مركزية الحضارة الغربية وفي فترات المد الاستعماري نحو العالم العربي، عملت ثقافة القارة الأوربية على خلق اتجاهات فكرية وقراءات تاريخية وأدبية شكلت في أساليبها ومناهجها البحثية، قواعد تحول في حياة المثقف العربي الذي تشرب من مناهل الفكر الفرنسي والإنجليزي بالذات حينما أدرك العرب أن تراثهم الحضاري السابق لم يعد هو المصدر الأول في تطوير وتحديد مسارات الوعي الإنساني في العالم.عند قراءة تاريخ حركة العرب القومية منذ أوليات القرن التاسع عشر ومحاولات جيل الرواد في هذا الاتجاه، ومالعبته من ادوار مدارس التعليم والإرساليات الغربية في الشرق واتصال العرب مع اللغات وثقافات تلك الحضارات والتوسع في معرفة فلسفات ونظريات الاقتصاد والسياسة والفنون والآداب والصحافة والذهاب للغرب ليس فقط للتعليم, ولكن لاستدعاء مفاهيم وقيم وإيديولوجيات غربية أسست العديد منها في معاهد الإستشراق ودوائر صناعات القرار السياسي ـ الغربي، وإدخالها على العمل والعقل العربي، وبداية تحديد مسار الرؤية عبر الارتباط الفكري والثقافي مع الغرب.تأتي المدرسة السياسية والفكرية البريطانية في هذا الجانب في المنزلة الأولى، ومن المراجع الهامة التي توضح لنا هذا الجانب، كتاب (يقظة العرب ـ تاريخ حركة العرب القومية) وهو من تأليف الباحث اللبناني جورج انطونيوس (1892م ـ 1942م) وقد صدر هذا الكتاب لأول مرة في اللغة الإنجليزية عام 1939م في الولايات المتحدة الأمريكية، وترجم إلى العربية على يد الدكتور ناصر الدين الأسد والدكتور إحسان عباس، وقد له الدكتور نبيه أمين فارس وصدر عن دار العلم للملايين في بيروت 1961م.عبر عقود من الأزمنة ظل هذا الكتاب من المصادر الهامة لمعرفة المراحل التي مر بها الفكر القومي العربي، وماكان للدور البريطاني من مداخل سياسية ومراكز ثقافية في صياغة تلك المشاريع والأهداف في الوعي العربي المرتبط مع هذه الاتجاهات سوى في العمل السياسي او الفكر الثقافي، ومع تمازج هذه العناصر كان ميلاد هذا النوع الجديد من مفاهيم وقيادات الثقافة والسياسة في المشرق، وهنا تصبح العقيدة الفكرية عملية مراهنة على حضارة الغرب وما تطرح من أفكار هي من عوامل خصائصه الذاتية.ينظر إليها من منطلق الإتصال مع الوعي الآخر الذي عززته حضارياً قوة السيادة على شعوب وأوطان لم تعد قادرة على التحكم في مسار التاريخ.مما يطرح علينا جورج إنطونيوس حول الدور البريطاني في هذا الجانب: (كان لانتشار التعليم الغربي آثار سيئة ايضاً، وقد يبدو هذا القول عجيباً متناقضاً، ولكنه الحق بعينه فقد انتشر هذا التعليم في بلاد الشام في عهد عبدالحميد على نطاق أوسع مما كان في العهود السابقة، وأدى ذلك إلى قيام شبكة من المدارس والكليات امتدت إلى جميع أنحاء البلاد. ولم تعد هذه المعاهد مقصورة على ماكانت تنشئه فرنسة وأمريكا وبريطانية، بل دخلت الميدان البعثات التبشيرية الروسية والإيطالية والألمانية والبريطانية، وأضافت جهودها إلى جهود الدول التي سبقتها. وكان هذا التنوع نفسه شراً جديداً في بلاد كانت فريسة للإنقسامات الداخلية، وذلك لأن بعض البعثات التبشيرية أصبحت أدوات للمطامح السياسية, فاختلطت مساوئ المنافسة الدولية وشرورها بحسنات التعليم ونعمه.