رؤية الشباب المستقل عن محتوى القضية الجنوبية
قدمها ناصر أحمد عباد شريفعضو فريق القضية الجنوبية عن الشباب المستقلعادياليوم صارت الديمقراطية تفضي إلى الوحدة، والوحدة تحمل معها المزيد من الإنتاج الديمقراطي.علينا واجب إصلاح ما وصل إلينا من أوضاع من عهود التشطير. الديمقراطية والمشاركة الواسعة تشكلان ضمانات نجاح إنجاز مهام المستقبل. وهذا السبيل الذي علينا أن نختاره ونسير عليه.إن حزبنا مقتنع بأن تحالفه مع المؤتمر الشعبي العام وبقية أطراف الحركة الوطنية الديمقراطية اليمنية يوفر أضمن السبل لتأمين مستقبل الوحدة وبناء وطن ديمقراطي.مقتطفات من خطاب علي سالم البيض عقب التوقيع على اتفاق 22 مايو 1990................................................................................قال البيض إنه يريد عهدا مني بأن لا أتخلى عنه، وأن لا يخون أحدنا الثاني، وأن نعمل بروح الفريق الواحد وآليات القيادة الجماعية، وقد أقسمنا على ذلك.علي عبد الله صالح في حديث مطول إلى نجيب رياض الريس منشور في ص 86 من كتاب «رياح الجنوب» الصادر عام 1997 ................................................................ بعد إعلان الوحدة طلب الرئيس منا بالذات مجموعة الاتجاه الإسلامي وأنا معهم أن نكون حزبا في الوقت الذي كنا لا نزال في المؤتمر.قال لنا: كونوا حزبا يكون رديفا للمؤتمر ونحن وإياكم لن نفترق وسنكون كتلة واحدة، ولن نختلف عليكم وسندعمكم مثلما المؤتمر. إضافة إلى أنه قال: إن الاتفاقية تمت بيني وبين الحزب الاشتراكي وهم يمثلون الحزب الاشتراكي والدولة التي كانت في الجنوب، وأنا أمثل المؤتمر الشعبي العام والدولة التي في الشمال، وبيننا إتفاقيات لا أستطيع أن أتململ منها، وفي ظل وجودكم كتنظيم قوي سوف ننسق معكم بحيث تتبنون مواقف معارضة ضد بعض النقاط أو الأمور التي اتفقنا عليها مع الحزب الاشتراكي وهي غير صائبة ونعرقل تنفيذها. وعلى هذا الأساس أنشأنا التجمع اليمني للإصلاح.الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر - المذكرات ص 248 - 249........................................................................ وأما نحن في اليمن فقد كان حظنا إن حركت أمريكا قائدة الغرب وحلفاؤها في غير بلاد العرب ومن معها، حركت الحزب الشيوعي الذي باع دينه وأمته وحركوه لضرب وحدتنا واستقرارنا. ولكن الله نصر هذا الشعب المسلم وجيشه على مؤامرة الإنفصاليين..وحركوا أسباب حرب بين اليمن والسعودية في مثل هذه الأيام من العام الماضي. وتصدى علماء اليمن، وتصدى رجالات اليمن الصادقون ورجالات السعودية، وأحبطوا مؤامرة أعداء الإسلام الذين كانوا يخططون لجر الجيش اليمني والسعودي من السواحل وباب المندب وتبوك والمدينة إلى رمال الربع الخالي ليدفن بعضهم بعضا.الشيخ عبد المجيد الزنداني - خطبة آخر جمعة من شهر شعبان 1416 هجرية................................................................................. قاتلنا ضد الحزب الاشتراكي لأن بعض قياداته أعلنت الانفصال. مع أنني اليوم أكثر قناعة بأن إعلان الانفصال هذا قد يكون دفع إليه الحزب الاشتراكي بسبب بعض أعمال السلطة والتي لم تكن واضحة لدينا آنذاك.الشيخ حميد الأحمر - في حوار صحفي عام 2008.......................................................................................وبناء على ما سبق فإن حكومة الجمهورية اليمنية تود أن تبلغكم بأنها قررت ما يلي :(أ) إعلان عفو شامل وكامل(ب) استعداد لتعويض المواطنين الذين فقدوا ممتلكاتهم نتيجة لأعمال التمرد واعتبار قانون رعاية الشهداء ساريا على جميع ضحايا التمرد.(ج) تأكيد التزامها الثابت بالنهج الديموقراطي, والتعددية السياسية, وحرية الرأي والصحافة واحترام حقوق الإنسان.(د) اعتزامها مواصلة الحوار الوطني في ظل الشرعية الدستورية والتزامها بما جاء في وثيقة العهد والإتفاق كأساس لبناء الدولة اليمنية الحديثة.أهم ماورد في رسالة بعثت بها الحكومة اليمنية إلى الأمين العام للأمم المتحدة يوم 7 يوليو 1994.................................................................................لم يكن مصطلح «القضية الجنوبية» موجودا في الخطابات السياسية المتداولة في اليمن قبل حرب 1994..وإنما خرج من رحم المعاناة الرافضة لنتائج تلك الحرب..فالنتائج هي المحتوى الذي عبرت عنه مكونات الحراك السلمي في المحافظات الجنوبية من خلال مصطلح «القضية الجنوبية»..وبما أن الحرب كانت نتيجة لأزمة وحدة 22 مايو 1990 فإن الحديث عن محتوى القضية الجنوبية يستدعي أولا الحديث عن محتوى الوحدة الذي دمرته حرب 1994 ليصبح هو الشق الوطني العام في محتوى هذه القضية..والحديث عن محتوى الوحدة إجراء منهجي فرضته العلاقة الوثيقة القائمة بين أربعة متغيرات نرتبها منطقيا وزمنيا على النحو التالي:1 - متغير «الوحدة» كما تفاهم عليها علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض، وليس كما فهمتها معظم الرؤى المقدمة إلى هذا الفريق وبنت على فهمها للوحدة إستنتاجات خاطئة سنكشف عنها لاحقا. 2 - متغير «الأزمة» التي يتعذر تفسيرها بدقة خارج محتوى متغير «الوحدة» كما تفاهم عليها علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض.3 - متغير «الحرب» التي سوقها علي صالح وحلفاؤه على أنها إجراء وقائي للدفاع عن الوحدة وقطع دابر الإنفصال..