المستشرق البريطاني الفريد هوليداي
نجمي عبدالمجيد الحالة الراهنة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط تدفع بالاتجاهات الفكرية الغربية إلى وضع عدة قراءات لما تفرزه كل حقبة من معادلات الصراع العقائدي والثقافي والسياسي، والى أي مستوى من مفارقات التطرف تتجه تساؤلات الهوية.فهذه المنطقة من العالم، أصبحت محط الاهتمام المركزي لدوائر صناعة القرار في الغرب، وأهم محاور الأزمة التي ترتكز عليها قوة الصدام بين الشرق والغرب هي: الدين والسياسة والثقافة والهوية .ما يطرحه علينا المستشرق البريطاني الفريد هوليداي في كتابه (الإسلام وخرافة المواجهة ـ الدين والسياسة في الشرق الأوسط) ينطلق من الحاضر العربي الإسلامي القائم على حدة المواجهات في داخل المنطقة ، او في الخارج وهي فترة الانقسام الثقافي الذي يسلخ التاريخ كوحدة إنسانية متصلة في تسلسل الأحداث، وطرح الفردية المنغلقة على الذات إلى حد نفي الآخر، بل ووضعه في حصار الحرب العقائدي للمقدس.يقول الفريد هوليداي : (هناك مسألة الإرهاب، وهي مسألة ترتبط بشكل واسع في ذهن الجمهور الغربي بالشرق الأوسط، ولا سيما بنوع خاص من المنحى الإسلاموي في أعمال خطف الطائرات والأشخاص وتفجير المدنيين. والحق ان أعمالاً من هذا النوع قد نفذت على أيدي مناضلين من عديد من الأيديولوجيات في الشرق الأوسط. غير أن هناك قدراً كبيراً من التشوش في مناقشة الإرهاب.وقدر من النسبية التاريخية أساسي هنا. وفي المقام الأول فإذا أخذنا (الإرهاب) باعتباره أي فعل إرهابي تقوم به مجموعة سياسية مدنية ضد مدنيين غير مقاتلين، فإن الظاهرة ليست بأي حال خاصة بالشرق الأوسط. فقد وجدت أعمال إرهابية من هذا النوع طيلة جانب كبير من التاريخ المدون، وكانت جزءاً شائعاً في كثير من البلدان والحضارات في القرن العشرين.ولم يأت الإرهابيون الأول في السياسة الحديثة من الشرق الأوسط، بل كانوا من الفوضويين الروس، والجمهوريين الإيرلنديين، والقوميين الأرمن، والبنغاليين الهندوس، ليأتي بعدهم اليهود الصهيونيون والقبارصة الأتراك وغيرهم في فترة ما بعد عام 1945م. ولم ينشأ الإرهاب السياسي الحديث في الشرق الأوسط، أو بين المسلمين ولا كان الطابع الأغلب للقائمين به من هؤلاء.ولا تعاني مناقشة الإرهاب من التطبيق الانتقائي للتعبير فحسب بل كذلك من مشكلات التعريف، فقد استخدم التعبير ذاته في الأصل في سياق الثورة الفلسطينية لا يشير إلى أعمال الإرهاب غير الرسمي بل إلى استخدام الدولة للإرهاب لأغراض سياسية. وبهذا المعنى فقد كان بالطبع أداة واسعة الانتشار في دول الشرق الأوسط في الفترة الحديثة، لكنه لم يكن قاصراً عليها بأي حال.وقد ارتكبت كثير من الدول العربية واسرائيل وتركيا وإيران أعمال إرهاب ضد رعاياها او ضد السكان الذين يفترض إنهم يمثلون خطراً في الدول المجاورة، كما ارتكبتها ايضاً ـ ولا نكاد نكون في حاجة إلى تأكيد ـ دول في جانب كبير من أوروبا وغيرها في القرن العشرين.