نجي عبدالمجيد الدراسات والبحوث التابعة لمراكز الاستشراق الروسية أسهمت في قراءة وتعريف مكانة الشرق في التاريخ وما كان له من ادوار عبر الأزمنة السابقة وحتى الأحداث المعاصرة. ونالت الجزيرة العربية من هذا الاهتمام منزلة مالها من حضور فاعل في السياسة والاقتصاد والتاريخ وعدن من المدن التي دخلت في إطار هذه المرجعية نظراً لما لها من أهمية في الصراعات والأزمات الدولية وبفعل المراهنات حيث يعود الاهتمام الروسي بعدن إلى القرن التاسع عشر عهد القياصرة وتحركات الاسطول الحربي والتجاري في البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي. وتعود علاقة الروس بالعرب بفعل القرب الجغرافي إلى أزمنة القرون الوسطى وكان للرحالة والتجار والحجاج الروس إلى المدن المقدسة مساهمة في معرفة الكثير من المعلومات والأحوال عن هذه المناطق وظلت عدن من المدن التي لا تخرج عن هذه الدائرة من بعد النظر في السياسة الروسية فنالت من اهتمام البحوث ما يليق بمستواها وهذا الجانب يقدم لنا الرؤية الروسية قراءة وفكراً تجاه عدن والتي ظلت في الوعي السياسي الروسي منذ عقود سابقة حتى جاء إليها في عام 1967م . عن دار التقدم في موسكو صدر عام 1990م كتاب « الاستعمار البريطاني وتقسيم اليمن « من تأليف عزيز خودا بيردييف وفي صفحات هذا السفر التاريخي عدة معارف عن عدن والمحميات واليمن في فترة الصراع على المواقع والحدود في مطلع القرن العشرين وهنا تبرز مسائل مثل السيادة والترسيم ومد مناطق النفوذ ليست كتاريخ ولكن كقوة تحدد مقدرة الهيمنة على الأخر. يقول مؤلف الكتاب ( كان رسم الحدود بين ولاية اليمن ومحمية عدن حصيلة متميزة للصراع بين بريطانيا والإمبراطورية العثمانية من اجل السيطرة على جنوب شبة الجزيرة العربية فالأستانة التي رفضت امداً طويلاً الاعتراف بحق المستعمرين البريطانيين في جنوب اليمن اضطرت في آخر الأمر ، في الوضع الدولي العسير بالنسبة للوقوف ضد السيطرة العثمانية في مقدونيا والبانيا والحجاز وشمال اليمن إلى التنازل لمطامع بريطانيا والموافقة على اقتسام اليمن.ومما عجل في تقسيم اليمن الحادثة التي وقعت على الحدود في مارس 1900م حيث انشأ شيخ قبيلة حمير اليمانية الشمالية محمد ناصر مقبل برج رقابة قرب قرية الدريجة يشرف على الطريق التجاري الرئيسي بين لحج والمنطقة الجبلية وكانت الإدارة العثمانية هي الدافع للقيام بهذا العمل لإغراض اقتصادية فضلاً عن الأهداف السياسية. فان استهلاك التبغ وحده في شمال اليمن حسب تقديرات الحكومة في الأستانة بلغ ( 3.5) ملايين رطل في حين لم يمر من خلال الجمارك العثمانية سوى ( 0.5) مليون رطل أما الباقي فقد جرى تهريبة إلى البلاد . وهذا وحده يشكل خسارة فادحة بالنسبة للخزينة العثمانية. كان افتتاح نقطة الجمارك في الدريجة والإشراف على الطريق التجاري الرئيسي في اليمن بين صنعاء ولحج وعدن قد مكنا الإدارة العثمانية في ولاية اليمن من سد باب تهريب والبضائع إلى داخل اليمن من خلال عدن وتغير وجهة التجارة بحيث يمكن إيصال منتوج المناطق الجبلية في اليمن وخصوصاً القهوة اليمنية الشهيرة