بينما أكد البيان الذي قرأه علي سالم البيض في 21 مايو 1994 بأن الحرب إنقلاب على الوحدة وقضاء عليها، وحمل الطرف الآخر مسئولية تدمير أواصر الأخوة بين أبناء الشعب اليمني في الشمال والجنوب. 4 - متغير «النتائج» أي نتائج حرب 1994 التي تستشهد بها مكونات الحراك السلمي لإضفاء المشروعية على مطلب فك الإرتباط وتقرير المصير. إن إنفراد علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض بقرار الوحدة إنطوى على مخاطرة كبيرة بمصيرها..فالرجلان تفاهما شفهيا على قضايا جوهرية في محتوى الوحدة لم يطلعا أحدا عليها، لا في قيادة الشمال ولا في قيادة الجنوب..وعنصر المخاطرة في هذا التفاهم يكمن في قراءة علي سالم البيض الخاطئة لشخصية علي صالح..فالبيض رأى في حماس علي صالح المفاجئ للوحدة رئيس دولة طامحا في العبور إلى التاريخ واعتقد أنهما سيتكاملان وسيعبران معا إلى التاريخ كثنائي عقلاني تخلص من إرث الماضي وصار بمقدوره أن يحقق الحلم الوطني الكبير للشعب اليمني..وفي هذه القراءة غلب البيض الأخلاق على السياسة في تعامله مع علي صالح، واستقوى بعاطفة الوحدة عند الجماهير على حسابات السياسة عند رفاقه الذين حبذوا التريث والسير نحو الوحدة خطوة خطوة..لهذا السبب قبل البيض أن يمد يده لعلي صالح..وقد أسرف هذا الأخير في حلف الأيمان المغلظة على المصحف لتطمين صاحبه..ومن غير معرفة القضايا المتفاهم عليها بين الرجلين تتعذر القراءة الموضوعية لمحتوى وحدة 22 مايو 1990 وأزمتها التي تعمقت بحرب 1994. وقبل الشروع في عرض محتوى الوحدة كما تفاهم عليها الرجلان يجب أولا الكشف عن العوامل الجوهرية التي تضافرت لصياغة موقف البيض من الوحدة على ذلك النحو الذي أخرجها من نفق جولد مور كما سمعنا وقرأنا. العوامل التي تضافرت لصياغة موقف البيض من الوحدة في نوفمبر 1989: هناك ثلاثة عوامل جوهرية تضافرت على صياغة موقف البيض من الوحدة في 30 نوفمبر 1989 وهي عامل سياسي، وعامل إقتصادي، وعامل ذاتي متعلق بشخص البيض نفسه.1 - العامل السياسي: كانت الوحدة اليمنية بالنسبة للنظام السياسي في الجنوب من المسلمات ذات القدسية..لكن النظام السياسي في الجنوب كان في 30 نوفمبر 1989 مقدما على تحولات بنيوية تحت مسمى الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل..وكانت هذه القضية على رأس إهتمامات الدولة والحزب الحاكم الذي انخرط في مناقشة واسعة لمشروع «وثيقة الإصلاح الشامل»..وكان التحول إلى الديمقراطية بمتغيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو جوهر هذه الوثيقة..أما أسباب هذا التحول فهي أولا خارجية ناجمة عن الإصلاحات البنيوية العميقة في الاتحاد السوفييتي السابق وانعكاساتها المباشرة على دول المعسكر الاشتراكي حينها وعلى العلاقات الدولية..وهي ثانيا داخلية ناجمة عن أحداث يناير 1986 التي عمقت القناعة بأهمية الإصلاح الشامل والتحول إلى الديمقراطية. كان البيض متحمسا لمشروع الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل في الجنوب..لكن في 30 نوفمبر 1989 ذهب علي صالح إلى عدن على رأس وفد كبير للمشاركة في الذكرى العشرين لاستقلال الجنوب..وحينها أظهر حماسا مفاجئا وغير مسبوق من أجل الوحدة، إلى درجة التلويح بالحرب ما لم تتحقق الوحدة..وفي تلك اللحظات الفارقة رمى بورقة الفدرالية لإحراج القيادة في الجنوب وقطع الطريق على أي حجة تبرر وتؤسس للتأني في الذهاب إلى الوحدة..وحينها بدا لوفدي الشطرين أن لقاء عدن فاشل وأن الحرب قادمة لا محالة..لكن البيض قطع الطريق على الحرب، أو بالأصح أجلها من حيث لا يدري ومن حيث لا يقصد إلى عام 1994..لقد فاجأ الجميع بتحويل مشاعر الخوف من الحرب إلى مشاعر فرح بالوحدة خالطها قدر كبير من الحذر، وبالذات لدى القيادة الجنوبية التي اعتبرت قرار البيض مغامرة دون أن تعترض عليه، لأن البديل هو الحرب بين الشطرين..وإذا قدر للحرب أن تقع حينها فستقع في ظروف مواتية لنظام الشمال وغير مواتية لنظام الجنوب، إلا إذا تخلى عن نهجه الوطني وأغلق ملف الوحدة تماما..وهذا التخلي مستحيل بالنسبة للجنوب الذي بنى دولته منذ البداية على استراتيجية الوحدة والنظرة الدونية للتشطير وظل لأكثر من عقدين ينتج ويكرس ويقدس ثقافة الوحدة..وكلنا يعلم أن قيادة الحزب والدولة في الجنوب غلبت الذهاب إلى الوحدة على إغراءات المساعدات السخية والمفتوحة التي عرضت عليها أثناء زيارة سعود الفيصل إلى عدن. في لقاء عدن المذكور بدا لعلي سالم البيض أن الإصلاح الشامل في الجنوب وحده مهدد بالفشل ما لم يباركه الشمال ويقدم على إصلاح مماثل بحيث يتأهل الشطران ديمقراطيا لوحدة راسخة بينهما..وعندما ناقش هذا الأمر على إنفراد مع علي صالح أقنعه هذا الأخير بأن إصلاحا شاملا من هذا النوع مستحيل في ظروف الشمال وفوق طاقة نظامة السياسي المحكوم بتحالفات لن تقبل بفكرة الديمقراطية..وللتذكير، كانت تصريحات علي صالح حتى وقت قصير قبل إعلان 22 مايو 1990 تقول علنا: «إن اليمن غير مؤهل للتعددية الحزبية»، ولم يكف عن هذه التصريحات المطمئنة لحلفائه في الشمال إلا بعد أن رست لجنة التنظيم السياسي الموحد» على خيار التعددية الحزبية والسياسية الذي لم يعارضه علي صالح. في هذا الظرف المتسم بالتوتر كان علي البيض يبحث عن حل وسط لا يكون على حساب تحقيق الوحدة، ولا على حساب تحقيق الإصلاح الشامل..