كتب/ نبيل نعمة الجابريعند تناولي لمصطلح نقدي لا يعني أن هذا المصطلح هو مهيمنة رئيسة أو هو ظاهرة موجودة في كل نصوص الشاعر في مجموعته، وإنما يمكن عدها ثيمة أو إحدى المحاور التي يبني على أساسها الشاعر تجربته الشعرية وهي لا تعدو وجهة نظر غالباً ما يؤمن بها الناقد وحده، نظرة سريعة لمصطلح الغموض في تناولي لرأيين مهمين من الآراء البلاغية والنقدية الأول بلاغي قديم جاء على لسان الجرجاني صاحب الدرس البلاغي المعروف، والثاني محدث لتودروف لنجد أن:الجرجاني تناول الغموض في الشعر من باب المناصر المطالب به إذ يقول: (إذا كان بينا في الشيء انه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه حتى لا يشكل وحتى لا يحتاج في العلم بان ذلك حقه وانه الصواب، إلى فكر وروية فلا مزية، وإنما تكون المزية ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه ففهم الجرجاني للغموض ينبني على أسس دقيقة جدا أصاب فيها المعنى المراد في الشعر لأنه فهم الغموض على انه تعدد وتنوع في المعنى ومعنى المعنى إذ يقول ( نعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفيض بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، وفي الأمر الثاني تنبه إلى الدلالة الإيحائية للغة والتي يعد الآن من الأمور المهمة في الدرس النقدي الحديث، هذه الرؤية نجدها تنطبق تماماً أو أنها منسجمة مع رأي عدد من النقاد المحدثين ومنهم تودروف حين يقول: ( يكون الخطاب غامضاً حين تنشأ من المنطوق وعلى المستوى ذاته معان متعددة)، لقد حاولنا أن نمر وبشكل موجز على أهم ما تم التطرق إليه حول ظاهرة الغموض في الدرس النقدي القديم والمحدث لننتقل إلى شعر الشاعر عصام واصل في مجموعته (هزائم إضافية) لمعرفة ما يميز الغموض - كحالة لا ظاهرة حتى لا يقع ذلك من باب الأعمام- في نصيصات المجموعة، فهو غموض غير مفتعل أي مضاف إلى نص، أو ناتج من تشوش أو ارتباك في الرؤية فيظهر بشكل مضطرب دونما مدلول، وإنما هو غموض يغذي الوعي والفكر لأنه نابع من استغلال القدرة الإيحائية للغة واستثمار بعدها الرمزي فلطريقة الإيحاء فضل كبير في نقل حالات الشعور المشوبة بشيء من الغموض، وسنكتشف في النهاية إن الغموض في نصيصات واصل وثيقة الصلة بجوهر تجربته الشعرية، خصوصاً في النصوص التي تقترب عنده من أعمال أو توظيف الحس الديني، وللتمثل بطريقة أوضح سننتقل إلى بعض من العنوانات لدى واصل في مجموعته أعلاه لنستجلي ملامح الغموض عنده ونلمس أهم ما يميزها - اي التجربة- عن غيره من مجايليه في هذا المجال، ففي قصيدة ( نافذة للتعري): نلاحظ في النصيص صورة شعرية غامضة تكد ذهن المتلقي لأنها تجعله يتبعها في مساحة ذهنية شائكة لكثرة ما تحيل إليه من دلالات، وغموض هذه الصورة يأتي من قيامها على استعارات بعيدة تعتمد على إطلاق الخيال الشعري وإلغاء الحدود بين الأشياء وكأنها انعكاس صادق للمتغيرات الضخمة في العالم أخص بالذكر ما يتعلق منها بالجوانب السياسية، فالمعنى المباشر الذي تنقله لنا هذه الصورة هو ما يحدث خارج هذه النافذة أو يتحدد أساساً في الطريقة التي تحدد عمل النافذة، فأن تكون هناك نافذة معناه أن يكون هناك معنىً للستر، الترميز هو ما حدا بالنافذة أن يكون لها معنىً آخر من وجهة الشاعر ممكن أن تكون القصيدة مجالا واسعاً للنقد السياسي أو السلطوي، وربما تكون رمزا للإدراك العميق الموجه نحو الوجود وما يكشفه هذا الاتجاه من اضطراب في الحركة وضباب في الرؤية المحددة للأشياء، وإذا أردنا فتح مجال أوسع لقنوات التأويل سنلاحظ أننا سنصل إلى دلالات أخرى ربما تكون مختلفة عما ظهر لنا للوهلة الأولى، وهكذا فأن احتواء النصيص على الإيضاح والغموض يعد بمثابة هامة لإنتاج دلالية النص فيكون النصيص مشتركا بين القارئ والنص بحكم التأويل مما يؤدي إلى تعدد القراءات واختلاف ظروفها من جهة أخرى.وفي قصيدة ( سوسنة خانها النهر) نجده يسلط الضوء على حيز مكاني يتمثل في مفردة (النهر) يثير فضول الإنسان نحوه، ويترك لديه رغبة جامحة لمعرفة سر الخيانة وسر السوسنة وماهية كل منها، هل إن النهر إنسان؟ وهل إن السوسنة أنثى؟ هل وهل وهل؟؟؟، والغموض الذي ينشأ بحكم التأويل هو في النهاية ما سيولد صورة لدى المتلقي عن عدد التأويلات والتوقعات التي ستنشأ بذهنه.وفي قصيدة (دماء على قميص الذئب) الغموض الذي سيتولد هنا سيحيل المتلقي إلى الفكر الديني مباشرة، وبالتحديد إلى قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) ما دام الأمر فيه ذئب وفيه قميص والقصة معروفة وواضحة فهي في زمنها شابها ماشابها من غموض برغم التفسير الواضح للسورة، إلا أن المفارقة هنا هو الغموض الناتج من كسر التوقع فبدلاً من أن يكون دماء على قميص النبي الذي أكله الذئب ستكون الدماء على قميص الذئب عينه الذي أتهم ظلما وبهتانا بدم يوسف النبي، ومساحة التأويل ستعمل هنا على ابتكار مجموعة من الاحتمالات الدينية والأسطورية والسردية من اجل الخروج من الغموض لا الإبهام الذي يأخذ دلالة مختلفة تماماً عنه في تفسير هذا النصيص، كذلك هو الأمر عينه في قصيدة(من أسفار مريم)، كذلك في قصيدة( تأويل الرياح) فالنصيص يشد أنباه المتلقي إلى تشكيل بؤرة دلالية مكتظة بالاحتمالات ومفتاحاً رئيسا لفهم المعطيات الرمزية التي يقوم عليها النسيج الحكائي للنص فالتأويل أساساً ينطوي على الكثير من الغموض كيف إذا كان للريح، ممكن أن يكون التأويل للأفكار والصور وغيرها إلا انه للرياح سيأخذ نوعاً من الغموض والابتعاد عن عالم الإنسان.في النهاية يكون الغموض في نصيصات واصل غير أسير للإيقاعات الرتيبة والمنطق النمطي الذي يخاطب العواطف الميتة كونه ينبني على قيمة فكرية فاعلة تستعين بالإشارة والترميز في تأويل التجربة الإنسانية.
|
ثقافة
الغموض في (نصيصات) مجموعة هزائم إضافية للشاعر عصام واصل
أخبار متعلقة