وربما كان اكبر تشويش في الجدال حول الإرهاب هو فكرة ان ممارسته توجه عادة خارج المنطقة ذاتها ـ للأوروبيين أو لزوار المنطقة للصحفيين او السياح اوالدبلوماسيين. وقد حدثت هجمات إجرامية ضد مثل هؤلاء الناس، لكن اكبر قدر من الإرهاب والى مدى بعيد سواء من جانب الدول او المجموعات غير الرسمية ـ قد نفذ داخل المنطقة ضد شعوب المنطقة نفسها.والعدد الأكبر من ضحايا إرهاب دولة ما هم على الدوام رعايا هذه الدولة. وبالمثل فإن عمليات القتل في النزاع الطائفي (ويعد لبنان أوضح مثال) قد تجاوزت كل ما شهدناه في العمليات الأجنبية للمجموعات النشطة).عندما تطرح رؤية مثل هذه علينا ان لا نسقط دور الفكر ـ الثقافة عندما تتحول خصائص مثل الدين والمذهب والقومية والعشائرية وغيرها من الشروط الذاتية الى مشاريع سياسية يسعى أصحابها إلى فرضها على الأطراف الأخرى.فالعنف هنا يبرر كحق للدفاع وتوسيع مساحة الحضور، وهذا لا يقوم الا على شحن العقول والأفكار بثقافات العمل الإرهابي، فالطرف المغاير يدخل في دائرة الحرب، والهدف الذي يجب ان يضرب، فتصبح عقيدة الدم والسلاح هي القاعدة الأمثل في قيادة الفكر.فالصراعات السياسية القائمة على العنف، العمل الإرهابي، لا يتصل بالمقدس، بل هي افكار تقوم على الاجتهاد الفردي الذي يخدم الأغراض السياسية ولكنها تعزز بين الناس كحقائق لا يجوز الخروج عليها لأنها من جوهر قداسة الدين او المذهب والجماعة او النظرة السياسية لفرض الحضور في العمل.ولكن هذه الظاهرة لا تخلق ارضية موحدة في داخل هذا الاتجاه فهي تفرز مراحل من الانقسامات في الثقافة والهوية حتى تصل الى حد التناحر فيما بينها، وهذا يدفع الى مسارات من الهويات المتصارعة وثقافات الإلغاء، وإيجاد عقليات تقف على مربع واحد من السعي للإنفراد بكل شيء، وهذا هو العجز الفكري.ان مايطرحه علينا الفريد هاليداي حول تأصيل ظاهرة الارهاب بهوية الشرق الاوسط، لا يسقط دور مجتمعات اخرى كانت هي من ذهب الى هذا الفعل تحت فترات من صناعة القرار السياسي فالعنف المسلح هو جزء من ثقافة وهوية الطرف الساعي الى اخذ حقه او فرض مشروعه بعقيدة السلاح والدم.ولكن ماجعل ظاهرة الإرهاب مرابطة عند الاتجاه الإسلامي، أهمية هذه المنطقة في الصراعات الدولية بل هي صاحبة تاريخ وثقافات متصلة بأهم الأديان السماوية، الى جانب التاريخ القائم على الصراع بين الشرق والغرب، والاختلاف في جوهر المقدس، وما الهوية والثقافة الا وسائل تعزز التصارع والإنقسامات لأنهما من ركائز فرض الوجود على العالم.فالثقافة والهوية ليس مايخرج منهما هو وليد الطبقة الحاكمة في المجتمع، ولكن الطبقات الدنيا تملك القدرة على خلق اشكالها الفكرية والسياسية وهويتها الذاتية بعيداً عن هيمنة الدولة، وهي اخطر الثقافات التي تتوسع في البيئات الشعبية لانها تسعى للتمرد وضرب المفروض عليها وكسر ثوابت المجتمع حتى المقدس يتحول الى غرض يخدم الغاية وفي ذلك سقوطه من منزلته في القلب والعقل فهو من المتحول الذي يشكل حسب طلب المصلحة، مما يفرز ثنائية التناحر في عقيدة التوحيد.