وهذا الحل الوسط هو الذي أخرج الوحدة من نفق جولد مور..فقد حول البيض تلويح علي صالح بالحرب إلى فرصة تاريخية لتطبيق مشروع الإصلاح الشامل على المستوى اليمني من خلال الربط العضوي بين الوحدة والديمقراطية، وعلى أساس مشروع دستور دولة الوحدة الذي كانت اللجنة الدستورية المشتركة قد انتهت من صياغته عام 1982..وأمام هذا الحل وجد علي صالح نفسه كمن كان يبحث عن سمكة نيئة ليشويها فيما بعد فوجد سمكة مشوية جاهزة للأكل لم يكن يتوقعها..والسمكة النيئة هي الفدرالية التي اقترحها، أما السمكة المشوية فهي الدولة البسيطة التي قامت على أساس مشروع دستور دولة الوحدة. حينها تم التوقيع على إتفاقية 30 نوفمبر 1989 التي نصت على قيام وحدة إندماجية بين الشطرين في 30 نوفمبر 1990 على أن يسبق ذلك عرض مشروع دستور دولة الوحدة على الإستفتاء العام..وأهم ما تم الإتفاق عليه حينها بين علي البيض وعلي صالح هو أن دولة الوحدة ستكون مصحوبة بالديمقراطية والتعددية السياسية، وضمانات للطرفين، وأن الدولة الجديدة لن تكون بصيغة دولة الشمال ولا بصيغة دولة الجنوب، وسيؤخذ بإيجابيات النظامين. وقد قوبلت خطوة 30 نوفمبر 1989 بتأييد جماهيري واسع في الشمال والجنوب لم يعارضها إلا التيار الأصولي، بحجة أن الوحدة مع الحزب الإشتراكي في الجنوب وحدة غير إسلامية..وبسبب هذه المعارضة إستجاب علي البيض لرغبة علي صالح بتقديم موعد إعلان الوحدة إلى 22 مايو 1990 عوضا عن 30 نوفمبر 1990 لقطع الطريق على أي مغامرة من شأنها أن تفسد مسيرة الوحدة..وبسبب هذا التقديم رحل الاستفتاء على مشروع دستور دولة الوحدة المعترض عليه من قبل الأصوليين إلى ما بعد إعلان قيام الوحدة..وبدون هذا الترحيل كان من المشكوك فيه أن تتحقق الوحدة..لكن أخطر قضية جرى ترحيلها بسبب تقديم موعد الوحدة هي دمج القوات المسلحة، حيث بقي جيش دولة الوحدة مجرد وحدات شطرية موزعة في الشمال والجنوب. 2 - العامل الإقتصادي: يتمثل العامل الاقتصادي في روائح نفط شبوة وحضرموت..فقد كان البيض يعلم أن النفط على وشك أن يتدفق، وإذا تدفق قبل الذهاب إلى الوحدة فسوف يضيف تعقيدات جديدة على مسارها..يضاف إلى ذلك أن البيض في ذلك الوقت كان يعتقد أن النفط غير ذي قيمة جوهرية من غير الوحدة.3 - العامل الذاتي: يكمن العامل الذاتي في شخص علي سالم البيض..فهذا الرجل هو سليل حركة القوميين العرب، وهو أيضا من الصف الأول في قيادة الجبهة القومية..وهو من هذه الناحية عروبي على المستوى القومي، ووحدوي على المستوى الوطني..وهذا هو علي سالم البيض حتى 21 مايو 1994..ولم يغادر هذه القناعات حتى داخل بيان إعلان «فك الإرتباط» الذي قرأه أثناء حرب 1994 وأبقى فيه على قضية الوحدة متروكة للمستقبل..وهو عندما ذهب إلى الوحدة ذهب إليها صادقا بشهادة واحد من ألد خصومه الأيديولوجيين وهو عبد الرحمن العماد في مقابلة له مع قناة سهيل. لكن البيض يبقى واحدا من البشر الذين يخطئون ويصيبون..وقد أخطأ البيض في الإنفراد بقرار الوحدة مع صالح..والخطأ ليس في الذهاب إلى الوحدة وإنما في إجراءاته غير المدروسة..ولهذا سببان مارسا ضغطا شديدا عليه..السبب الأول الضغط الناجم عن نتائج أحداث يناير التي أحدثت شرخا كبيرا في الوحدة الوطنية للجنوب ووضعته وجها لوجه أمام الحاجة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل في ظروف صعبة لا تخلو من التحديات التي يتطلب التغلب عليها وقتا كافيا وحدا أدنى من استقرار النظام المهدد بتربص نظام الشمال..والسبب الثاني إستحالة الذهاب إلى وحدة مدروسة بدقة يعلم البيض أنها ستكون مرفوضة في الشمال الرسمي الذي تتحكم بأقداره قوى تقليدية متأهبة للحرب. لهذه الأسباب إختزل البيض الجنوب في شخصه وقبل أن يختزل الشمال في شخص علي صالح..وتفاهم الرجلان على المسائل الجوهرية في الوحدة خارج المؤسسات ولم يوثقا مضامين وتفاصيل هذا التفاهم، وحلت الأيمان المغلظة محل التوثيق..لهذا كانت الاتفاقيات المعلنة، وليس التفاهم الثنائي بين البيض وصالح، هي المرجعية التي قرأ اليمنيون الوحدة من خلالها..وكانت هذه القراءة ظالمة للجنوب وتسببت إلى اليوم في غموض القضية الجنوبية..وهذا ما سيتبين عند عرضنا لمحتوى الوحدة.أولا: محتوى الوحدة (1990 - 1994 ) تشكل القضايا المتفاهم عليها بين علي صالح وعلي البيض جوهر محتوى الوحدة..وهذه القضايا هي «الشراكة» و»الديمقراطية» و»الإصلاح» و»التحالف»..إنها مفردات أربع هي التي شكلت رؤية علي سالم البيض للوحدة وأخرجتها من نفق جولدمور، وهي أيضا المفردات التي تكررت بكثافة في كل خطاباته وأحاديثه منذ 30 نوفمبر 1989 وحتى 21 مايو 1994..ومعنى ذلك أن علي البيض هو صاحب هذه الرؤية..وعلي صالح لا ينكر هذه الحقيقة، لكنه لا يعبر عنها بوضوح وإنما يقول إنه ذهب إلى عدن يحمل مقترحا بوحدة فدرالية وإن البيض هو من أصر على الوحدة الإندماجية. لكن الرجلين لم يوثقا ما إتفقا عليه إلا بأثر رجعي عندما تدمرت عوامل الثقة بينهما..وكان هذا عشية إنتخابات 27 أبريل 1993 النيابية..لكن التوثيق لم يكن دقيقا وواضحا، بل احتوى على ثغرات مكنت علي صالح من التنصل عنه بسرعة عندما كان البيض في رحلة علاجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية..ولهذا السبب لم يعد البيض إلى صنعاء وإنما إلى عدن حيث أعلن من هناك عن أزمة الوحدة..