من روائع الأديب د. عبد السلام العجيلي
كتبت / دفاع صالح:بأسلوب بسيط قل مثيله، ولغة فصيحة سليمة، صاغ الأديب د/ عبد السلام العجيلي إبداعاته التي أعطى فيها للكلمات نبعاً من الحياة حتى نراها وهي تطل من الورق كأنها روح تتنفس ..ففي قصة ( بريد معاد ) نجد متعة فنية قادرة بقيمها الجمالية على الوصول إلى أعماق أحاسيسنا، لاسيما وأنها من القصص الفلسطينية، كمثيلاتها ( كفن محمود ) و ( بنادق في لواء الجليل ).. الخ، التي قال العجيلي إنه تعمد فيها الالتزام بالواقع وإن اختلفت طريقة الرواية وابتداع الشخصيات.( بريد معاد ) قصة تتحدث عن صحوة القيم والمثل عند ( بطل القصة )، بعد أن غرق أو كاد أن يستهلك في خضم الحياة المادية التي حولته إلى آلة حاسبة تتحرك بمقدار ما يدفع من نقود، وتزن الأمور بالمصالح والمنافع المتبادلة، فهو المحامي الذي تمر به العقود وينظم الصفقات والعلاقات التجارية، وفي الوجه الآخر من هذه الحياة المادية نراه يستعد لأيام الصفا في بيت جديد ينسى معه العالم وآلامه..فالقصة بدأت من مكتب ( الأستاذ عبد الحليم) المحامي إذ ينتظره اثنان : شاب اسمه يوسف عرفه في فلسطين أيام الفداء والصداقة المجردة والتضحية، وآخر من المقاولين التجار ( صياح آغا)، عرفه حين أصبح رجل العمل الناجح وأوصد بابه دون من ليس في لقائه فائدة تجنى أو ربح ينال..شاب بالباب يقول أن اسمه يوسف وأنه يعرفك من فلسطين..قل له : إني مشغول.. مشغول جداً..هذا ما دار بين ( الأستاذ عبد الحليم) وكاتبه، وعودة إليهما :إن صياح آغا في غرفة الانتظار، وهذا الشاب الذي اسمه يوسف أعطاني هذا المظروف.** ادخل صياح آغا إلى هنا، ثم اصرف هذا الشحاذ...وبين الانتظار، وإكمال المكالمة الهاتفية مع خطيبته، يحرك (الأستاذ عبد الحليم )، مظروف الرسالة القديمة، فيعود إلى الماضي، إلى أيام المواجهة مع الصهاينة سنة 1948م، حيث القتال يدور حامياً، والمتطوعون يحاولون بوسائلهم البسيطة دفع الخطر ويتمسكون بالتراب الفلسطيني الطاهر :(( ومد يده ليزيح المظروف بظاهر كفه، ولكن عينيه تبينت كتابة تكاد تكون مطموسة على وجهه فخيل إليه أنه يعرف حروف هذه الكتابة ويعرف كاتبها.. وأحس ببارقة من التفكير، وبيد من الماضي تعتصر فؤاده..))ثم نلحظ ثانية تعمق العودة إلى الماضي وذلك أن عبد الحليم يرجع إلى طفولته وتربية أهله الشديدة، ويظهر فيه الوالد الصارم والأم الحانية بقلبها الخفاق :(( وبينما كانت عواصف من العواطف والذكريات تجيش في نفس الأستاذ عبد الحليم عائدة به سنوات إلى الوراء، امتدت يده في هدوء إلى طرف المظروف البالي فمزقته وأخرجت منه ورقة مطوية فضها وأخذ يقرأ الرسالة المكتوبة فيها في تروٍ وإناة أبي..لابد أنك تلقيت نعيي قبل أن تصلك هذه الرسالة بأمد قد يكون طويلاً وسأثير عبرتك من جديد وأبعث الدموع في عينيك الصابرتين..