نجمي عبدالمجيدماتراكم في السرديات التاريخية، عما مرت به عدن من أحداث في عصورها الماضية، شكلت تلك الأسفار مرجعية لذاكرة الماضي، المحفوظ الهوية في المتن الذي تقف مدوناته عند تقاطعات من الأزمنة تخلد لعدن منزلتها بين الحضارات والأمم.ومن تلك الصفحات المكتوبة في سجل عدن التاريخي الماضية، نتوقف أمام بعض منها لنعيد للوعي الراهن ماغاب عن الإدراك بفعل تقلبات الأمور ورحيل شهود عصرها، فالكلمة المدونة هي من يحاصر المجريات من التساقط في هوة الفقدان. وعدن في ماضيها كما في حاضرها، مدينة التاريخ والمراهنات، حقب من الاستقرار وفترات من الصراعات، وكل حقبة تضيف إلى صفحات معرفتنا بها قراءات لجوهر وعمق كيان عدن، الذي يعطي لها خاصية التميز والالتقاء مع كل الأطراف عبر مسارها الإنساني القابل لكل أشكال التنوع والتعدد ومزجه بتاريخ عدن حيث يلتقي الانتماء مع الهوية.ومن تلك الحقب ندرك بعض ما كان ، غير أن الذي مازال في حفظ الأسفار يعطي لنا الكثير عن مدينة هي الغاية والأزمة.العصر الأيوبي يرتبط بفتح توران شاه لعدن بتاريخ 20 ذي القعدة سنة 569هـ وكان يوم الجمعة، بعد معارك مع أمير عدن ياسر بن بلال بن جرير الذي انهزم، وبهذا الوضع تكون دولة بني زريع ثاني دولة سقطت بعد دولة بني مهدي في زبيد، وبعد التوسع في معظم بلاد اليمن، غادرها إلى بلاد الشام عام 571هـ ـ 1175م، وقد عين على عدن القائد عز الدين أبو عمرو عثمان بن علي الزنجيلي التكريتي مع أعمالها، بذلك يصبح أول حاكم عليها في العصر الأيوبي. شهدت عدن في تلك الحقبة تطورات عمرانية عديدة، فقد منع السلطان توران شاه بعد فتح المدينة جنوده من نهبها وقال: (ماجئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها).يدل هذا النص التاريخي على أهمية عدن في الحسابات الاقتصادية والسياسية عند العقلية التي حكمت عدن، بفعل موقعها التجاري الذي يدر لخزينة من يحكمها الأموال الكثيرة المساهمة في عمارة البلاد وتطورها وهذا بدوره ساعد على دخول عدن مرحلة من التوسع في عمرانها، ما يدل على قيام فترة من الاستقرار السياسي والاقتصادي المساعد على توسع الأعمال التجارية فيها، وتلك المعادلة العدنية الجامعة بين التجارة والاستقرار ورقي الحياة الاجتماعية.يقول الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري في كتابه (زهور السوسن في تاريخ عدن ـ اليمن، دراسات في تاريخ اليمن الإسلامي الوسيط)الصادر عن جامعة عدن، الطبعة الأولى عام 2004م حول العصر الأيوبي و ما كان لعدن من أمور في ذلك الزمان:(ازدهرت عدن في عهد بني أيوب واهتموا بها اهتماماً كبيراً، لأنها كانت مركزاً تجارياً مهماً كونها تمثل احد موانئ اليمن المهمة، المعروفة بكثرة مواردها من رسوم التجارة، بسبب وصول مراكب التجار إليها من مختلف أرجاء العالم، وقد شكلت تلك الموارد عصب الحياة الاقتصادية لمدينة عدن، وانعكست آثارها على سياسة الدولة الأيوبية في اليمن.وفي عهد بني أيوب كثر الناس بعدن وتوطنها العرب وغيرهم من التجار والعاملين في الوسط التجاري من جنسيات مختلفة، وكانت الحركة التجارية نشطة وواسعة داخل إيرادات الميناء في تطور المدينة فحفر الناس بها الآبار وبنوا المساجد والأسواق والدكاكين، وتمتعت بمكانة متميزة وشهرة واسعة، وقد ازدهرت عدن في عهد نائب بني أيوب أبو عمرو عثمان بن علي الزنجيلي التكريتي، وعظم شأنها ونشطت الحركة التجارية فيها، وازداد عدد سكانها العرب وكثرت العمارة فيها، كما واصل الأيوبيون سياستهم في الاعتناء بعدن وبقية الموانئ اليمنية، بحيث أصبحت سنة 571هـ ـ 1175م أكثر أماناً وتحصيناً من أي ميناء عربي آخر في الجزيرة العربية.وهذا يدل على ازدهار المدينة ونشاط مينائها التجاري نتيجة الاستقرار السياسي الذي نجح الأيوبيون في تحقيقه، وانعكس ذلك الاستقرار على نمو وتطور المنشآت الاقتصادية عمرانياً وزيادة الاهتمام بها خلال عصرهم.