وفيما يلي سنعرض محتوى الوحدة كما تفاهم عليه البيض وصالح.أولا: الشراكة: الأصل في وحدة 22 مايو 1990 هو الشراكة وليس الديمقراطية..وقد تأسست فكرة الشراكة موضوعيا على حقيقة تاريخية وجغرافية مؤداها أن الجنوب جزء من اليمن الحضاري الثقافي وليس جزءا من اليمن الشمالي السياسي..مثلما أن الشمال جزء من اليمن الحضاري الثقافي وليس جزءا من اليمن الجنوبي السياسي..وعليه فدولة الشمال ودولة الجنوب متكافئتان أمام اليمننة ويجب أن تكونا متكافئتين أمام الوحدة نظريا وعمليا..نظريا: في التوافق على مشروع دولة الوحدة وعقدها الاجتماعي.. وعمليا: في تطبيقه. وبما أن دولة الوحدة لم تقم على أساس فيدرالي يعبر عن هذه الحقيقة الموضوعية في العلاقة المتكافئة بين الشمال والجنوب فإن التعبير عنها تم من خلال التكافؤ بين الرئيس والنائب خلال الفترة الإنتقالية اللازمة للإنتهاء من البناء الديمقراطي الكامل لدولة الوحدة وترسيخ نظامها السياسي..وهنا يجب أن نميز بين فترتين إنتقاليتين على النحو التالي:1 - الفترة الإنتقالية المحددة في إتفاق إعلان الوحدة بسنتين ونصف: هذه الفترة لها بعد قانوني يغلب بنودا في اتفاقية إعلان الوحدة على مواد في الدستور..ومهمتها إنهاء مظاهر التشطير بدمج حقائق الدولتين العسكرية والأمنية والاقتصادية والإدارية والمالية والتعليمية والثقافية والقانونية....الخ..وبعد الإنتهاء من إنجاز مهام هذه الفترة تجرى إنتخابات نيابية تنتقل معها دولة الوحدة إلى الوضع الدستوري الكامل.2 - الفترة الإنتقالية اللازمة للبناء الديمقراطي الكامل لدولة الوحدة وترسيخ نظامها السياسي: والغرض من هذه الفترة تحقيق الشراكة الكاملة بين اليمنيين في السلطة والعدالة في توزيع الثروة..وهي لا تقاس بالزمن، ولا تنتهي إلا في ظروف إشتغال ديمقراطي طبيعي لكل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على النحو الذي يسمح لأي حزب إذا خرج من السلطة بآلية الديمقراطية أن يعود إليها بالآلية نفسها. وعلى هذا الأساس لم يكن خروج البيض وعلي صالح من السلطة أمرا واردا ما لم ينته اليمنيون من عملية البناء الديمقراطي الكامل لدولة الوحدة..وبما أن الوحدة قامت بين دولتين وليس بين حزبين فإن طبيعة دور البيض ووزنه النوعي خلال هذه الفترة لا يتوقف على عدد مقاعد حزبه في البرلمان وإنما على التكافؤ بين الجنوب والشمال في تأسيس الوحدة وبناء دولتها الديمقراطية. وهذا يعني أننا إزاء نائب رئيس إستثنائي لإنجاز برنامج إستثنائي..إنه نائب رئيس لم يختره ولم يعينه الرئيس وإنما إختارته وعينته اللحظة التاريخية التي ناضل هو والجنوب كله من أجلها..وهو لا يستمد مكانته من قرار جمهوري صادر عن الرئيس وإنما من موقعه السابق في دولة الجنوب الذي تنازل عنه لصالح الوحدة..وهو أيضا ليس نائب رئيس في دولة ناجزة ليقوم بمهام اعتيادية محددة في الدستور أو في قرار تعيينه، وإنما نائب رئيس في مشروع دولة لم تنجز بعد ويقوم بمهام استثنائية..فهو مثل الرئيس معني ببناء هذه الدولة على قاعدة الشراكة والندية الكاملة بينهما..وعلاقته بالرئيس هي من الناحية العملية تجسيد للعلاقة المتكافئة بين اليمن السياسي الشمالي واليمن السياسي الجنوبي. والملاحظ هنا أن الوحدة التي يفترض أنها قامت موضوعيا على أساس الدولة البسيطة لم تكن كذلك على مستوى العلاقة الوظيفية بين الرئيس والنائب..فكل منهما إختزل الكيان الاعتباري للدولة التي كان يمثلها في شخصه حتى بدت العلاقة بينهما كما لوكانت تعبيرا عن وحدة كونفدرالية..وتفسير ذلك أن النموذج المتوافق عليه لدولة الوحدة مازال في حالة جنينية ويحتاج إلى وقت وإلى ثقة متبادلة كي يشتد عوده وينضج..ولضمان عملية نضوجه اقتضى الأمر أن يكون نائب الرئيس بصلاحيات الرئيس وأن يكون القرار الرئاسي جماعيا ومعبرا عن مجلس الرئاسة وليس عن الرئيس، وأن تكون العلاقة بين الرئيس والنائب تكاملية لا تفاضلية ولا تنافسية..وهذه حالة إنتقالية تنتهي بانتهاء عملية نضوج دولة الوحدة ورسوخ نظامها السياسي الديمقراطي. لكن بعد 22 مايو 1990 اكتشف البيض أن الوحدة لا تسير وفق المسار المتفق عليه بينه وبين علي صالح، وأن الميراث التاريخي للصراع بين الشطرين يملأ العاصمة صنعاء..فدستور دولة الوحدة «يفتح الباب أمام شركاء لله في الحكم..ويساوي بين من كان مؤمنا ومن كان كافرا»..والشراكة « تقاسم غير عادل»..والحزب الإشتراكي «ملحد وقاتل العلماء»..والقيادة الجنوبية «هربت إلى الوحدة لا حبا فيها ولكن كي تتجنب مصير تشاوشيسكو رومانيا».. والجنوب «جائع جاء يتطفل على خزائن الشمال بجيش جرار من الموظفين ومديونية عالية للخارج»..وهذه كلها شعارات تم ترويجها آنذاك تمهيدا للإنقضاض على الحزب الإشتراكي فيما بعد..ومع كل طلقة رصاص يسكب فيها الدم كان يقال:»الإشتراكيون يثأرون من الإشتراكيين»..هكذا من غير حاجة إلى دليل..فعاصمة دولة الوحدة تقرر كل شيء وتفرض إرادة المهيمنين فيها على القادمين إليها..وفي هذا المناخ المأزوم كان علي صالح يأكل الثوم بأفواه فقهاء ومشايخ التجمع اليمني للإصلاح، بينما ظل هو يتربص متدثرا بقميص الوسطية والإعتدال. ارتاب البيض من «اعتدال ووسطية» الرئيس ومارس «إعتكافين» إحتجاجيين صامتين في معاشيق..وأثناء الإعتكاف الثاني كان موعد الإنتخابات النيابية يطرق الأبواب والشمال يحتوي على 80 % من الدوائر الانتخابية في الجمهورية..