إلى الأسواق الخارجية ليس عن طريق مرفأ عدن البريطاني بل عن طريق ميناء الحديدة اليماني الشمالي الواقع تحت السيطرة العثمانية فهذا من جهة يزيد كثيراً من عائدات الباب العالي ويضعف من جهة أخرى أهمية عدن تجارياً ويسدد بالتالي ضربة إلى المواقع البريطانية في جنوب الجزيرة ولذا فعندما طردت قوات قبيلة الحوشبي اليمنية الجنوبية محمد ناصر مقبل من الدريجة في حزيران يونيو 1900م قدمت له الأستانة دعماً بعساكرها النظامية وساعدته على استعادة مواقعه). الحدود هي من تصنع السيادة والسياسة فقد أدركت بريطانيا أن أمان عمق عدن البري هو ما يحدد وضعها الاقتصادي ومركزية الدولة وأي خلل يضرب هذه المعادلة يهز وضعية عدن والتي تنعكس على مدنيتها بفعل الخطر القادم من هناك. مع نهاية عام 1901م اتفقت كل من حكومة بريطانيا والحكومة العثمانية على تشكيل لجنة منهما لغرض ترسية الحدود وكان على هذه اللجنة تعيين المسافات بين الحدود الفاصلة بين ولاية اليمن ومحمية عدن وواجهت كل طرف مسألة رسم الخطوط على مساحات الارض وكان العثمانيون حتى بداية عام 1902م يحاولون الادعاء بحق نفوذهم على أراضي الجنوب ما عدا عدن والمناطق القريبة منها أما حكومة عدن البريطانية فقد أصرت من مركزها على حدود تجعل أراضي القبائل المتواجدة على مقربة من عدن داخلة في منطقة النفوذ البريطاني. قرر المسؤولون في لندن بغية تعيين هذه المسافات الجغرافية الاستفادة من نتائج أعمال المسح الطوبوغرافي الذي نفده في اليمن احد ضباط القوات البريطانية في 1891 - 1892م ونتيجة هذا المسح تم وضع خريطة لأراضي تلك القبائل وعينت الحدود حيث أطلق عليها في المكاتبات الدبلوماسية البريطانية اسم « خط وهاب « والذي يبدأ من رأس الشيخ سعيد قرب قرية التربة ويصل إلى الشمال الشرقي ملتوياً في بعض الأماكن حتى يصل إلى منطقة مدينة القطيب. غير أن هذه الحدود لم ترسم على خريطة 1892م وجاء وضعها كلامياً في التقرير الذي قدمه رئيس البعثة العقيد عبدالوهاب بعد تلك الدراسات وبفعل الاضطرابات الداخلية عاد إلى عدن عام 1892م وهذه الأحداث لم تجعله يقدم عمله بالشكل المطلوب. مع بداية شهر يناير عام 1902م التقى وزير شؤون الهند البريطاني هاملتون مع السفير العثماني في لندن وقدم له خريطة خط وهاب وأعلن بأنها هي الحدود الأساسية التي تريدها بريطانيا.أما في أوساط السياسة البريطانية في الهند بقيادة نائب ملك الهند اللورد كيرزون فكانت مختلفة عن نهج لندن فهي تتمسك بطرق التوسع غير أن هذا الخلاف كان مجرد عملية ترتيب للأوضاع فان مجلس الوزراء البريطاني مثل السلطات البريطانية في الهند كان يسعى للتوسع لكنه خلافاً للإدارة البريطانية في الهند وعدن كان عليه مراعاة موازين القوى والموقف الدولي بشكل عام ومراعاة مصالح بريطانيا في المناطق الأخرى من العالم. كان اللورد كيرزون يهدف من استخدام خط وهاب بوصفة وسيلة تهدف إلى غاية وعند تغير الأحوال فانه سيوسع إلى أقصى حد ممكن أراضي المستعمرات البريطانية في جنوب الجزيرة العربية ومن هذه الرؤية لفت اللورد كيرزون نظر العقيد عبدالوهاب في توجيه بتاريخ 26 