كتبت : إيمان ملال كل شيء يبدأ بالاسم .. أو قد ينتهي به كل شيء !خاطب رفيق منفاه في جوف السجل المدني قائلا : -خرجت في غزوة لاسترداد الاسم المغتصب، فإذا بي أجد نفسي وقد أضعت طريق العودة، اسمي أيضا إلى جانب الاسم المغتصب !اغتصب ضحكة مريرةً قبل أن يضيف : -أنا الآن أيضاً بلا اسم (ص. 111 )هكذا وصف بطل الرواية (مسي) بليته لرفيقه في الانتظار (موسى) داخل مبنى سلطات التسجيل المدني للمواليد الجدد الذي انتظر فيه طويلاً جداًَ لتسجيل اسم لنجله (يوجرتن) الذي رفض بحجة عدم وجوده في (اللائحة المنزلة) للأسماء القانونية التي تعتبر لائحة مقدسة يستحيل مخالفة ما تم تدوينه فيها من أسماء.فيستغرب (موسى) من طريقة كلام (مسي) ليشرح له هذا الأخير كيف أن اليأس عزاءه الوحيد : - يدهشني أن أسمعك تتحدث عن البلية بمثل هذه الروح.-لا أفعل ذلك من باب ادعاء البطولة، ولكن اليأس أيضاً خلاص. (ص.112 )ليس هذا فقط، فإن الحكم بعدم قبول الاسم كان يعني للأب والطفل معاً الحكم بالاعدام على قيد الحياة، وفعلاً، فقد (مسي) اسمه أيضاً أثناء رحلة الصراع لأجل (يوجرتن) بداخل المبنى نفسه بحجة مفادها أنه لا يوجد دليل على أن بطاقة هويته قانونية لأن الاسم المسجل ليس أيضاً من الأسماء (المنزلة)، فكيف يعقل أن دائرة سجلات مدنية قد سمحت به؟تبدأ الرواية بلحظات انتظار.. يليه انتظار ثم انتظار آخر إلى نهاية ظلت مجهولة في نظر (مسي) على الأقل قبل أن يبدأ مسلسل الإستدعاءات، ولا فرق بين انتظار وآخر سوى في حجم القلق واليأس الذي يتزايد كل يوم بنفس عدد الأيام التي كان يكبر بها (يوجرتن). لكن ما سر هذا الاسم الذي تسبب بعدة كوارث للأب الذي لم يكن يطمع من وراء كل القصة سوى أن يسجل اسماً اختاره هو لخليفته من بعده للحفاظ على تراث الأسلاف؟(يوجرتن) اسم يعني في لغة الأسلاف بطل الأبطال. ولكن المشكلة أن القانون لا يرغب، بل يرفض رفضاً قاطعاً كل رمز -والاسم هنا أحد هذه الرموز- يحيي التاريخ بأحداثه أو شخصياته أو نواميسه. وهذا ما يبينه الحوار بين “مسي” وأحد الذين استجوبوه :- أليس خطيئة في حق الوطن أن نمنع من التداول تلك الأسماء التي افتدى أصحابها حرية الوطن بأرواحهم يوماً؟-نحن نضع وحدة الهوية فوق كل اعتبار، لأننا لا نحيا بناموس التاريخ ولكننا نحيا بقوانين الواقع الحاضر.-اللهفة على وحدة الهوية لا تجيز لنا أن نطلق النار على التاريخ !يسكت صاحب الاستجواب، فأضاف (مسي):-إكبار الأسلاف لا يهدد وحدة الهوية لأن شروط أي وحدة هوية إنما تكمن في لم شمل الأجزاء، لا بـدق الإسفين في الكيان ليتفتت إلى أجزاء! . إن المشكلة إذن لم تكن مشكلة اسم غير مرغوب فيه وحسب كما اعتقد (مسي) في البداية، ولكنها في الواقع كانت مشكلة صراع عميق بين التاريخ بما هو ماض والهوية بما هي حاضر ومستقبل. لقد كان فقدان (مسي) لبطاقة هويته مصدره فكرة (الاغتراب) التي كانت السلطات تؤمن بها، فبالرغم من أنه ابن الوطن بما هو مدينة وصحراء إلا أن القانون كان يعتبره مغترباً، وقد أخبره أحد المستجوبين أنه ما كان عليه أن يهجر الصحراء نحو المدينة (لأن الاغتراب في عرف الوطن خيانة للوطن). وأي اغتراب في أن يهجر (مسي) الصحراء نحو المدينة بحثا عن لقمة العيش بعد أن انتهك الإنسان كل خيراتها !.