وهذه نسبة عالية وواعدة تستوجب أن يذهب الرئيس شخصيا إلى معاشيق يسترضي نائبه..وفي هذا اللقاء الاسترضائي تم بأثر رجعي توثيق المسائل الجوهرية في الوحدة كما تفاهم عليها الرجلان، فكانت «وثيقة التنسيق والتحالف على طريق التوحيد بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام»..التي أنهت الإعتكاف الثاني وهيأت المناخ السياسي لإجراء انتخابات أبريل 1993 النيابية..وقد نصت تلك الوثيقة على ما يلي:1 - إدخال تعديلات جوهرية على الدستور بعد الإنتخابات النيابية تتضمن إلغاء مجلس الرئاسة واستبداله برئيس ونائب ينتخبان من الشعب في قائمة واحدة.2 - تشكيل مجلس شورى تمثل فيه المحافظات بالتساوي ويشكل مع مجلس النواب جمعية وطنية يرأسها نائب الرئيس.3 - أن تتمتع المحافظات وما دونها بحكم محلي كامل الصلاحيات وأن يجري انتخاب المجالس المحلية فور استكمال التقسيم الإداري للبلاد.4 - بنود أخرى تتصل بالعلاقة الثنائية بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام. عند النظر إلى مضامين هذه الوثيقة نلاحظ أن الرئيس والنائب اللذين كانا ينتخبان من مجلس الرئاسة سينتخبان من الشعب في قائمة واحدة..ومن الوهلة الأولى يبدو أن هذا مخالف لقواعد الديمقراطية والتنافس بين حزب الرئيس وحزب النائب..وهذا صحيح لو أننا إزاء دولة ديمقراطية ناجزة..لكنه من مرتكزات الشراكة بين الجنوب والشمال في عملية تأسيس دولة الوحدة التي بدأت في 22 مايو 1990 ومازالت مستمرة..فالحديث هنا يدور حول تأسيس الدولة وليس حول التنافس الديمقراطي على السلطة..وفي عملية التأسيس يكون الرئيس ممثلا لدولة الشمال وليس للمؤتمر الشعبي العام ويكون النائب ممثلا لدولة الجنوب وليس للحزب الاشتراكي اليمني. يلاحظ أيضا أن رئاسة الدولة للشمال وأن نائب الرئيس ورئاسة الجمعية الوطنية للجنوب..وكان منتظرا من التعديلات الدستورية المتفق عليها حينها أن تحقق قدرا كافيا ومقنعا من التوازن بين رئاسة الدولة والجمعية الوطنية..وهذا التوازن سيكون بين الشمال والجنوب، وليس بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشراكي اليمني. أما ما يتعلق بالحكم المحلي كامل الصلاحيات فكان يتوخى التخلص من مساوئ المركزية وإعادة توزيع السلطة بين المركز والمحليات على النحو الذي يحقق شراكة فعلية بين اليمنيين في السلطة وتوزيعا عادلا للثرة ويخلق شروطا موضوعية لتسريع عجلة التنمية. وبعد الإنتخابات تشكلت حكومة إئتلافية من الأحزاب الثلاثة التي حازت على معظم مقاعد البرلمان..وقام البرلمان المنتخب بالتمديد لمجلس الرئاسة لمدة خمسة أشهر يتاح خلالها الوقت الكافي لإجراء التعديلات الدستورية المتفق عليها بين الرئيس والنائب في «وثيقة التنسيق والتحالف»..وفي هذه الأثناء سافر البيض في رحلة علاجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية..وأثناء غيابه استثمر الرئيس صالح تحالفه القوي مع التجمع اليمني للإصلاح ووجه الأغلبية الشمالية في البرلمان بالتصويت على مسودة تعديلات دستورية تجاوزت كل ما أتفق عليه في الوثيقة المشار إليها أعلاه..فلا صلاحيات دستورية للنائب..ولا إنتخاب للنائب مع الرئيس في قائمة واحدة..ولا جمعية وطنية يرأسها النائب..ولا حكم محلي واسع الصلاحيات. نظر علي البيض إلى مسودة التعديلات الدستورية المصوت عليها على أنها إنقلاب أبيض، وأنه لم يقد الجنوب إلى الوحدة وإنما إلى مصير مجهول، وأن علي صالح تمادى في خداعه..لذلك قرر أن يفشل هذا الإنقلاب بإخراج الأزمة من أقبية الإئتلاف الثلاثي إلى العلن، وأن يعيد إصلاح مسار الوحدة بتوسيع قاعدة المشاركة في تقرير مصيرها. عاد البيض من واشنطن إلى عدن وليس إلى صنعاء..ومن عدن أعلن عن وجود أزمة داخل الإئتلاف الثلاثي الحاكم أساسها عدم قدرة أطرافه على التوصل إلى تفاهم وتوافق حول بناء دولة الوحدة..وكان البرلمان المؤسسة المنتخبة الوحيدة التي يمكن أن يعول عليها في حل هذه الأزمة بإرغام الرئيس ونائبه على الخضوع المتساوي للمصلحة الوطنية العليا..لكن ذلك البرلمان كان من الناحية العملية برلمانين..فالأغلبية فيه لم تكن إنتخابية وإنما كانت عددية ناجمة عن التفاوت الكبير في عدد السكان وناتجة عن إنتخابات جرت في بلد مازال يعاني من آثار التشطير ويفتقر إلى الاندماج الوطني الحقيقي..لذلك تحول ذلك البرلمان إلى ساحة إقتتال سياسي وظهر كجزء من المشكلة وليس جزءا من الحل. رفض علي سالم البيض مبدأ الاستقواء بالأغلبية العددية في البرلمان بحجة أن القضايا الخلافية حول بناء دولة الوحدة لا يمكن تسويتها بعد الأصوات داخل برلمان يتلقى التعليمات من خارجه وإنما بروح التفاهم والتوافق الوطني على النحو الذي يحقق المصلحة العليا للشعب اليمني في الشمال والجنوب بعيدا عن مفهوم الأغلبية والأقلية وحسابات الربح والخسارة..وفي المقابل كان الطرف الآخر يتهمه بالتمرد على الشرعية، وأنه يطالب بنصيب في السلطة أكبر من حجم حزبه في البرلمان. وبينما كانت الأزمة تتفاقم أوشكت الأشهر الخمسة التي مددها البرلمان لمجلس الرئاسة على الإنتهاء.وحتى لا تدخل البلاد في فراغ دستوري أعيد إنتخاب مجلس الرئاسة على أساس 1-2-2 وفق ما إقترحه علي سالم البيض في مبادرة من ثماني عشرة نقطة لحل الأزمة..