قام الامير عثمان بن علي التكريتي نائب بني أيوب في عدن ببناء العديد من المنشآت ذات المساس بالحياة الاقتصادية، ويرجع ذلك الى عنايته بعدن عناية خاصة فقد ازدهرت في عهده وعظم شأنها وازداد عدد سكانها العرب وكثرت العمارة فيها .. وأراد ان يجعل منها قاعدة مهمة للبيع والشراء.كان من ابرز دلائل اهتمامه بهذا الجانب بناء القيصارية المسماه بـ (قيصارية العتيقة)، ذكر حمزة لقمان إن الزنجيلي بني الأسواق المسقوفه المعروفة بـ (القيصارية) وكانت مخصصة لبيع المواد الطبية، ونعتقد ان المقصود بتلك المواد هي المواد الطبية النباتية.والتوابل في الأعم الأرجح، والتي كانت تستعمل في الطعام وصناعة العطور، إضافة إلى استعمالها مواد طبية لمعالجة الأمراض والعلل بعد خلطها، مثل مواد:الانكزة (الحلتيت) وقشر المحلب والغوة والكافور والزعفران).أما في الجانب التجاري، فقد بنى الامير عثمان بن علي الزنجيلي التكريتي في عدن (خان البز) وهو سوق لتجارة الأقمشة، وقد جعله وقفاً على المسجد الذي بناه في عدن وحمل اسمه، حيث كان يصرف عليه مايتطلبه ذلك ومافاض عنه يصرف على المسجد الحرام في مكة المكرمة، وكانت عدن قد عرفت الخانات وهي الفنادق والقيصريات الرائعة، وهي البازارات، وتعني الأسواق وفيها تباع كل أنواع البضائع القادمة الى عدن عن طريق البر أو البحر.وقد كانت الخانات عبارة عن سوق في الطابق الأرضي بينما الطابق العلوي عبارة عن غرف لمبيت التجار والعاملين في السوق، كذلك بنيت المستودعات الواسعة لحفظ البضائع الداخلة إلى عدن مع حركة التجارة المستمرة، فقد كانت تلك الخانات بمثابة محطات استراحة للقوافل التجارية في الطرق الخارجية ومقاماً لمنام المسافرين، ومن هنا يكون تصورنا بان الخان الذي أقامه الزنجيلي في عدن كان سوقاً وفندقاً للتجار ورجال الأعمال، الذين يأتون إلى عدن لقضاء أعمالهم التجارية وسط هذه المدينة صاحبة الأسواق المهمة في فترة حكم السلطان طغتكين بن أيوب (1183 ـ 1196م) أقام قيصارية جديدة للعطارين في عدن، وهي عبارة عن دكاكين ، وكان لها باب يغلق في الليل ويفتح في الصباح.وهذا يدل على اهتمام ذلك الحاكم بالأحوال الاقتصادية لعدن حتى أقام مثل هذا البناء، كما أقام المعز إسماعيل، (1196 ـ 1201م) بناية في عدن جميعها دكاكين وقيصارية جديدة للعطارين.في تلك الحقبة التجارية من تاريخ عدن كانت كميناء تتواصل فيها حركة الأموال والبضائع على مدار العام، متصلة مع مدن وشعوب من مختلف العالم، لذلك عرفت فيها الأسواق المتخصصة في بيع أنواع البضائع والمواد المرتبطة بحياة الناس ومايكون على صلة بأمورهم اليومية، وقد ذكر العديد منها في المصادر التاريخية، ولعل عدداً منها يعود إلى ماقبل العصر الأيوبي ومنها سوق الخزف عن ابن المجاور، وعرفت بموقع (بئر سوق الخزف) والتي يدل اسمها على أنها سوق لبيع هذا النوع من البضائع التي تصل إلى ميناء عدن قادمة عبر البحار ومنها الصين، ومنه ماكان يصنع في عدن وأطرافها ويباع لمن سكن عدن ويرسل إلى خارجها كجزء من النشاط التجاري لهذه المدينة.كما ورد ذكر سوق الصاغة، وقد روي عن ابن المجاور انه التقى بصائغ من يهود عدن كما ذكر ذلك السوق، وما كان لليهود من أعمال تجارية فيها، وهم أصحاب خبرة ومهارة في مثل هذه الأعمال التي لا تنهض إلا في مدن تعرف التطور المالي وحركة التجارة المستمرة، وهذه المهنة كانت رائجة في عدن ولابد أن تكون لها سوق خاصة بها، وهذا التقسيم للأسواق والأعمال التجارية في عدن، يدل على أن للمدينة قوانين وأعراف صارمة تسير أمور، وإدارة تنفذ، وذلك من صفات المدن المتطور في كل العصور، كذلك كان لعدن طابعها المعماري الخاص بها وما يوافق طبيعة هذه المدينة بحكم مينائها العربي التجاري المفتوح على تجارة العالم، لذا باتت تلك الأسواق تشكل ظاهرة معمارية واقتصادية صاحبة لون تراثي يميز عدن.