ما كنت تغدق علي عطفك إلا في غيابي ولا تقبلني إلا عندما أكون نائماً..أمي.. لكم قسوت عليك واستقبلت ببسمة اللا مبالي خوفك علي..))وأثر ذلك تدور الحركة لنشهد ولندرك وقائع معركة حاسمة يشارك فيها عبد الحليم الذي ترك دراسته وهو في آخر سنة حقوق :(( أنا هنا على هذه القمة.. قمة سبلان، فوق قرية حرفيش من لواء الجليل..(( وستفخر يا أبتِ إني واحد منهم.. واحد من أولئك الفدائيين الذين يقودهم الملازم عمر..))ويشير الكاتب إلى تفاصيل دقيقة وممتعة، تضيف للمعنى قوة وحيوية، كهذه الفقرة :((.. هذا كلام بيني وبينك أرجو أن لا يبلغ مسامع أمي وإذا أصرت خالاتي على أن تقرأ عليهن هذا الكتاب فاقفز هذه الفقرة منه..))وحين تحدث عن رفاقه الفدائيين في قمة سبلان قال عن يوسف :((.. وذلك القصير المتكوم على نفسه هو يوسف وهو الذي سينقل إليك هذه الرسالة..إذا أتاك فأكرمه يا أبي.. أحسب أني لو أعطيت الحياة بعد يوم ( جدين ) لوهبته نصف ما أملك وأنا راضٍ، لا لشيء إلا لإيثاره إياي بخير ما تملك يداه في هذه البقعة المنقطعة من الأرض..إن يوسف وستراه، قميئاً وذميماً ناتئ عظام الوجه أحد الذين ( تسلبهم مظاهرهم الجولة الأولى من قلوب الناظرين ) فلا يخدعنك مظهره عن جوهره يا أبتِ..))ومع طي أوراق الرسالة نعود إلى المكتب حيث يطلب ( الأستاذ عبد الحليم ) من الكاتب أن يدخل يوسف ويؤجل لقاءه مع صياح آغا :(( قل لصياح آغا إنني مشغول اليوم، وأدخل يوسف فما أحسبه قد ذهب.. أدخل يوسف)).إن هذا الأسلوب الرائع يخلق حيوية في العمل الإبداعي ويربطنا على نحو أشد مما لو كان معتمداً على السرد المباشر الذي يتسلسل في تتابع زمني يبدأ?من الزمن الأبعد إلى القريب، وكذلك السمات والخصائص التي كونت شخصية (عبد الحليم)، لم تكن وصفاً خارجياً من راوٍ يروي لنا القصة وإنما جاءت من خلال كلماته ومحاورته لأبيه وأمه عبر الرسالة.والقصة لم تغفل ربط العناصر الخيرة في تكوين شخصية ( عبد الحليم ) بصحوته، فقد أثارت شرارة التذكار ما كان كامناً في نفسه إذ عرف معنى التضحية بذهابه مجاهداً إلى أرض فلسطين، ولمس الإيثار عندما كان شاب صغير ( يوسف ) يؤثره بكل خير ويقدمه على نفسه، ورسخت في أعماقه صور أولئك الذين تركوا أهلهم وديارهم من مدن وأقطار عربية للنضال في سبيل الأرض العربية الفلسطينية. فالقصة قد خاطبت أحاسيسنا من خلال محورين، الأول : تناولها جانب مؤثر في حياة شباب هذا العصر، وهو الرغبة الاستهلاكية والاندفاع وراء المادة في العالم المعاصر، إذ لابد للإنسان من وقفة مع النفس ليكبح جماح هذه الرغبات التي لا تنتهي، وليرى الآخرين بشراً وليعايشهم بقلبه وبالمحبة والود متجاوزاً تبادل المنفعة المادية.والمحور الآخر هو أن القصة تتصل بجانب مهم في نضالنا العربي وهو تحرير الأرض العربية الفلسطينية المقدسة.