وقد حل الشيخ عبد المجيد الزنداني عن التجمع اليمني للإصلاح محل المؤتمري القاضي عبد الكريم العرشي..وظل نصيب الشمال في عضوية مجلس الرئاسة ثلاثة مقاعد مقابل مقعدين للجنوب..لكن وسائل الإعلام في صنعاء كانت توزع هذه المقاعد بين الأحزاب الثلاثة وليس بين الجنوب والشمال، وتتحدث عن نصيب للحزب الاشتراكي في مجلس الرئاسة أكبر من حجمه في البرلمان، وليس عن نصيب للجنوب أقل من حجمه ودوره في عملية توحيد البلاد..وهذه قضية مازالت أطراف كثيرة في اليمن تتغافل عنها إلى اليوم في قراءاتها للقضية الجنوبية، فهي تتعامل مع الوحدة كما لو كانت بين حزبين وليس بين دولتين، مع أن الحزبين لم يتوحدا ولن يتوحدا وليس مطلوبا منهما أن يتوحدا ما دامت الوحدة قد قامت على الربط بينها وبين الديمقراطية. وبانتخاب مجلس الرئاسة على أساس 2 - 2 - 1 لمعت في الأفق بارقة أمل سرعان ما تلاشت عندما أذاعت وسائل الإعلام الرسمية أن مجلس الرئاسة إنتخب علي عبد الله صالح رئيسا وأن الرئيس عين علي سالم البيض نائبا له..وهذا الإعلان جاء مخالفا لمحضر إتفاق بين جار الله عمر عن الحزب الإشتراكي وعبدالكريم الإرياني عن المؤتمر الشعبي العام وعبد الوهاب الآنسي عن التجمع اليمني للإصلاح..حيث قضى المحضر بإخراج موقع نائب الرئيس على النحوالتالي: «إجتمع مجلس الرئاسة بأعضائه الخمسة وانتخب علي عبد الله صالح رئيسا وعلي سالم البيض نائبا للرئيس»..وقد ترتب على مخالفة هذا الإتفاق أن اعتذر البيض عن الحضور إلى صنعاء لأداء اليمين الدستورية يوم 16 اكتوبر 1993 . ولأن البرلمان لم يكن مؤهلا للوقوف على مسافة واحدة من الرئيس ونائبه خرجت الأزمة من أقبية الإئتلاف الثلاثي إلى فضاء الحوار الوطني الموسع..ونتج عن ذلك تشكيل لجنة حوار القوى السياسية التي شخصت الطابع الوطني العام للأزمة وصاغت الحل في وثيقة العهد والإتفاق الموقع عليها بشكل نهائي في العاصمة الأردنية بتاريخ 20 فبراير 1994..وكانت تلك الوثيقة بمثابة إتفاق جديد على الوحدة شاركت فيه كل الأطراف..لكن ميزان القوى في البلاد وقتها لم يكن لصالح بناء الدولة من خلال تطبيق الوثيقة الأمر الذي يفسر الاندفاع السريع نحو الحرب.ثانيا: الديمقراطية: البند الثاني في محتوى الوحدة هو الديمقراطية..والمعروف أن الوحدة قامت بين دولتين كل منهما ذات نظام سياسي غير ديمقراطي السلطة فيه يحتكرها حزب واحد..لهذا السبب بدأت الشراكة في بناء دولة الوحدة بقسمة السلطة على إثنين هما الحزب الإشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام..ولم يكن هناك حزب ثالث يستطيع أن يقول أنا حاضر ويجب أن أدخل طرفا في القسمة. لكن تفاهم البيض وصالح على الوحدة إعتمد الديمقراطية كآلية للإنتقال التدريجي والمتواصل بالشراكة من مستوى القسمة على إثنين إلى مستوى القسمة على جميع اليمنيين بواسطة إنتخابات دورية يفترض أن يؤدي تعاقبها المنتظم والآمن والنزيه إلى إثبات وثبات نقاء مبادئ الدولة الجديدة ومصداقية الخيار الديمقراطي لنظامها السياسي. وقد أثبت مرتكز الديمقراطية مصداقيته في أول إنتخابات نيابية جرت بعد الوحدة عندما نقل الشراكة من مستوى القسمة على إثنين إلى مستوى القسمة على ثلاثة وجاء بحزب التجمع اليمني للإصلاح إلى السلطة كشريك في البرلمان والحكومة ومجلس الرئاسة..فضلا عن شركاء آخرين أقل وزنا في البرلمان كالبعث والأحزاب الناصرية وحزب الحق وعدد من المستقلين. لكن الآلة الإعلامية لتحالف المؤتمر الشعبي العام وتجمع الإصلاح ذهبت تفسر نتائج إنتخابات أبريل 1993 النيابية على أنها الكلمة النهائية في تقرير مصير دولة الوحدة..وقرأت النتائج بطريقة مخادعة تخدم مخطط التخلص من الشراكة الفعلية بين الشمال والجنوب، حيث صنف الحزب الاشتراكي اليمني على أنه حزب الأقلية وأن صناديق الاقتراع هي التي حددت الحجم الذي يستحقه ونقلته من شريك بالمناصفة إلى شريك في المرتبة الثالثة بعد المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح وعليه أن يقبل بتراجع وزنه ودوره في تقرير مصير دولة الوحدة وصياغة نظامها السياسي وإلا سوف يواجه بتهمة الخروج على الشرعية..وبما أن الحزب الاشتراكي اليمني هو الذي مثل الجنوب في اتفاق الوحدة فإن التخلص منه هو للتخلص من الجنوب كشريك بإرادته وتحويله إلى ملحق بغير إرادته. لقد تعرض الحزب الاشتراكي اليمني خلال الفترة الإنتقالية لحرب واسعة النطاق على المستويات السياسية والإعلامية والأيديولوجية، وعلى المستوى الأمني أيضا..وقد أثرت هذه الحرب على وزنه الإنتخابي..ومع ذلك كانت نتائج الإنتخابات مخيفة جدا لقيادة المؤتمر الشعبي العام، ولم تكن مخيفة أبدا لقيادة الحزب الإشتراكي اليمني..وإذا كانت قيادة المؤتمر قد أخفت خوفها على مستوى الخطاب المعلن فإن قيادة الإشتراكي لم تهتم بإبراز حجم النجاح الذي انتزعه حزبها في تلك الإنتخابات وجاء ثانيا بعد المؤتمر الشعبي العام وليس ثالثا بعد تجمع الإصلاح كما قيل ويقال إلى اليوم. كانت لدى قيادة المؤتمر الشعبي العام قراءتان لنتائج إنتخابات أبريل 1993..الأولى معلنة خرجت من رحم الحاجة للتخلص من الحزب الاشتراكي اليمني، ومؤداها أن هذا الحزب خسر الانتخابات..والثانية غير معلنة، وفحواها أن الديمقراطية تحمل معها مخاطر تهدد مستقبل حزب المؤتمر تحديدا في ظل موازين القوى القائم..فالمؤتمر لم يحصل حتى على 50 % من دوائر معقله التاريخي (الشمال) وهو في أوج شعبيته كشريك في تحقيق الوحدة..