لهذا السبب يحاول (مسي) أن يشرح دوماً أنه ابن الصحراء، وأنه بالرغم من أنه لا يحمل شهادات إلا أنه تعلم في جامعة الصحراء ما لا يمكن تعلمه في أي مؤسسة مدنية، وهذا ما يجعله متمسكا باسم لا يعرف دلالته إلا هو وأسلافه الذين عاشوا في الصحراء التي خربها الإنسان. ومع الاستجوابات المتتالية كان (مسي) يتحدث بخطاب الواثق مما يفعله، وأحيانا كانت عباراته الجريئة تستفز الآخرين غير أنه لم يكن يبالي، وليس أمرا غريباً أن يدافع عن قناعاته هذا الدفاع المستميت وهو الذي انتظر سبعة أعوام أو يزيد في مبنى السجل المدني لا لشيء سوى لكي يحظى ابنه باسم تركه الأسلاف بعد أن ضحوا بالغالي والنفيس لأجل حريتهم وحرية القادمين من بعدهم.لقد كانت نواميس السلطات تقضي بأن يمسح كل أثر لتاريخ الأسلاف، وأن يعدم كل من فكر في الحفاظ على آثاره، وهل من إعدام أقسى من الحرمان من الهوية في دولة مدنية فيصبح كل تحركٍ بدون هوية بمثابة تهديد للحياة؟ ربما كانت قصة الاسم هنا تذكرنا بقصة (كل شيء Alles) لـ إنجيبور رايخمان حيث وصل الأب إلى خلاصة مفادها أن كل شيء يبدأ بالاسم الذي سيختاره لولده، وأن المرء عموماً يولد من اللغة وفيها وبأنه يحقق ذاته فيها ويتعذب بها وبداخلها وأنها السبب الأساسي لصداماتنا المتكرر مع الواقع وثوراتنا. وربما تشابهت القصتان في هذه النقطة بالتحديد كما سيظهر لاحقاً حين سيفقد الأب في رواية إبراهيم الكوني (يوجرتن) الابن بسبب (يوجرتن) الاسم الذي هو مجرد لغة و رمز لكنه سبب التراجيديا التي ظلت تلازم كل الأحداث. بعد مسلسل الانتظار تبدأ الأحداث بالتسارع بوتيرة مرتفعة، فبعد وفاة زوجته بسبب هموم حرمان ابنها من الاسم، ها هو (مس) يلجأ هذه المرة لورقة ضغط هي القانون، فهل فعلاً للقانون سلطة ستعيد إليه الاسمين الضائعين؟يذهب (مسي) إلى (الداهية) الذي هو المحامي الشهير بكسبه للقضايا المعقدة، ويشرح له الورطة التي وقع فيها منتظراً شعاع أمل واحد في كسب المعركة، غير أنه يتلقى صدمة أخرى من المحامي بعد أن عرف بأن المعركة هي ضد لجنة تملك سلطة أقوى من القانون :- الحق أقول لك : لا أمل لمظلوم في نيل حق مغتصب ما لم تتنازل البشرية عن كبريائها الزائفة، لتقي بالقوانين الوضعية في صناديق القمامة، لتذهب لاعتماد القانون الأخلاقي وحده ! (ص. 124). يبدو أن لهذه العبارة دلالة فلسفية عميقة، ففي الوقت الذي تدعي فيه أجهزة الدولة أنها تتبنى القانون لحماية الأفراد والمظلومين نجد أنها لا تخدم سوى أصحاب النفوذ والصيت الذي لم يكن لـ(مسي) نصيب منه. يعود الكاتب ليتحدث من جديد عن الجانب المظلم من القانون الوضعي في صفحات أخرى من الرواية وذلك في اللحظة التي ذهب فيها (مسي) لمخفر الشرطة قاصداً تقديم شكوى بعد اكتشافه بقضية سرقة (الحجر المقدس) الذي يعد كنزاً من كنوز الصحراء :- الحجر الذي يحمل بصمة الأسلاف ليس كنز الدنيا، ولكنه وصية روح.-أفهم أن يكون الحجر الذي تتحدث عنه وصية روح، ولكن كيف السبيل إلى إقناع أبناء هذا الزمان بهذه الحجة؟