حول العلاقة بين الاسلام والغرب يقول الفرد هاليداي (قليلة ـ ان وجدت ـ هي قضايا العلاقات الدولية ، التي ولدت من الخرافات قد ما ولدت قضية (الخطر الاسلامي) المزعوم فمنذ اواخر السبعينات ـ وبشكل اخص منذ الثورة الايرانية في 1978م ـ 1979م اصبحت قضية الاسلام وتحديه المفترض للغرب شاغلاً دولياً مستمراً وهو شاغل اختار ابرازه ساسة في الدول الاوروبية الغربية، فضلاً عن عدد من القادة الاسلاميين غير ان صورة (خطر اسلامي) ـ كما يجب ان يكون واضحاً منذ البداية ـ صورة مضللة بطرق اخرى ففي قلب هذا التحدي او النزاع ذاته يكمن تشويشان :فقد خلطت حقيقة وجود شعوب (اسلامية) بمعنى ديني وحضاري عام ما بحقيقة اعتناق معتقدات وسياسات توصف بالدقة بإنها (اسلامية) او (اصولية) وبعبارة اخرى فقد ادعى ان معظم المسلمين يسعون الى فرض برنامج سياسي ـ يفترض انه مستمد من دينهم ـ على مجتمعاتهم . وتطمس حقيقة ان معظم المسلمين ليسوا انصاراً للحركات الاسلامية، وكذلك الظروف التي يتحول فيها الناس الى هذا الخيار المحدد.وينسب كل شيء ببساطة زائدة الى تأثير(الاسلام) العام. وكما هو شأن الخرافات السياسية الاخرى فان مجرد ترويج هذه الافكار يعطينا واقعاً ما ـ لدى من ترمي الى تعبئتهم، ولكن ايضاً لدى من توجه ضدهم.والمناقشة التالية محاولة لفك تشابكات بعض هذه القضايا، وايضاح بأي معنى ليس هناك نزاع بين العالم والعلماني بعد المسيحي في اوروبا الغربية وبين عالم الشعوب الاسلامية في الجنوب والجنوب الشرقي، وبأي معنى هناك مثل هذا النزاع.وإذا كان التحدي الرئيسي قد جاء على مايبدو من جمهورية ايران الاسلامية ـ وهي بلد يزيد سكانه عن 60 مليوناً وتشغل مكاناً استراتيجياً في غرب اسيا، وتعلن هدفها في (تصدير) الثورة (وصدر انقلابي) ولها سجل من العلاقات طويلة الامد مع مختطفي الرهائن في لبنان وبعض الارهابيين في دول اخرى ـ فان التهديد (الاسلامي) قد رؤي في اشكال اخرى كذلك، فعلى مقربة من اوروبا وفي منطقة تعد تاريخياً جزءاً من حضارة البحر المتوسط واقتصاده ظهر تيار إسلامي في شمال افريقيا.واقرب حتى من ذلك توجد بعض الشواهد على مشاعر اسلاموية بين الملايين السنة المهاجرين ـ واساساً من شمال افريقيا وجنوب اسيا ـ في أوروبا الغربية تحت تأثير الحركات الإسلاموية في أوطانهم .وتعقد صورة التحدي الاسلاموي هذه المستوى المرتفع من النزاعات السياسية الداخلية وفيما بين الدولة في العالم الاسلامي. وقد شهدت منطقة الخليج الفارسي في السنوات العشرين الاخيرة الثورة الايرانية والحرب العراقية ـ الايرانية ثم حرب الخليج في 1990 ـ 1991م وفيما بين ذلك يوجد حشد من نقاط الازمة الاخرى ـ اسرائيل ولبنان وليبيا ثم في الآونة الاخيرة ـ وعلى مقربة جغرافية.اوثق ـ البوسنة.وتلقى هذه الصورة المعاصرة للخطر الاسلامية ـ او يزعم انها تلقى ـ دعماً اضافياً من ثلاثة مصادر اخرى.الاول هو تاريخ نزاع بين عالم (الغرب) المسيحي وعالم الاسلام يمتد عبر الف عام وقد استحكم هذا النزاع منذ غزوات ايبيريا في القرن السابع، وعبر الحروب الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر ثم عبر النزاعات مع الامبراطورية العثمانية التي استمرت من القرن الخامس عشر حتى الانهيار النهائي لهذا التحدي الاسلامي في عام 1918م ، ورغم ان القوى الاسلامية قد طردت بعد (استعادة) اسبانيا في 1492م فقد ظل الخصم العثماني طويلاً حتى هذا القرن، تاركاً ندوباً عميقة في البلدان السلاقية الجنوبية. وفي المناطق السلافية الشمالية قد يكون النير التتري قد طوح به في القرن السادس عشر لكن النزاع مع الدول الاسلامية المستقلة في آسيا الوسطى والقوقاز ومع الإمبراطورية العثمانية ذاتها ظل لازمة من لوازم السياسة الروسية.