نوفمبر 1901م والذي عين رئيساً للجنة الحدود البريطانية إلى عدم وجود أهمية في التمسك الصارم « بخط وهاب عام 1891م) في أراضي الحوشبي وأميري كما اقترح بأن يتم أشعار الدولة العثمانية بان يافع العليا و العوالق العليا هما من ضمن القبائل التسع التابعة لحدود محمية عدن وكتب كيرزون قائلاً ( اذا رغب العثمانيون برسم حدود هذه الأراضي فيجب أن يمر خطها بالحدود الشمالية ليافع العليا والعوالق العليا بما في ذلك البيضاء وبيحان). بعد نهاية الحرب العالمية الأولى « 1914 -1918م » وكان لجزيرة العرب وضعها في مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس « 1919 - 1920م « وكان قادة الاقتصاد والسياسة في بريطانيا يأملون في التعويض عن خسائرهم بمد حضورهم نحو المساحات الشاسعة التي استولوا عليها أثناء تلك الحرب في الشرق الأدنى وإفريقيا بالإضافة إلى الأراضي التابعة لبريطانيا من سابق تحت مبدأ « ميادين النفوذ البريطاني وهي أراض إستراتيجية لها أهمية اقتصادية كبرى في الصراع الدولي أما الجزيرة العربية فقد ابدى الانجليز بها اهتماماً خاصاً وقد جاءت المبادئ الأساسية لتلك السياسة فيما يخص حكام جزيرة العرب في البرقية الهامة التي بعثتها وزارة الخارجية البريطانية في 9 يوليو 1919م إلى الجنرال هنري اللنبي المندوب السامي في مصر وقد لخصت في هذه النقاط : 1 - تضطلع بريطانيا بدور التحكيم في جميع الخلافات بين حكام الجزيرة . 2 - وتدافع عنهم دون الهجوم الخارجي 3 - وتتمتع بحق مراقبة علاقاتهم الخارجية 4 - وبدون موافقة بريطانيا لا يجوز منح الأراضي والامتيازات للأجانب . كما جاء ان الوفد البريطاني في مؤتمر الصلح في باريس قرر إدخال هذه الشروط ضمن المعاهدة مع تركيا حتى يضفي عليها شرعية الحق البريطاني في الجزيرة العربية والحيلولة دون وصول الدول الغربية الأخرى إلى هذه المناطق العسكرية والاقتصادية والسياسية لبريطانيا. وجاء في رسالة الى وزير شؤون الهند : ( أن سياسة حكومة صاحب الجلالة بعد الحرب .. تمليها النية في منع الدول الأجنبية الأخرى من الحصول على نقاط ارتكاز في الجزيرة العربية والنية في ملء الفراغ السياسي الناشئ عن طرد العثمانيين من الجزيرة ) . وحول تصاعد الصراع بين الإمام يحيى وحكومة عدن على الحدود يقول : ( عندما كانت المجادلات مستمرة في الأوسط الاستعمارية البريطانية بخصوص تعديل حدود 1905م اليمنية العدنية جرت في عدن مفاوضات بين الميجر برنارد ريلي نائب المقيم البريطاني وعبدالله العرشي مبعوث الإمام الذي وصل إلى عدن في حزيران ( يونيو) 1921م جاءت المبادرة إلى إجراء هذه المفاوضات من الجانب البريطاني وقد اوقف الإمام يحيى مؤقتاً زحف جنده في إمارات الجنوب دون ان يتخلى عن خطته لتوحيد اليمن فوافق على إرسال ممثلة إلى عدن. وكان الهدف الرئيسي الذي يتوخاه الإمام عندما أقدم على هذه الخطوة هو كسب الوقت اللازم لإخماد الحركة الانفصالية التي قامت بها بعض القبائل واشتدت في مطلع العشرينات فبدون تعزيز المؤخرة في ظروف الانقطاع التام تقريباً عن البحر ما كان اليمنيون يؤملون في الانتصار على