د. زينب حزامفلا يكاد الضيف أن يستقر إذا دخل منزلاً في عدن، إلا ويكون في مقدمة ما يستقبله به المضيف مبخرة مزخرفة بأجمل النقوش تتصاعد منها رائحة زكية ألا وهي رائحة البخور العدني ودخان العود وشذى العطر العميق. لا غرابة في ذلك، إذ لا شك أن علاقة عدن بتجارة البخور والعود منذ القدم، حيث تشتهر بهذه التجارة عبر القفار والبحار إلى دول آسيا الجنوبية والشرقية.ووصفها كتاب الطواف حول البحر الاريتري في القرن الميلادي الأول بأنها ملتقى السفن القديمة من الشرق والغرب، وفي القرن الميلادي الثالث حاول الأحباش الاستيلاء عليها ولكن تم صدهم بواسطة قبائل ردمان وخولان أيام الملك (ياسر يهنعم) ملك سبأ وذي ريدان . وفي القرون الميلادية الأولى تفوقت عدن على موانئ حضرموت وكذا على (موزع) القريبة من إنتاج البخور واستحوذت مدينة عدن بدون منافس على تجارة البحر الأحمر المحمي من الإمبراطورية الرومانية، كما كانت عدن سوقاً من أسواق العرب في القرن السادس الميلادي حيث اشتهرت بمنسوجاتها الخاصة في ذلك الوقت. ولعود البخور الذي نعنيه في هذا المقال عدة أسماء في الفصحى، منها الألوه والأندجوج والقطر والقنطار والوح والوقصى والشذا والعتيق والعقاري والهندي، ليس وسبيل المثال:أهدى ملك الصين لكسرى أنو شروان ألف من والمن رطلان، من العود الهندي، يذوب في النار كالشمع، ويختم عليه فيتين الكتابة، وأهدى بعض ملوك الهند إلى الحسن بن سهل في زفاف ابنته بوران على الخليفة العباسي المأمون في سنة 210 هدايا من بينها (سقط) عود لم ير مثله وقال علي بن المخجم، كنا ليلة بين يدي الخليفة العباسي المتوكل على الله ومعنا عبيد الله بن الحسن بن سهل وكان الخليفة قد احتجم في ذلك اليوم فناله فأشار عليه الأطباء أن يتبخر بعود جديد، فعطل ذلك فحلف كل من كان حاضراً أنه ماشم مثل ذلك العود قط !! فقال عبيد الله هذا والله من العود الذي أهداه ملك الهند إلى أبي ليلة زفاف أختي بوران على المأمون !! فكذبه المتوكل، ودعا بالسقط الذي أخرجت منه القطعة، فوجدوا فيها رقعة مكتوباً عليها: هذا العود هدية ملك الهند إلى الحسين بن سهل لزفاف بوران على المأمون، فأستحى المتوكل من تكذيبه، وأمر له بصلة !!.وأهدى أسحق بن زياد صاحب اليمن إلى عز الدولة أبي منصور سنة 359 هدية من جملتها دقل من عود قماري طوله عشرة أذرع ووزنه ثلاثون منا!!وللبخور في تاريخ تطور الحضارة شأن فلا شك أن الإنسان منذ عرف النار، ميز بين الروائح المختلفة التي تنبعث من احتراق الأنواع المختلفة من الأخشاب.ولكننا لا نستطيع أن نحدد على وجه اليقين متى وأين تم للإنسان اكتشاف أن خشب العود الذي نعنيه هو أجود ما ينبعث منه الدخان حين تمسه النار.وقد اشتهرت عدن منذ القدم بالبخور والمر واللبان ويستخرج من إفرازات الشجر، كما اشتهرت بتجارة البخور إلى دول الصين والقفاز وغيرها من الدول وكان إلى ما قبل ظهور الإسلام مصدر خير وفير ورزق عميم، تماماً مثل النفط في أيامنا هذه.ولما جاء الإسلام الحنيف، لم ينكر الطيب بل حض عليه، بما في ذلك البخور، ولكنه لم يجعله جزءاً من العبادة لا في الفروض ولا في السنن.ولكن أفكار الذين يكيدون للإسلام ويسعون لإدخال البدع فيه، تعمل عبر الزمان والمكان منذ رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ومن ذلك ونحن في سياق الكلام عن عود البخور نذكر القصة الطريفة التالية:قال أبو محمد الفرغاني في تاريخه إن المأمون قد أصاب بخراسان كانونا من الذهب مرصعاً بالجواهر، قيل أنه ليزد جردين شهريار الفارسي فقال ذو الرئاستين الفضل بن سهل بن الصولت: يا أمير المؤمنين الرأي أن تجعله في الكعبة يوقد فيه (العود) بالليل والنهار .فقال المأمون: أفعل وأمر بحمل الكانون إلى مكة المكرمة وأتصل الخير بيزيد بن هارون المحدث، فأمر مستمليه أن يقف يوم الخميس عند اجتماع الناس وأصحاب الحديث فيشكر المأمون ويدعو له ويخبر بخبر الكانون ففعل المستملي ذلك، فلما سمع يزيد كلامه صاح وانتهره وقال له: ويلك أسكت إن أمير المؤمنين أجل قدراً وأعلم بالله عز وجل من أن يجعل بيته تعالى بيت نار (كالمجوس) فكتب أصحاب البريد بذلك إلى المأمون فأمر بكسر الكانون وبطل ما كان دبره ذو الرئاستين: وأعجب ما في العود البخور، أنه ناتج عن مرض يصيب شجرته بسبب جرثومة فطر مؤذية تدفع النبات إلى إفراز تلك المادة الراتنجية الزكية الرائحة.وقد تغنى الشعراء والفنانون برائحة البخور والعود الزكية التي تستخدم في الأفراح والأعراس والمناسبات خاصة في البيت العدني، وأثناء جلسات السمر والمقيل، كما أن صناعة البخور تعد حرفة نسائية تجني المرأة العدنية منها المال والكسب الشريف وتجارة رابحة لها.ويقول الشاعر الغنائي الراحل أحمد فضل القمندان في قصيدته الغنائية المشهورة (يا قلبي تصبر) عن العود والبخور: يا فل يا عود ماء وردي وعنبروانته عسل جرداني وسكر فين وليت دوبي تخبر لما متى فين وليت قلبي تفطر بعدك على الله في بحر أو بر ياليل أبيض أو يوم أزهر فيه اللقاء أنته بطل من شافك تقهقر تخشى بعادك عرب وبربر وليه يا سيد مني تفرفر مابا أعذرك العنق بلور والصدر مرمر وأنا متيم باجي وبا أزقر بأقول قر ياسمن البقرقر لما متى أشرب معي ياسيد وأسهر سمرة كما عبلة وعنتر لما يقول الله أكبر ما با أفرقك تم لي في المولد تخور بالي مشيك أو مكركر والزين سمرني وكثر يوم الهناء شوف العشي سود وغبر ركب على الوادي وزفر هاتوا عباتي خاف با امطر يا فرحتي شن المطر والسيل دفر والطين ساقي خاف يوفر عاد البقر من شق خنفر باجيبها هذا زبيدي بلح وصفر صبح مناصف رطب مفرفر وذا عنب من زحلة وصوفر خريف.
|
ثقافة
البخور : من العادات والتقاليد العدنية
أخبار متعلقة