ومن المشكوك فيه أن يحقق هذه النتيجة المتواضعة في أية إنتخابات قادمة بعد أربع سنوات..وهذه القراءة غير المعلنة شكلت واحدة من أهم حوافز حرب 1994 التي بدونها ما كان بمقدور المؤتمر الشعبي العام أن يصبح حزب “الأغلبية المريحة”. لم نكن في هذه الرؤية نرغب أن ندخل في تفاصيل إنتخابات 1993 النيابية..لكن بعض الرؤى التي قدمت إلى هذا الفريق أجبرتنا على ذلك عندما قرأت نتيجة تلك الانتخابات بطريقة خاطئة ورتبت على قراءتها الخاطئة إستنتاجات خاطئة كالقول بأن أزمة الوحدة نجمت عن تراجع وزن الحزب الاشتراكي اليمني من شريك بالمناصفة إلى شريك في المرتبة الثالثة بعد المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح..وهذه قراءة تخفي من حيث تدري أو من حيث لا تدري الأسباب الجوهرية لأزمة دولة الوحدة، وتتحدث عن الحزب الاشتراكي ولا تتحدث عن الجنوب الذي لا يحوز إلا على 20 % من الدوائر الإنتخابية لدولة الوحدة، وتريد من الجنوب أن يدفع ثمن أقليته السكانية ويتنازل عن شراكته في البناء الديمقراطي الناجز لدولة الوحدة طوعا أو كرها بحجة أن الحزب الاشتراكي لم يحافظ على نصيبه من السلطة الذي كان له خلال الفترة الإنتقالية..وهذا التحليل يقوم على المطابقة بين الجنوب وبين الحزب الاشتراكي اليمني..ولو أن هذه المطابقة صحيحة لما جاز للطرف الآخر في الأزمة أن ينكر عليه واجب الدفاع عن الجنوب والتحدث بإسمه، مع أنه هو الذي قاد الجنوب إلى الوحدة ومثله فيها. أما الحزب الاشتراكي اليمني فقد انتزع في تلك الانتخابات نجاحا لافتاً للإنتباه رغم أنه خاضها في ظروف صعبة بالنسبة له..والأرقام المبينة في الجدولين التاليين تكشفان عن حقائق غيبها خطاب الأزمة والحرب التي تلتها، وقد آن أوان الكشف عنها. يبين الجدول رقم (1) أن كتلة الحزب الاشتراكي مؤلفة من 72 عضوا بينهم 53 عضوا من الجنوب و19 عضوا من الشمال..فضلا عن 9 أعضاء مستقلين من خارجه حرص الحزب الاشتراكي على وصولهم إلى البرلمان..وأي تشكيك بهذه الأرقام هو من قبيل الرغبة في تضييع الوقت لأننا قادرون على إثبات صحتها بالأسماء وبالتفصيل الممل وبطريقة موثقة. والحزب الاشتراكي اليمني ترك ثلاث دوائر في المحافظات الجنوبية للمؤتمر الشعبي العام..بينما لم يمكنه تحالف المؤتمر والإصلاح من الفوز حتى بدائرة واحدة داخل عاصمة دولة الوحدة التي ظلت أجهزتها الأمنية لأكثر من عشرين عاما منشغلة بملاحقة أعضائه ومنظماته..فقد زج بمعسكرات الجيش في كل دوائر العاصمة بما في ذلك دائرة رضية شمشير التي قضت المحكمة الابتدائية بفوزها في الدائرة 11 أمام صهير الرئيس السابق وأقرت بوقوع أعمال تزوير واسعة النطاق..لكن حكم الاستئناف جاء لصالح الحجري ضد رضية..وهذا غير مستغرب من قضاء لا يثق فيه معظم اليمنيين. حصد الحزب الاشتراكي 19 دائرة إنتخابية في الشمال جاءته من تعز وإب والحديدة والبيضاء وذمار وريمة ومأرب ومن مديرية حرف سفيان بمحافظة صنعاء..وفي معظم الدوائر التي خسرها الاشتراكي كان يأتي في الترتيب الثاني وبفارق أصوات صغير..وقد خاض تلك الانتخابات أعزلا من أي تحالفات وبمرشحين من أبناء الطبقة الوسطى ليس بينهم مرشح واحد من أهل النفوذ والجاه والمال ممن يستطيعون تحقيق النجاح تحت أي يافطة حزبية..ومعنى ذلك أن الناخبين الذين صوتوا لمرشحي الاشتراكي كانوا عمليا يصوتون للحزب الاشتراكي نفسه. ومن بين 245 دائرة في المحافظات الشمالية لم يحصد المؤتمر الشعبي العام سوى 117 دائرة، أي أقل من النصف..وإذا علمنا أن المحافظات الشمالية هي معقله التاريخي، وأن معظم مرشحيه هم من أهل الوجاهة والنفوذ، وأنه خاض الانتخابات متكئا على تحالف متين بينه وبين التجمع اليمني للإصلاح الذي آزره وشد عوده في تلك الانتخابات، وأنه استخدم المال السياسي والحضور السلطوي في جميع المحافظات، وأن الانتخابات جرت في وقت كان فيه المؤتمر الشعبي العام في أوج شعبيته كشريك في تحقيق الوحدة، إذا علمنا كل هذا فنحن أمام حزب تملكته مشاعر الشعور بالهزيمة والعداء للديمقراطية..ثم أن كتلته البرلمانية لم تكن تؤهل قيادته للعبث بمصير دولة الوحدة ودفع البلاد نحو الحرب لولا قيادة التجمع اليمني للإصلاح التي قاسمته وشاركته الرغبة في الحرب ووفرت لها الغطاء الأيديولوجي. صحيح أن إنتخابات أبريل 1993 كانت نزيهة نسبيا مقارنة بما تلاها..لكن هذه النزاهة لم تكن كافية للحكم لصالح وجود ديمقراطية حقيقية في البلاد..فالواقع الموضوعي حينها لم يكن متوافرا على شروط حقيقية للديمقراطية..لم يكن الوعي الديمقراطي قائما على استقلالية الفرد وعدم تزوير إرادته..وحرية الاختيار الفردي كانت مندغمة في المجموع العصبوي القبلي والمناطقي ومتأثرة إلى حد كبير بالتحريض الأيديولوجي الديني ومحمولات التراث التاريخي للصراع بين الشطرين..لذلك غلبت الكثرة العددية على نتائج الانتخابات وأفرزت برلمانا عصبويا غير ديمقراطي..وبما أن 80 % من الدوائر الانتخابية يقع في الشمال الذي هو في الوقت نفسه المعقل التاريخي لخصوم الحزب الاشتراكي فمن الطبيعي أن يكون هؤلاء هم أصحاب الأغلبية العددية في البرلمان وأن يكون الحزب الاشتراكي صاحب الأقلية العددية..وقيادة الاشتراكي كانت تعلم هذا جيدا، ولم تكن ساذجة حتى تعلق مصير الجنوب وشراكته في دولة الوحدة بنتائج أول إنتخابات نيابية بعد إعلان الوحدة..