-ظننت أن الحيلة إذا أعجزت سلطان العرف فلا يجب أن تعجز الحيلة سلطان القانون الذي يملك الحق في أن يضرب بيدٍ من حديد.ابتسم رئيس المخفر بمرارة. توقف عن سعيه وقال :-يدهشني وجود المخلوق الذي يعول على سلطان القوانين. (ص. 243).في هذا المقطع من الحوار يبدو (مسي) مجرد مغفل دخل مركز الشرطة وهو يجهل الحجم الحقيقي لهذا السلطان الذي يريد الاستعانة به. ويالها من خيبة أمل !لكن (مسي) وكما عودنا دائماً، يواصل السجال رغم نظرات السخرية التي يتلقاها واليأس الذي يحيط به، فيجد له في الضمير آخر ملجأ للدفاع عن قناعته :- يجب أن نعول على سلطان الضمير لا على سلطان القوانين.-الضمير فارس حقا ولكن البلية أنه فارس أعزل !-قد يفلح فارس الضمير وهو أعزل، في ما يفشل في عمله سلطان القوانين وهو مدجج بألف سلاح.. (ص. 243 )هنا يتجلى الصراع بين القانون والضمير الأخلاقي وقد بلغ ذروته، فـ (مسي) لم يعد يعقد الكثير من الأمل على القانون الوضعي الذي هو من صنع إرادة الإنسان الطامع في الجاه والسلطان، خصوصاً بعد الحقيقة القاسية التي واجهه بها (الداهية) و مسؤول قسم الشرطة وحتى المستجوبون، فيتجه بنظره نحو الضمير الذي نفهم أنه أصبح آخر حلقة يمكن التعلق بها، ولو كان (مسي) يخفي وراء قوة جداله الكثير من الضعف. خلال مجريات الأحداث نلاحظ تصاعداً غير مألوف في حدة المشاكل التي تواجه (مسي) في كل مرحلة، فما بدأ بصراع لأجل الحصول على هوية للابن (يوجرتن) انتقل إلى مشكلة فقدان هوية (مسي) الذي حافظ رغم ذلك على إصراره وروحه العالية في التحدي، ولم تقف المشاكل هنا، فبعد مدة قصيرة يحدث خصام بين (يوجرتن) وأحد أطفال الحي يؤدي بكليهما إلى قسم الشرطة حيث ينجو الخصم لا لشيء سوى لأنه قال للشرطي أثناء طلب بطاقة الهوية إنه نسيها وحسب، في الوقت الذي يثور فيه (يوجرتن) ويدافع بشراسة عن قناعة ورثها من أبيه :إن المواطن الحقيقي ليس في حاجة إلى امتلاك هوية إثبات لا لأنه لا يشك في انتمائه إلى الوطن وحسب، ولكن لأنه يحتقر كفالة يثبتها ذلك القرطاس التافه الذي لا يتسابق للحصول عليه إلا أولئك الذين يشكون في انتمائهم إلى الوطن لأنهم لم يعترفوا به وطناً أصلاً إلا يوم ضاقت به الثروات ! (ص.129)البريء وحده لا يحتاج لشهادة براءة. (ص. 131) بعد خبر اعتقال الابن، يأتي إلى “مسي” رفيقه في قاعة الانتظار (موسى) ليعرض عليه صفقة مغرية بالعمل في شركة التنقيب عن المعادن في الصحراء لحساب (الباي) الذي هو مديرها، مقابل أن يستعمل هذا الأخير نفوذه لاسترجاع الهوية الضائعة وتغيير الاسم لحساب (يوجرتن) وأيضاً إخراجه من السجن . وكما يبدو فإن العرض كان بمثابة أملٍ أخير يمكن البطل من ضرب عصفورين بحجر واحد لولاً أن الثمن كان غالياً، لأن العمل في هذه الشركة كان يعني للبطل خيانة الأرض بمساعدة أهل المدينة على اغتصاب خيرات الصحراء من نفط ومعادن وأسرار تختبئ في جوفها. ولكن بعد تفكير طويل، لجأ البطل (مسي) إلى القبول وتوقيع الصفقة على حساب القناعات والمبادئ لا لشيء سوى لأنه كان يرى أنه في سبيل الابن يهون كل شيء !