حين قرأت التصريحات الرسمية للخارجية الروسية الخاصة بزيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين إلى القاهرة, وأنها تمهد لزيارة مستوى أعلى استرجعت احداث يوم30 يونيو، حين رفع مواطنون مصريون في اكثر من ميدان صور الزعماء عبد الناصر والسادات والرئيس الروسي بوتين إلى جانب صورة الفريق أول عبدالفتاح السيسي, في الوقت نفسه رفع مصريون آخرون صوراً ساخرة للرئيس الأمريكي أوباما, في مشهد حمل أكثر من دلالة مهمة, فبينما كان التقدير والاحترام من نصيب الرئيس بوتين, كانت السخرية والانتقاد من نصيب الرئيس أوباما, وبينما كانت الحناجر تنادي بدعوة بوتين لزيارة القاهرة, كانت نفس الحناجر تلعن السياسة الامريكية والقائمين عليها, معتبرة إياهم غير جديرين بالثقة أو الاعتماد عليهم.وما بين التقدير الشعبي الجارف لروسيا ورئيسها والإدانة واللعنات للولايات المتحدة ورئيسها, تبلور بقوة مزاج مصري عام ينادي بضرورة الخروج من أسر العلاقة مع واشنطن والغرب والانفتاح أكثر على باقي دول العالم, خاصة الكبري منها. الفكرة ببساطة ذات شقين، الأول دعوة لانهاء الخصوصية في العلاقة مع الولايات المتحدة التي اثبتت أنها ليست جديرة بالاعتماد عليها في لحظة تحول كبرى يمر بها المصريون وكانوا يتوقعون أن تكون ثورتهم الشعبية الجارفة سبباً في اندفاع امريكي واضح للتأييد والمساندة والدعم. أما الشق الثاني فهو دعوة للنظر في خبرات التاريخ, واستعادة ما كان جيداً فيها من منظور قوة الصداقة والدعم والمصداقية. فحوى الشقين ورغم بساطتها إلا أنه عكس رؤية استراتيجية, ذات جذور شعبية, ترنو إلى عالم متعدد الاقطاب, والتعامل مع الجميع وفق قاعدة المصالح المشتركة, والاكتفاء من سياسة وضع البيض كله أو غالبيته الساحقة في السلة الامريكية التي ثبت انها سلة ممزقة وبدون قرار وبالتالي فهي لا تصلح للاعتماد عليها.الاتجاه ناحية روسيا ليس جديداً في السياسة المصرية, وإن بدا اليوم مطلوباً بشدة, فمن المهم ألا نكرر الأخطاء ذاتها التي دفعت مصر في الماضي إلى تجاهل روسيا والاكتفاء بالغرب وواشنطن. والمطلوب بوضوح ألا يتصور أحد أن استعادة الزخم والفعالية في العلاقة مع روسيا بقيادة الرئيس الداهية بوتين, هي البديل الشافي لعلاقة مصر المحبطة مع الولايات المتحدة. فلا روسيا تريد ذلك ولا أمريكا والغرب سيقبلون بذلك, ولا مصلحة مصر الحقيقية في تبديل طرف بآخر, بل مصلحتها الحقيقية هي في علاقات متوازنة مع كل القوى العالمية, تأخذ من الجميع وتتفاعل مع الجميع وتعطي أيضاً للجميع. عندها سيكون لمصر والمصريين شأن آخر تماماً. وهو ما نلمح بوادره في تحولات اوروبية وأمريكية عديدة تؤيد خطة الطريق والواقع المصري الجديد.لا بأس هنا أن تتوسع علاقات مصر وروسيا لتشمل جوانب تنموية واقتصادية وعسكرية, يظللها حوار استراتيجي وتحكمها مبادئ واضحة, أهمها أن ما يتم بناؤه الآن ليس مجرد استنساخ لما كان في ستينيات القرن الماضي, فالبيئة الدولية الراهنة ليست بيئة حرب باردة, وانما بيئة منافسة شرسة من أجل المصالح والنفوذ والاسواق الواسعة الممتدة مع الحفاظ على الأمن القومي والاستقرار الإقليمي والعالمي على السواء. وهي بيئة رغم شراستها, إلا انها توفر مساحات واسعة للتعاون المتبادل ثنائياً وثلاثياً ووفق أكثر من صيغة وأكثر من مستوى.