فكانت الحكومة الفرنسية، لحرصها على تقوية نفوذها تقدم العون المالي الى البعثات التبشيرية الفرنسية، وتعاونت هذه البعثات مع رجال الدين من الموارنة والملكانيين، وبذلت جميعها جهدها لتعليم الشباب الناشئ تعليماً، هو في ذاته حسن، ولكن كان يرمي الى تكوين عقولهم على النمط الفرنسي، وتوجيه أنظارهم وولائهم الفكري الى فرنسا.أما الروس فكانت لهم بعثة تبشيرية وجمعية للتربية والتعليم ذات مال وافر، وعن طريقهما كانوا يعلمون السكان العرب الارثوذكس، والبطركيتين الارثوذكسيتين في إنطاكية والقدس، وكانوا يرمون إلى الغايات الخفية نفسها.وليس ثمة دليل على ان هذه العوامل السياسية كانت توجه المدارس الانجليزية او الأمريكية. غير ان تغلغل النفوذ الفرنسي والروسي بين النصارى، دفع بريطانيا العظمى إلى ان تحفظ التوازن بين الدروز والنصارى فآزرت الدروز وشجعتهم، عن طريق مكاتبها القنصلية، على ان يعتبروها راعيتهم وحاميتهم. اما الأمريكان، فمع إنهم لم يكن لهم دور في هذا الصراع السياسي وحصروا جهودهم في التعليم والتبشير غير انه بهذه الجهود اوجدوا طائفة دينية جديدة هي الكنيسة السورية المشيخية (البريسبيتيرية).وبالرغم من ان هذه الكنيسة كانت تضم بعض الرجال المستنيرين في البلاد الا انها كانت مصدراً آخر للشقاق فوق ماكان هناك من مصادر .وقد شاركت المدارس الألمانية والإيطالية في هذا الاضطراب العام، ولكن جهودهم كانت محدودة إذا قيست بالجهود الأخرى.وهكذا لم يكن انتشار التعليم الغربي نعمة خالصة من الشوائب فمع انه رفع مستوى الثقافة إلى درجة عالية نسبياً، وجعل بلاد الشام أرقى أجزاء العالم العربي، غير أنه كانت له مساوئه من نواح متعددة.فقد بثت الخلافات والانقسامات الطائفية.وزاد عددها بينما كان وجود هذه الاختلافات والانقسامات في تلك البلاد هو العقبة الرئيسية في طريق تقدمها القومي كما رأينا.وكذلك أصبح هذا التعليم أداة من أدوات التغلغل السياسي بالإضافة الى انه وسيلة للثقافة واسوأ من ذلك كله انه يسر السبيل لرجال الدين المسيحي ليتملكوا اسباب القوة السياسية، بل كان احياناً يدفعهم الى ذلك عمداً، وبهذين الامرين كان التعليم الغربي يفسد ما قام به المصلحون العرب من أتراب البستاني الذين كانوا اول من وقف في وجه الخلافات الطائفية والمطامع السياسية لرجال الدين المسيحي، وكانت هذه المطامع هي التي تثير شر تلك الخلافات.وهكذا كان التعليم الغربي يطعن حركة العرب القومية في أعماقها.في عام 1847م أسست في بيروت النوة الأولى لحركة القومية العربية، جمعية ادبية في ظل رعاية امريكية، أما أول جهد منظم لحركة العرب القومية يرجع الى عام 1875م حين الف خمسة من الشباب الذين تعلموا في الكلية البروتستانتية السورية في بيروت جمعية سرية، وكانوا جميعاً من النصارى، انضم اليهم بعد ذلك عدد من المسلمين والدروز وكذلك مختلف الطوائف الدينية ممن هم صفوة العقول المستنيرة في الشام، وكانت الماسونية قد دخلت من قبل الى تلك البلاد على الصورة التي عرفتها اوروبا، وقد استطاعوا استمالة ذلك المحفل الماسوني، وقد كانت بريطانيا، اول دولة في العالم تأسس فيها المحافل الماسونية الحديثة في 1717م وفي هذا مايدل على الدور البريطاني المتغلغل منذ البداية في حركة الفكر القومي العربي، وبعد توسع أعمال هذه الحركة أخذت بريطانيا سياسياً في مراقبة الموقف فقد كتب القنصل البريطاني العام في بيروت بتاريخ 28 يونيو 1880م قائلاً: (ظهرت في بيروت منشورات تحض على الثورة. يشك في ان مدحت هو منشئها ومع ذلك فالهدوء يسود البلاد).