بحكم حداثة أمريكا ووجودها على خارطة العالم كدولة عام 1789م، انشغل قادتها ببناء أساساتها وترسيخ مداميكها، بحيث لم يفكر أحدهم بغزو دولة أخرى غير بعد أن قويت شوكة هذه الدولة، وأيقن قادتها بقدرتها على التحليق في فضاءات غير فضاءاتها، وبقدرتها على الانقضاض على فرائسها من الدول ومن الشعوب تمثل ذلك في مشاركتها في الحرب العالمية الثانية وفي حربها بين الكوريتين عام 1950م، وفي حربها في فيتنام عام 1965م، ثم في إعلان بوش الأصغر والأرعن غزو أفغانستان عام 2001م؛ بحجة محاربة الإرهاب ثم إعلانه غزو العراق عام 2003م؛ بذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل.كلفة غزوات أمريكا الباهظة في كل من أفغانستان والعراق جعلت إدارة أوباما التي أعقبت إدارة بوش المعتوه تحسب ألف حساب قبل أن تقدم على أية مغامرة أخرى، الأمر الذي جعلها تفضل في حربها المفتوحة مع سوريا استخدام وكلائها وأدواتها في المنطقة العربية للقيام بمهمة مكلفة كهذه ليقتصر دورها على الغطاء السياسي وعلى الدور اللوجيستي، وعلى فبركة المواضيع الإعلامية المتعلقة بهذه الحرب اللا اخلاقية.ما من شك في ظل هذا المشهد اليومي الدامي الذي يجري في سوريا ومنذُ أكثر من عامين والذي تديره الإدارة الأمريكية عن بعد، أن هذه الحرب ستكون الحرب الوحيدة في التاريخ التي يكسبها طرف ثالث فيما يخرج المتصارعان المضرجان بالدماء منها خاسرين. فسواء انتصر في هذه الحرب النظام السوري أم معارضته في الداخل مضافاً إليها القوى الجهادية ممن قدموا إلى أتون هذه المحرقة من كل أصقاع الأرض في اطار الحرب الكونية المعلنة ضد هذا البلد المقاوم، فإن الرابح الأكبر في نهاية المطاف هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تكون قد نجحت في ضرب عصفورين بحجر.ربح أمريكا في الحالتين محصلة لمحاكاتها للاعب البولينج حين يسقط أكثر من هدف من أهدافه بضربة واحدة، هذه الطريقة هي المستخدمة اليوم من قبل أمريكا في حربها ضد هذه الدولة العربية، وضد ما تسميه بالإرهاب، إذ عمدت إلى ضرب عدوها التقليدي المسمى بالإرهاب بأدوات النظام السوري الفتاكة، فيما عمدت إلى ضرب النظام السوري وإرهاقه وتبديد قدراته باستخدام المعارضة لهذا النظام وباستخدام ما تسميه بقوى الإرهاب التي جُلِبتْ من كل أنحاء العالم لهذا الغرض مع أخذ الأمريكان في الحسبان عدم تمكين أحد المتصارعين في الساحة السورية من الغلبة أو الاجهاز آعلى الاخر طالما رأس كل منهما مطلوب للإدارة الأمريكية في إطار تصفية الحسابات المزمنة مع كل منهما.السؤال الذي يجب أن لا يغيب عن بال أي عربي أو مسلم أو شريف في هذا العالم، هو: لماذا كل هذا الحقد، وكل هذا الإسراف في القتل وفي السحل وفي الذبح وفي التدمير الهمجي لكل ما يمت للحياة بصلة؟ لماذا هذا الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب السوري من دمه، ومن أمنه واستقراره؟ ولماذا هذا التدمير المتواصل للإنسان وللشجر والحجر دونما توقف وفي مقابل ماذا تُطمر حضارات ويتشرد شعب؟ أفي مقابل ما يُمنى به الشعب السوري من حرية ومن ديمقراطية وسط كل هذا الركام من الخراب ومن الدمار ومن نحيب الثكالى وانكسار الشيوخ المسنين. هذه الحرية الكاذبة والديمقراطية الخادعة الموعودة من دول عربية تغذي هذا القتل وهذا الدمار في الوقت الذي لا علاقة لها بالحريات أو بالديمقراطيات في بلدانها وفي أوساط شعوبها لا من قريب ولا من بعيد.في ضوء هذا المشهد التآمري والخبيث على هذا القطر العربي المقاوم يتوجب على كل عربي، وعلى كل مسلم فهم وإدراك هذا المرسوم وهذا المخطط الغربي الذي يهدف في الأساس إلى تدمير هذا البلد عن بكرة أبيه بحضاراته وبدياناته وبفسيفساء مكونه الاجتماعي المتجانس على طريق إجهاض مشروعه المقاوم بالتوازي مع إجهاض مشروعه التنموي الرائد في الوطن العربي.مبتغى امريكا من حربها الدائرة اليوم في سوريا بأدوات سياسية وبمال وسلاح عربي للأسف الشديد ليس استهداف نظام الأسد وحسب، وإنما استهداف سوريا كوطن وكشعب وكحضارة وكبنية تحتية تمثل قاعدة انطلاق نحو تبوؤ سوريا مكانة اقتصادية مرموقة بين دول العالم المصنعة والمصدرة والمكتفية ذاتياً في غذائها وفي ملبسها وفي دوائها.مُبتغى أمريكا من حربها القذرة في سوريا إلى جانب التدمير الشامل للماديات هو تدمير نفسية الإنسان السوري وتمريغ كرامته في الوحل، بل وتدمير نفسية كل عربي يمتلك ذرة من الشرف أو الكرامة من خلال ما يجري في مخيمات اللجوء في دول الجوار السوري، من نهش لأجساد الفتيات السوريات من قبل الاثرياء الخليجيين الباحثين دوماً عند نشوب مثل هذه الحروب والكوارث عن متعهم وملذاتهم الجنسية حتى لو وجدوا هذه المتعة في ضحية تقايضهم على أغلى ما عندها في مقابل ما يسد رمق جوعها، وربما جوع طفل أو أب، أو أم، جميعهم في انتظار لحظة رجوعها.أعجبُ ممن يعتقد أن الأمريكان لم يعرفوا بهوية جبهة النصرة إلا بعد عامين من تحالفهما على محاربة النظام السوري وبالتحديد عندما أعلنت هذه الجبهة ولاءها للظواهري والتحامها بقاعدة العراق، الأمر الذي دفع بالإدارة الأمريكية إلى ضم هذه الجبهة إلى قائمة الإرهاب، أقول لهذا أو ذاك: أمريكا تعرف هويات وانتماءات كل القوى التي يطلق عليها بالجهادية المتواجدة على الأرض السورية، لكنها - أي امريكا- عندما يتعلق الامر بمصالحها لا يهمها مثل هذه المسميات أو ما يتعلق بأية أخلاقيات من منطلق أن السياسة نقيض للأخلاق. فلقد سبق أن تحالفت مع هذه القوى ذاتها في حربها ضد السوفييت في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي وها هي اليوم تتعايش مع هذه القوى في إطار تربعها على كراسي الحكم في أكثر من قطر عربي، فحيثما تتحقق المصالح الأمريكية حتى من خلال الشيطان ذاته سنجد الأمريكان يتحالفون مع هذا الشيطان.
مبتغى أمريكا من حربها في سوريا
أخبار متعلقة