وعلينا أن نذكر أنفسنا بأننا الآن في بداية مرحلة نسعى فيها بقوة لاستعادة قدرتنا كبلد وكمجتمع على اتخاذ القرار المستقل في الداخل والخارج, والمستند إلى تأييد شعبي, ومصالح حقيقية, ونذكر أنفسنا أيضاً ان روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي الذي كان يعطي من أجل التوسع الايديولوجي, ومشاكسة الغرب, وبناء النفوذ الموالي مباشرة لموسكو. لقد ذهبت هذه الحقبة تماماً, وروسيا اليوم تؤمن بالمبادئ النفعية وتطبق سياسات براجماتية وتتمتع بمرونة عالية في المواقف والأزمات الدولية, ولديها قدرة علي المقايضة وتبادل المنافع.روسيا اليوم تناور واشنطن والغرب في العديد من الملفات الاقليمية والعالمية, ولكنها مناورة من أجل تأكيد الدور العالمي لروسيا, وليس من أجل مواجهة الولايات المتحدة أو الحلول محلها, وفي ذلك لا تخفي موسكو أبداً انها تسعى إلى مكانة ونفوذ في الشرق الأوسط والمنطقة العربية ككل, وأحد أهدافها الكبرى ألا تقع هذه المنطقة فريسة للتيارات الإسلامية المتشددة العنيفة بحيث ترتد عليها لاحقاً في الشيشان أو مناطق روسية أخرى, وألا تتحول هذه المنطقة إلى منافس لها في مجال انتاج الطاقة خاصة الغاز, أو تصبح اقليماً تصول فيه وتجول انابيب نقل الغاز من قطر أو السعودية أو الجزائر أو إسرائيل إلى أوروبا بعيداً عن الشراكة مع روسيا في أفضل الأحوال أو التنسيق معها في أبسط الأحوال. كما تسعى روسيا إلى فتح المزيد من الأسواق لبعض أهم سلعها التنموية كمحطات الطاقة والمحطات النووية السلمية ومصانع السيارات والكيماويات, فضلاً عن منظومات الأسلحة الروسية المتقدمة من طائرات وصواريخ وبوارج, والمنافسة بحق لنظيراتها الامريكية والغربية.إن قناعة روسيا بالتعايش في ظل عالم متعدد الأقطاب تمثل نقطة التقاء كبرى مع التوجهات المصرية الجديدة في السياسة الخارجية, الأمر الذي يفتح أبواباً كثيرة للتعاون ثنائياً وإقليمياً. وإذا كانت روسيا أثبتت انها صديق صعب المراس ولا يتخلى عن اصدقائه المقربين, كما هو الحال مع نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا, ومع الحكومات الإيرانية المتعاقبة, رغم ما يمثله ذلك من عقبات إلى حد ما بالنسبة لعملية التغيير المطلوبة في سوريا لمواكبة المطالب الثورية الشعبية السورية المشروعة, فهناك بعض المنطق في هكذا موقف, فمع حماية المصالح الروسية المتنامية في كل من روسيا وإيران, هناك ايضاً الحفاظ على الوضع القائم وسد منافذ محتملة للنفوذ الامريكي إن سقط أحد هذين النظامين, فضلاً عن مواجهة منظمات الإسلام السياسي على شاكلة القاعدة.مصر بحاجة إلى صداقة روسيا لا شك في ذلك, صداقة تعكس إرادة مشتركة في البناء والفوز المتوازن, وتسمح لمصر ان تطرح على موسكو بعض تحفظاتها الخاصة بالحالة السورية تحديداً, وأن تدعو موسكو لكي تكون أكثر قرباً من تطلعات الشعب السوري في الحرية والعدالة. باختصار المسألة مع روسيا الجديدة ليست صفقة سلاح رغم أهميتها ودلالتها الاستراتيجية, ولكنها إرادة وقيادة من أجل الريادة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
من القاهرة إلى موسكو.. أهلا بوتين
أخبار متعلقة