وفي الجزيرة العربية كتب الممثل السياسي البريطاني بجدة بتاريخ 10 مايو 1882م: ( لقد علمت ان فكرة الحرية أصبحت الآن تحرك عقول بعض الناس حتى في مكة. وتسربت الى بعض الأنباء عن وجود خطة معينة لتوحيد نجد، وعرب الجزيرة العراقية بزعامة منصور باشا، وعسير واليمن بزعامة علي بن عابد. وساعرف عما قليل هل هذه الأنباء صحيحة او انها مجرد احلام وبناء قصور في الهواء).تعد فترات ماقبل وبعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918م) من اخطر الحقب السياسية والتاريخية والفكرية التي لعبت فيها السياسة البريطانية أدوارها عبر اختراق الوعي الثقافي لحركة القوميين العرب، وقد تجلت اكبر تحركاتها، في الثورة العربية الكبرى التي كانت بدايتها عام 1916م بقيادة الشريف حسين ملك الحجاز وانتهت المرحلة الاولى منها بتاريخ 25 يناير 1917م وابتدأت الثانية باحتلال العقبة في شهر يوليو من نفس العام، تمثلت في الاتجاه نحو دمشق تحت قيادة بريطانية وقد حقق فيها العرب تقدماً واسعاً على الجيوش التركية عبر العديد من الخطط والغارات الحربية، وعن تلك الأحداث يقول جورج انطونيوس: (ويعزى نجاح تلك الغارات في المقام الأول الى مهارة نفر من الضباط وشجاعتهم، وهم الذين ارسلوا إلى الشريف باسم مدربين فقاموا بما هو اكثر من التدريب، وفي مقدمتهم لورانس العرب الذي ركزت حوله الأضواء الساطعة الى حد ان وقع زملاؤه الآخرون نسبياً في ثنايا التناسي والخفاء. اولئك الرهط لم يدربوا العرب على فنون القتال الحديث ويعلموهم استعمال المتفجرات وأساليب التخريب فسحب، وإنما كان تفانيهم في الواجب المنوط بهم ـ وهو مافسر يومئذ بأنه تفان في سبيل القضية العربية ـ وكانت قوى الصبر والجرأة التي أبدوها بين قوم على نصيب وافر من هذه الخلال ـ كانت هذه جميعاً هي الأسس الصحيحة للتعاون بين العرب والبريطانيين في الحملة. وفي السنوات التي تلت الحرب سمعت المرحوم الملك فيصل، غير مرة، يعلن انه إذا استثنى لورانس العرب الذي أحلته عبقريته محلاً فريداً فان الكولونيل س. ف. نيو كومب والميجر جويس يستحقان من عرفان العرب بالجميل قدراً لا يقل عما يستأهله أي انجليزي آخر).بتاريخ 23 مارس 1915م عاد فيصل إلى دمشق، فوجد زملاءه في جمعيتي الفتاة والعهد قد عملوا على وضع خطة عمل. وهي عبارة عن ميثاق يتضمن عدة شروط طالبوا الزعماء العرب بدعم بريطانيا ضد تركية، وكان على فيصل ان يحمل هذا الميثاق الى مكة ومعرفة رأي أبيه، وان يعرف من الحكومة البريطانية موافقتها على بنود الميثاق والتي حددت بالتالي:اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال البلاد العربية الواقعة ضمن الحدود التالية: شمالاً ـ خط مرسين ـ اضنه إلى ما يوازي خط العرض 37 شمالاً، ثم على امتداد خط بير يجيك ـ او رفه ـ ماردين ـ مديات ـ جزيرة ابن عمرو ـ العمادية الى حدود إيران.شرقاً ـ على امتداد حدود إيران إلى خليج العرب جنوبا. جنوباً: المحيط الهندي (باستثناء عدن التي يبقى وضعها الحالي كما هو).غرباً ـ على امتداد البحر الأحمر ثم البحر الأبيض المتوسط إلى مرسين.