كل هذا التطور في شكل الحياة لعدن، صحب معه تقدم في منشآت ميناء عدن وهو الحد الفاصل في تقدم أو تراجع نوعية الحياة في هذه المدينة، كان عدد السفن التجارية التي تصل إلى ميناء عدن في العام مابين 70 إلى 80 سفينة، وهذا العدد يدل على حركة واسعة للميناء في تلك الحقبة ومن الدول التي ترسو سفنها في ميناء عدن القديم الواقع في صيره، الهند والصين وعمان ومصر والحجاز والحبشة والصومال والسودان، وغيرها، حيث تستودع فيه أنواع مختلفة من البضائع العالمية وبعدها تنقل إلى موانئ أخرى على سفن صغيرة، إلى مناطق عديدة عبر البحار، أما قضايا الضرائب والتفتيش والعشور لكل مركب تأخذ بحدود ثلاثة أيام وهذا الفعل يوضح لنا أنه يتم تفريغ مركبين خلال الأسبوع الواحد، ويصل دخل خزينة الدولة من بعض المراكب مبالغ مالية كبرى تساعد على تسيير أمور الدولة.أما عن تطور المنشآت الاجتماعية في عدن، فقد سكن أهل عدن منطقة الوادي وأقاموا فيه الدور الجميلة، وكانت تستخدم في هذا العمل الحجر والجص، ولعب النشاط التجاري في رفع معدل السكان الذين جاؤوا إليها من أطراف اليمن والجزيرة العربية وكذلك من الأقطار العربية المجاورة كما قصدها تجار من أديان وأعراف عديدة للعمل، فازدهرت لكثرة الناس بها، حتى توسعت بها المحلات والمنازل، وقد قال ابن المجاور عن منازل أهل عدن: (وبناء دورهم مربعة كل دار وحدها طبقتين الأسفل منهما مخازن والأعلى منهما مجالس وبناؤهم بالحجر والجص والخشب، والملح والجص).وساعد توفر مواد البناء في عملية التوسع، ويدل الحال في ذلك الزمان على تصاعد العمل التجاري من خلال نوعية الشكل الهندسي الجامع بين المخزن في الأسفل والسكن في الأعلى.استدعت الزيادة السكانية في عدن إلى إقامة الحمامات العامة وتوفير المياه المطلوبة لها، وما يخدم أغراضهم اليومية، ومن الحمامات التي عرفت في عدن، حمام حبس الدم الذي بني في عام 622هـ ـ 1224م، كما أقام المعتمد رضي الدين محمد بن علي التكريتي حماماً، عرف باسم حمام المعتمد، وكان جامع عدن قد أقيم إلى جانب هذا الحمام سنة 625هـ ـ 1227م وقد عرف بعد ذلك باسم حمام حسين، كما ذكر ابن المجاور، أن المعتمد بني حمام حسين وربما كان هذا حماماً ثانياً بناه المعتمد التكريتي في عدن، أما المؤرخ حمزة على لقمان يرى أن المعتمد بني حمامات حسين في حدود سنة 600هـ ـ 1203م.أما الرحالة الفرنسي دي لورك الذي زار عدن في عام 1708م يقول عن هذا التطور في حياة سكان عدن: (بين العمارات البارزة نجد حمامات رائعة منقوشة ومخططة بالبلور والمرمر الحجارة الملونة بالأخضر والأحمر والأزرق والحمامات من الداخل مزينة بشرفات تسندها دعامات رائعة المنظر، وتنقسم إلى جزأين أحدهما مغاسل وثانيهما غرف مسقوفة بالعقود).وعن هذا يقول الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري في المرجع السابق: ( يشكل بناء الحمامات في عدن مظهراً عمرانياً ويدل على تطور المدينة بتقديم خدمات اجتماعية لسكانها، وهذا الأمر يعطينا فكرة واضحة عن ظاهرة انتشار الحمامات كجزء من طبوغرافية وتراث المدن العربية والإسلامية في عصور التاريخ، وبصورة خاصة تلك المدن التي تطورت واتسعت وازداد سكانها نتيجة لأهميتها ونشاط الحركة. التجارية فيها وبسبب موقعها الجغرافي وغير ذلك من العوامل وكانت مدينة عدن قد تطورت ذلك التطور لهذه الأسباب فبنيت بها الحمامات وسميت بأسماء بناتها أو مصمميها او المشرفين عليها).أما حفر آبار المياه فقد ترافق مع التوسع الذي شمل عدن، وذكر ابن المجاور عدد الآبار في عدن الصالحة للشرب 180 بئراً، وفي أطراف عدن حفرت وجددت في العصر الأيوبي عدد منها مثل آبار اللخبة التي في طريقها وأشهرها بئر أهل العمارة والتي يرجع تاريخ حفرها إلى عام 614هـ 1217م والغرض منها استخدامها في عمل اللبن الذي يدخل في البناء، كا وجدت آبار مصدر مائها بحر عدن منها بئر سوق الخزف ، وبئر الافيلة والتي حفرت عام 620هـ ـ 1222م ، ويدل اسمها على وجودها قرب حديقة للفيلة، وربما تكون حديقة للحيوانات التي تنقل عبر البحار إلى عدن، وقد بني ملحق بحمام المعتمد التكريتي الواقع على ساحل حقات.
|
ثقافة
عدن.. رحلة في الأزمنة والأسفار
أخبار متعلقة