الانجليز وإذا كان الإمام يحيى يداري أملا في استرجاع الحديدة بنتيجة المفاوضات فان ذلك الأمل كان ضعيفاً واهياًَ لان الإمام يعلم أن الانجليز من جهة و الإدريسي من جهة أخرى لن يوافقوا على ذلك بدون تنازلات خطيرة من جانبه. استمرت تلك المفاوضات في عدن من شهر حزيران عام 1921م حتى بداية عام 1024م حاور فيها مندوب الإمام مع ريلي عدة نقاط حول الاتفاقية وكان يعود إلى صنعاء للتشاور مع الإمام حول جوانب المسائل ويعود مجدداً لعرض التعديلات الجديدة التي يعرضها على الإمام يحيى. منذ بداية المفاوضات أعلن العرشي أن الإمام يطالب بأراضي الإدريسي شمالي جيزان ( عسير) وباليمن كله حسب ما يرى بما فيه محمية عدن وقد رد الانجليز على هذا بطرح شروطهم الواردة في مسودة الاتفاقية بين بريطانيا والإمام يحيى. وبتاريخ 30 أكتوبر عام 1922م سلموا المسودة إلى مبعوث الإمام وتتلخص أهم نقاطها فيما يلي: ( تعترف بريطانيا باستقلال الإمام وسلطته في جميع الأراضي المتاخمة لأراضي بريطانيا « أي محمية عدن « ومن جهة وأراضي الملك حسين والإدريسي من جهة أخرى . وهذه الأراضي « أراضي الإمام يحيى ستسمى في المستقبل باليمن). وحسب ما جاء في شروط هذه الاتفاقية البريطانية على الإمام الاعتراف باتفاقيات الحماية التي وقعتها بريطانيا مع قبائل الجنوب وان يقيم علاقات مع بريطانيا وحدها ولا يعطي بأي شكل حتى جزءاً من أراضيه إلى دول أخرى وان يقدم الامتيازات أولا لرعايا بريطانيا ومقابل ذلك تلتزم هي بتقديم معونة شهرية للإمام وتسمح لليمن بحرية التجارة عن طريق البحر. في 5 أغسطس 1925م كتب المقيم السياسي البريطاني بعدن الجنرال ستيوارت في تقريره السري المرسل إلى وزير المستعمرات البريطانية أمري يقول فيه : ( لقد مر ذلك الزمان الذي كان فيه الإمام يستطيع أن يتخلى عن ادعاءاته في المحمية مقابل وعد بمساعدته في طرد الإدريسي من الحديدة . فالآن حيث استولى الإمام على الحديدة بدون مساعدة بريطانيا وأقام علاقات ودية مع دولة أوربية ايطاليا لن يتخلى عن ادعاءاته .. وقد أشار إلى ذلك بوضوح قولاً وفعلاً . في سياق المفاوضات الطويلة مع سلطات عدن لم يعترف بحقوق بريطانيا في المحمية ولم يفوت أدنى فرصة في الوقت ذاته ليحتل أراضي المحمية عندما يشعر بأنه يتمتع بقوة كافية وقد حاول المقيم البريطاني في عدن سابقاً الجنرال سكوت أن يطبق بالطرق الدبلوماسية سياسة حكومة صاحب الجلالة الرامية إلى استئناف حدود المحمية السابقة . ولم يستخدم القوة « سلاح الجو » الامرة واحدة في عام 1922م .. وتبين الممارسة أن الدبلوماسية وحدها غير كافية لبعث حدود المحمية ولذا يغدو استخدام القوة محتماً إن آجلاً أو عاجلاً ). لقد أدركت بريطانيا أن حماية حدود عدن البرية من أطماع الإمام هو ما يحافظ على سيادتها الدولية وهي بذلك تحفظ هويتها ومركزها سياسياً واقتصادياً وحضارياً وأن خسرت هذا فقدت العديد من خصائصها فكان على بريطانيا أن تضع هذه الخصوصية لعدن من منظورها العالمي لمركزية هذه المدينة وفي قراءة هذا الكتاب معلومات تؤكد ذلك.
|
ثقافة
عدن في الاستشراق الروسي
أخبار متعلقة