إلغاء جميع الامتيازات الاستثنائية التي منحت للأجانب بمقتضى الامتيازات الأجنبية .عقد معاهدة دفاعية بين بريطانيا العظمى وهذه الدولة العربية المستقلة.تقديم بريطانيا العظمى وتفضيلها على غيرها من الدول في المشروعات الاقتصادية .لعبت الشخصيات البريطانية ـ السياسية عدة ادوار في اتجاهات العمل القومي العربي، فكان لهذا الجانب حضوره الأبرز في قيادة المصائر وتحديد مسار الرؤية، ومنها السر آرثر هنري مكماهون (1862ـ 1949م) وهو المندوب السامي البريطاني في مصر، وصاحب المراسلات الشهيرة مع الشريف حسين أمير مكة. درس في كلية هيليبري وكلية ساندهرست العسكرية، وقد تخرج برتبة ضابط في الجيش البريطاني عام 1883م ثم عمل بعد نقله ثم في الدوائر السياسية لحكومة الهند، وعين في بلوجستان وفي عام 1901م تنقل في المناصب الإدارية حتى وصل الى منصب سكرتير الشؤون الخارجية لحكومة الهند البريطانية من عام 1911 حتى عام 1914م وكان سنة 1913م ـ 1914م المفاوض البريطاني لعقد معاهدة مع الصين والتبت، وقد تم تعينه في أواخر عام 1914م أول مندوب سام لمصر بعد إعلان الحماية وحضر مؤتمر الصلح في عام 1919م مندوباً عن بريطانية في اللجنة الدولية للشرق الأوسط.السير غيلبرت كلايتن (1875 ـ 1929م ) وهو من خبراء بريطانية في قضايا العالم العربي . تخرج ضابطاً في الجيش البريطاني عام 1895م وقد كان مرافقاً للورد كنشنز في مصر والسودان، وقد شارك معه في معارك عطبرة وام درمان . أعير إلى الجيش المصري في عام 1900م أصبح سكرتيراً خاصاً لحاكم السودان العام. وتقاعد عن الخدمة العسكرية برتبة كابتن، وبعدها نقل للخدمة.الدائمة في السودان، في سنة 1914م أصبح وكيلاً للسودان وضابط استخبارات في القاهرة. وعندما قامت الحرب العالمية الأولى طلب للخدمة.العسكرية وعمل مديراً للاستخبارات العسكرية في مقر القيادة العامة في مصر. ونظراً لماله من خبرة في الشؤون العربية استعانت به حكومة بريطانية في تقييم الثورة العربية وأسس المكتب العربي في القاهرة لتوجيه مسار الثورة أثناء الحرب، عام 1917م وهو يحمل رتبة عميد شغل منصب رئيس للضباط السياسيين في الحملة البريطانية الاستطلاعية التي بدأت هجومها على فلسطين في نفس العام .عام 1919م كان مستشاراً لوزارة الداخلية عين سكرتيراً لحكومة فلسطين من عام 1922م حتى عام 1925م وقابل الملك عبدالعزيز آل سعود في جدة عام 1925م ونجح في عقد معاهدة بحرة وجدة، وبعد ذلك سافر الى اليمن عام 1926م. للتوسط بين الإمام يحيى وحكومة عدن ولكنه فشل، كما فاوض الملك عبدالعزيز لعقد معاهدة جدة عام 1927م، عين مندوباً سامياً لبريطانية في العراق عام 1929م.ما يقدمه لنا كتاب (يقظة العرب) يوضح لنا عدة أمور متصلة بتاريخ حركة العرب القومية وكيف لعبت الأفكار الغربية دوراً في قيامها، وما كان لبريطانيا من ادوار في عدة جوانب وصلت الى بنية الوعي الثقافي والسياسي، حيث حددت مسارات وصنعت قضايا وأسست عقائد منطلقة من المخططات البريطانية نحو الشرق الأوسط، وقراءات مثل هذه المراجع تجعلنا نعيد مواقفنا من أحداث ومعلومات ظلت لعقود من الثوابت، ولكنها اليوم تنكشف أمامنا بأنها كانت مناورات في إطار لعبة الأمم.
|
ثقافة
الدور البريطاني في الفكر القومي العربي الحديث
أخبار متعلقة