وعند انهيار النظم القائمة وهياكل الدولة في البلقان في السنوات التي اعقبت عام 1989م وجدت الافكار المعادية للاتراك والمعادية للاسلام تعبيراً عنها عند اولئك الذين يريدون ان يعبئوا قدراً من التأييد الشعبي، ويضفوا مشروعية على تصرفاتهم، فالكروات يلومون العثمانيين على زرع الصرب في شرق كرواتيا والصرب يصورون انفسهم.ابطالاً لحملة ضد النفوذ التركي ـ الإسلامي في البانيا والبوسنة. وترددت شائعات حمقاء عن نزول قوات مظلات ليبية وايرانية وفلسطينية فوق تيميسورا أثناء الهبات الرومانية في ديسمبر 1989م.ان الراهن في العالم الاسلامي هو اشكالية العلاقة بين الشرق والغرب من منطلق عقائدي وما ينتج عن هذا من تضارب في الالتقاء الفكري والحضاري.فالغرب الذي يرى بالاسلام صناعة ازمة ثقافية معه ولا يقدم غير التطرف والارهاب وعجزه حضارياً عن اخراج ثقافة تتجانس مع زمن التسيد العالمي للغرب، اوجد هذه الأزمة عبر مخيلته السياسية التي ظلت عبر عقود تنظر لمسار العلاقات بين الشرق والغرب، عبر الأزمات والصراعات.فالتاريخ الغربي حتى الآن لم يسقط من ذاكرة ماكان للشرق من ريادة على العالم في الحقب الماضية، وما تحدي الغرب الحالي سوى عدم السماح للشرق بالعودة الى هذا الخط والذي اصبح قضية ارادة وقيادة للشعوب وبين كل هذا وماينتج الفكر من ثقافة والى أي اتجاه يتحدد مسار الهوية ؟ تصبح ثقافة الهيمنة من الجانب الغربي هي مايسود الساحة، اما الطرف الآخر ـ الشرق يدفع بثقافة المواجهة والتحدي ورفض الغاء الهوية، وبين كل هذا يعيد الوعي عند كل منهما انتاج ادوات صراعه.وعندما يتم استدعاء الحدث التاريخي في هذا الإطار، لا يدخل في عمق الربط الانساني بين ثقافات الشعوب بل يسخر لدفع المزيد من الانقسامات والتناحر لان مايبحث عنه في هذا الجانب فترات التصادم والحروب التي فرضتها التوسعات العقائدية وهنا يصبح الدين المقدس محل المراهنة والنفي.فالمعرفة والتي هي جمع اجتهادات للعقل البشري تسحب خصائصها الى مربع الذاتية وتستخدم كوسيلة قطع لعروق الاتصال مع الآخر، وهذا البتر هو مايولد شحنات من الحقد التاريخي والرغبة في طرد الغير من مساحة الحضور المادي والمعنوي وبالعودة لقراءات في الفكر والسياسة شرقاً وغرباً، ندرك ان الثقافات لا تساعد في كل حال على خلق اطراف الالتقاء بل هي ان تسخرت لمصالح السياسة تحولت الى عقيدة قتالية تسعى لمحو ما يخالفها وتدمر ما يفرض عليها، وبهذا نخسر مبدأ الحوار مع الذات والآخر.لقد ترك لنا المستشرق الفريد هاليداي في كتاباته حول الشرق الأوسط العديدة أفكاراً تظل موضع نقاش ومحاور بحث، لإنها تدخل في مجال الفكر والتاريخ والسياسة ودائرة الصراع بين الحضارات والشعوب، وهذا النوع من المعارف يظل موضع دراسة لمراحل من الزمن لإنه قراءات من موضع الحدث.