و (( ساكت و لا كلمة)) و (( تقول العين ذا ملكي )) و (( يا ربيب الحب)) و هلم جرا ً من روائع الغناء اللحجي العذب، و مع صعود الأغنية الوطنية و السياسية بمعطيات ما أفرزته المرحلة من نهوض قومي ثوري في الوطن العربي، كانت الحفلات الغنائية لدعم الثورة الجزائرية و مناصرة مصر العروبة التي نظمتها (( رابطة أبناء الجنوب العربي)) و كان فتاها المبهر شيخ الثائرين عبد الله هادي سبيت، و الفنان الفتى حينذاك محمد صالح حمدون، من خلال بروزهما معاً على خشبات المسارح الغنائية الوطنية في لحج وعدن و كانا حديث الصحافة العدنية، و كان أيضاً ما أراده المبدعون: الأديب عبد الله هادي سبيت والفنان فضل محمد اللحجي والشاعر صالح سعيد نصيب وعلي عوض مغلس، و سواهم من الشعراء والفنانين يقدمون (( بروفة )) لثورة قادمة في وطنهم، و عندما قامت الثورة في مطلع الستينات من القرن الميلادي المنصرم العشرين، كان أوار الأناشيد و الأغاني الثورية يسير مواكباً لمراحل و منعطفات هذه الثورة و إن كان (( العاطفي )) قد توارى إلى حين، لقد كانت الموسيقى في لحج تعبيرا ً عن حال عامة شهدتها هذه الديار في (( دورة الغناء الثانية ))، فالذين يحتشدون عاطفيا ً في ذواتهم معنيون بتقرير الحال السلوكية المتأثرة والمؤثرة بكل تفاعلات المعطى الثقافي في بلدهم، فالذائقة الموسيقية مؤشر إلى المدى الذي تبلغه الجماعة الإنسانية من رقي دورته، هذا الإحساس المتجلي استجابةً للفن والتعاطي معه والولوج في مشهده بالتفاعل الإيجابي معه .التأثر سلباً بحرب 1994 م-ختاماً أتعتقد أن الفعل الموسيقي قد جاور العمل الثوري عند تشكل إرهاصاته في ثورة الـ 14 من أكتوبر (( تشرين الأول )) 1963 م العظيمة، وحرب صيف العام 1994 م المشؤومة ضد الجنوب هل كانت لها تأثيراتها السلبية على الموروث الغنائي اللحجي الغني المحرز على مدى قرن من الوقت ؟ !-- في حقيقة الأمر و في معطى الثورة في بداية الستينات من القرن الميلادي الفائت، كانت الأغنية اللحجية، وقد بشرت بالتغيير و ناصرت الثورة العربية منذ النصف الثاني من الخمسينات، مضت مواكبة و داعمة بانحيازها الكامل في التغيير، و إذا ما رأينا تراجع أو خفوت (( العاطفي )) و إلى حد ما، بانشغال الناس بالحدث العاصف، فإن أغاني (( التثوير )) في لحج قد اكتسبت بعداً لحنياً و أداء يجعلها تخرج من نمطية (( الآني والمناسباتي )) وتنزاح إلى مصاف الأغنية العاطفية بقاء ً لا تحكمه عوامل الزمن، و لم تكن الموسيقى والفن في لحج بمعزل عن فعلها المؤثر المجموع العام للسكان، بل كانت ناشئة التأثر والتأثير تمضي بوتيرة وبالتكتيكية تستمد من الناس ألقها الكبير الذي غطى مساحات مأهولة في الحس الجمعي للأمة، لكن ذلك لم يكن ليتكامل بمردوداته الحسية والوجدانية لولا الروافع القوية التي حملته إلى فضاءات مفتوحة، وعندما تساقطت هذه الروافع وانقشع غبارالحرب الظالمة في صيف العام 1994م على الجنوب، عن معطيات أخرى مغايرة تماماً لفكرة الدولة المدنية، إذ اختفى الوجه الآخر للسلوك المدني الحضاري من حياتنا، فالأفراح في الزيجات نكثت عهدها لكونها ملتقيات إنسانية بديعة بسمرها وفنها، لتصبح اليوم حال من إقلاق السكينة العامة بالرصاص الملعلع والألعاب النارية المخيفة دون مراعاة لحرمة النائمين في مساكنهم، وعندما أخفيت ــ قسراً ــ حصص الموسيقى من مقررات التعليم فسدت ذائقة التلقي الفنية عند النشء، وخرج المسرح من حياتنا وهومن أروع الفنون الإنسانية وأغلقت دور السينما و أصبح (( تابو)) المحرمات المنبثقة من تفكير الدولة (( الرعوية)) القبلية (( السبعين )) المستمدة من جاهلية ما قبل الإسلام، وإننا الآن في أسوأ ما يمكن أن تعمله من تثبيت لحالها المتخلفة والقادمة إلينا من خارج العصر، و لن تستقيم الحال إلا بزوال رموز هذه الدولة و العودة إلى (( عقد اجتماعي تصالحي)) ينهض بالأعباء و ينفض عنا غبار هذه المرحلة .