وفعلاً يذهب الأب رفقة ابنه في رحلة العمل في الصحراء آملاً أن يتحقق ما وعده به (الباي) بعد العودة، ثم يقضي جل وقته خلال الرحلة رفقة (يوجرتن) ليكشف له خبايا الأسلاف وأسرار الصحراء معتقداً أن خليفته الوحيد يجب أن يحفظ السر من بعده، وخلال الرحلة يلتقي (مسي) بالرجل الأول الذي أخذ منه ملف تسجيل اسم الابن والذي طرد من الدائرة مباشرة بعد قبوله الملف من (مسي)، وسيروي له ما حدث بعد تلك الحادثة، وسيكون له دور مهم في كشف بعض ما يخفى على (مسي) لاحقاً. أثناء العودة للمدينة يقرر الأب بيع المنزل وأخذ الابن معه إلى الصحراء من جديد، في الوقت الذي كان يرفض فيه الابن الفكرة تماماً كما سبق وقال له أثناء حوارهما في الصحراء : ( أن أحيا في المدينة باسم مفترض أهون عندي من أن أحيا في هذا العدم باسم مكتسب). (ص. 163) بعد أيام قليلة يكتشف الأب كارثة جديدة وهي أن (يوجرتن) الذي لم يرض بهذا الاسم الذي جلب له الويلات منذ ميلاده، قد غير اسمه إلى (جريء) ولحق بصبيان يعانون من نفس مشكلته - بلا هوية - و يخططون في مكان سري لنسف دائرة السجلات المدنية، ثم يترك الابن البيت خوفا من العودة إلى الصحراء. يحاول جار (مسي) أن يفسر له سر هروب الابن قائلا :الأبناء في سن الطيش لا يهجرون مأوى الآباء إن لم يضمنوا وجود مأوى آخر أكثر إغواء من مأوى الآباء. إنهم كالنساء اللائي لا يهجرن رجلاً إن لم يضمن وجود رجل آخر بالانتظار. (ص.212) وربما كانت هذه المقولة تعني الكثير، فهذا الأب ربما لم يكن يشعر في قرارة نفسه بأنه السبب في ما يجري بسبب عناده وعدم محاولته تغيير الإسم قبل فوات الأوان، وهذا ليس غريباً جدا ما دام يعيش في زمن الماضي، ويريد إحياء التاريخ ولو على حساب حياته.يستعين الأب بحفيد الجار ليجد ابنه في منزل رفقة الصبيان المغتربين فيحذره من خطر الانتقام والتخطيط لنسف الدائرة : وصية الأسلاف تقول : إياك أن تفعل شيئاً على سبيل الانتقام. (ص.225)يرد الابن بثقة كاملة وكأنه اكتشف خدعة ما تكمن في وصايا الأسلاف المقدسة :وعلى الرغم من ذلك لم تكن حياة هؤلاء الأسلاف سوى انتقام في انتقام ! (ص. 225) وهذا امتداد لما قاله من قبل : (إن من فقد كل شيء ليس عليه أن يخاف أي شيء ! (ص.249)فما هو (كل شيء) يا ترى؟ إنه الاسم. ولا شيء غير الاسم الذي هو هوية وتاريخ الإنسان، خصوصاً في عصر المدنية، حيث لا يمكن، بل ويستحيل في عرف القانون أن يعتبر إنسانا حياً ذاك الذي يتحرك بدون هوية منذ الميلاد، هذا إن تجاوز عنه المجتمع واعتبره (مغترباً) وحسب، أما إذا صادف وجوده في مجتمع من يحسبون أنهم أرباب على الناس فإن وصف (اللقيط) لا يفارقه مهما حدث، فيضيف على شر انعدام الهوية شرا آخر يزج به في سجن الحقارة والبذاءة بسبب جريمة لم تحدث يوماً.إن كل ما بدأ بالاسم سينتهي حالاً به !فحتى ذاك الابن الذي كان يظن (مسي) أنه صارع لأجله القلق والانتظار والخوف وحتى التهديد بالموت ها هو في النهاية يزيل القناع عنه ليبدو مجرد خائن لوصايا الأسلاف بعد أن اكتشف أمره بأنه من دل (الباي) على مكان الحجر السري الذي كشف والده سره له أثناء خلوتهما في الصحراء، فيصدم بأن وريثه الوحيد كان يخطط لنفس ما يخطط له هؤلاء الذين قضى عمره منتظراً في دائرتهم.لكن هل للابن مبرر لفعلته التي تعد خيانة عظمى ؟لو نظرنا للرواية في مجملها لوجدنا أن الابن كان يبرر فعلته في كل كلمة ونظرة يواجه بها أباه حين يتحدث له عن الأسلاف حتى ضاق ذرعاً بهذه الأسطوانة التي لم يكن أبوه يتقن ترديد سواها. أن تولد محروماً من الاسم، وتحرم بعده من الأم، ثم من حنان الأب والمدرسة، فهذا يعني أن لعنة ما قد أصابتك. ولا يمكنك أن تفكر في طريقة فهم الأب للأحداث إلا وتكتشف أنه رجل أناني جدا لا يريد في الحقيقة لابنه أسماً بطولياً بقدر ما يريد أسما يخلد خليفته من بعده، ما يعني خلوده هو كأب سينتمي فيما بعد للأسلاف.ولكن يبدو أن الابن في النهاية فقد كل أمل في الحياة بالطريقة التي يريد، فاستسلم ورحل رفقة أبيه باتجاه الصحراء هناك حيث انتهى كل شيء.. نعم، فقد نحر (مسي) خليفته (يوجرتن) بـطل الأبطال، كما حدث في قصة إبراهيم وإسماعيل، غير أن السماء هذه المرة لم تنزل أضحية تفدي (يوجرتن)، فقد تقبل المصير بدون مقاومة. استقر النصل المغسول بروح الإله الأبدي في نحر السليل فخر الابن أرضاًـ انبثق الدم غزيراً من النحر ليسيل عبر الحضيض. تسلل عبر الأرض الظمأى ليروي شجرة الرتم فحشرجت الضحية :-كأني أضحية العيد !في البعد البعيد لفظ معبود الأسلاف السماوي أنفاسه الأخيرة أيضاً، ليسلط على النسل المخضب بالدم شعاعاً مخضباً بالدم أيضاً، كأن الشعاع كان تلويحاً بتحية وداع. (ص. 255 والأخيرة.) بهذه الكلمات الدامية ينهي (ابراهيم الكوني) روايته الدامية أيضاً، ويكون مصير سؤاله (من أنت أيها الملاك؟) أن الملاك يموت قبل أن يعرف أحد من يكون.. وهنا نتذكر رمزية لوحة رآها (مسي) ذات يومٍ في مكتب رئيس الدائرة المدنية حيث كان الملائكة يحلقون بأرواحهم كأنهم طيور سماوية، وكان القاسم الوحيد بينهم أنهم لم يحظوا باسم ككل البشر، فولدوا ولم يولدوا، ثم ماتوا ولم يموتوا فعلاً.. ذلك ان هناك من البشر من يلعب دور الآلهة التي تحيي، فيـمنع الحياة عمن يريد ببساطة لا تتجاوز رفض توقيع واحد على قبول اسم ما، ظنا منه أن مقدار الحبر الذي سيوقع به أغلى وأنفس من حياة كائن ينتظر خلف جدران الدائرة بشغف أسما يؤسس به تاريخه ويعلق عليه آماله البسيطة في الحياة كالآخرين.هكذا إذن يكون إبراهيم الكوني قد نسج بعبقرية الفيلسوف خيوطاً ميتافيزيقية لفلسفة ما وراء السطور، وعبر بإبداع الروائي عن عدة قضايا كـالهوية، التاريخ، السلطة، القانون، الأخلاق، اللغة، المصلحة.. وغيرها، ورصد ما بينها وبين الواقع من علاقة جدليةٍ ليكشف المستور بتعرية واقعٍ مرير. حين أنهيت الرواية شعرت بارتجاج أصاب دماغي ويدي التي كنت أعول عليها أن تكتب شيئاً عن الرواية، فما كان بيدي سوى أن أهجر قاعة المكتبة الضخمة تاركة الملاك فوق أحد الرفوف والذهول لا يفارقني.. ومنذ ذاك الحين لم أتوقف عن ترديد : ( لو كانت هذه هي الرواية، فـهذا بالضبط ما أريد أن أكتب مثله ! )
|
ثقافة
قراءة في رواية (من أنت أيها الملاك؟) لإبراهيم الكوني
أخبار متعلقة