غير أن الأغلبية العددية الناجمة عن التفاوت في عدد السكان تصرفت كما لو كانت أغلبية ديمقراطية معبرة عن وجود إندماج وطني حقيقي في ظروف طبيعية زالت معها كل آثار التشطير..وعلى قيادة الاشتراكي أن تقبل بحسم كل القضايا الخلافية من خلال رفع الأيدي داخل البرلمان الممثل لإرادة الشعب..وهذا ما لم يقبل به علي سالم البيض لما فيه من خلط بين قضايا بناء الدولة التي لا تحل إلا من خلال التوافق السياسي بين كل الأطراف وقضايا التنافس الحزبي الاعتيادي التي تحسم بعد الأصوات داخل البرلمان..ومن دواعي الأسف أن بعض الرؤى المقدمة إلى هذا الفريق مازالت تتعاطى مع نتائج إنتخابات أبريل 1993 بنفس العقلية التي دفعت البلاد نحو الحرب وأخرجت الجنوب من الشراكة الوطنية في دولة الوحدة. وإذا عدنا إلى الجدول رقم (2) سنلاحظ أن الحزب الاشتراكي جاء أيضا في الترتيب الثاني من حيث عدد الأصوات..وهذا ما لم ينكره عليه أحد..لكن الحقيقة التي جرى التستر عليها هي أن 49.1 % من إجمالي أصواته جاء من الشمال مقابل 51.9 % من الجنوب..وهذا دليل قاطع على أنه الحزب اليمني الوحيد في انتخابات 1993، بينما برز المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح كحزبين شماليين حيث أكثر من 90 % من إجمالي أصوات كل منهما هي أصوات شمالية..وهذه أرقام تنزع ورقة التوت عن مزاعم الشرعية التي جرت حرب 1994 تحت رايتها، وتثبت أنها كانت حرب عصبيات في الشمال ضد اليمن عموما والجنوب خصوصا. ثالثا: الإصلاح: البند الثالث في محتوى الوحدة هو الإصلاح، وله جانبان أحدهما يخص الماضي التشطيري والآخر يخص الحاضر الوحدوي..وسنتناول هذين الجانبين فيما يلي:1 - إصلاح كل ما ورثته دولة الوحدة من سنوات التشطير، سواء كان هذا الإرث من صناعة نظام الشمال أم من صناعة نظام الجنوب، أو كان بسبب حروبهما البينية الباردة والساخنة..وتحت هذا المفهوم للإصلاح تندرج قضايا كثيرة ورد بعضها في الرؤى المقدمة إلى هذا الفريق وبعضها لم يرد..وجزء كبير من هذه القضايا مدرج الآن في جدول أعمال مؤتمر الحوار الوطني الشامل وله فريق خاص هو فريق العدالة الإنتقالية الذي يفترض أن ينظر في جملة من المظالم التي وقعت في الشمال وفي الجنوب. وللتذكير، أثناء الأزمة التي سبقت حرب 1994 تقدمت قيادة الحزب الاشتراكي بمبادرة من 18 نقطة لحل الأزمة..وردت عليها قيادة المرتمر الشعبي العام بمبادرة من 19 نقطة..وكانت مبادرة الاشتراكي هي الأساس الذي اعتمدته لجنة حوار القوى السياسية لصياغة وثيقة العهد والإتفاق..أما مبادرة المؤتمر الشعبي العام فقد طواها النسيان..لكن حان وقت التذكير بها داخل هذا الفريق..فقد نص بندها السابع على “الكشف عن المفقودين من ضحايا الصراع السياسي قبل الوحدة، وإيجاد الحلول الإنسانية المناسبة لهذه القضية”.. ونص بندها الثامن على “عودة الممتلكات والأراضي المصادرة والمؤممة ورد الحقوق إلى أصحابها مع إيجاد المعالجات المناسبة والإنسانية لمشكلة المنتفعين”. والسئوال الذي يفرض نفسه: كيف تصرفت قيادة المؤتمر الشعبي العام بعد حرب 1994؟..هل احترمت بعد الحرب ما تذرعت به لتبرير الحرب؟..هذا ليس سؤالاً إستفهاميا وإنما سؤال إستنكاري لأن الإجابة عليه معروفة لنا جميعا في هذا الفريق، بما في ذلك أولئك الذين يذرفون الدموع على ضحايا قانون التأميم..وهي للأسف الشديد دموع تفوح منها روائح الأيديولوجيا والتحيزات السياسية ولا أثر فيها لرائحة الوطن، وإلا لما خطر في بال أصحابها أن وحدة 22 مايو 1990 قامت على القفز فوق جراحات الماضي بما في ذلك جروح أحداث يناير 1986 التي كان يفترض أن تعالج في السنة الأولى للوحدة..وسيكون من باب المكايدات العبثية القول إن قيادة المؤتمر الشعبي العام كانت تريد هذا لكن قيادة الحزب الاشتراكي اليمني هي التي رفضت..وإذا وجد من يعتقد أن قيادة المؤتمر الشعبي العام كانت متعاطفة مع الطرف المهزوم في أحداث يناير، هكذا لوجه الله والوطن، سنذكره بالفقيد علي عبد الرزاق باذيب الذي مات كمدا أثناء الفترة الإنتقالية بعد أن انتهى من صياغة وثائق تأسيس حزب سياسي تقوده الشخصيات المدنية التي نزحت مع علي ناصر محمد ليكون الحزب المؤهل لمنافسة الحزب الاشتراكي إنتخابيا في المحافظات الجنوبية..حينها قيل لباذيب: “كف عن هذا التفكير، فنحن لا نريد أن نقوي الطرف الضعيف، وإنما نريد أن نضعف الطرف القوي، والمؤتمر الشعبي العام يتسع لكم لتثأروا لأنفسكم من خلاله”..حينها اعتزل الفقيد باذيب السياسة وفضل معظم رفاقه العودة إلى الحزب الاشتراكي على الإلتحاق بالمؤتمر الشعبي العام. 2 - أما ما يخص الحاضر الوحدوي في بند الإصلاح فهو تحقيق الدمج بين حقائق الدولتين الذي لم يكن قد تحقق عند إعلان الوحدة..فالوحدة لم تقم منذ الباية على الدمج كما توحي بذلك كلمة “إندماجية” اللصيقة ظلما بوحدة 22 مايو 1990. لقد بدأت الوحدة بالجمع الميكانيكي وبالمجاورة بين حقائق الدولتين على أن يتم دمجها خلال الفترة الإنتقالية المقدرة في إتفاقية الوحدة بسنتين ونصف بحيث تفضي عملية الدمج إلى حقائق جديدة نوعيا هي حقائق دولة الوحدة لا حقائق دولة الشمال ولا حقائق دولة الجنوب.. ولأن الوحدة لم تقم إبتداء على الدمج فقد بقي الريال مجاورا للدينار وطيران اليمدا مجاورا لطيران اليمنية وتلفزيون عدن مجاورا لتلفزيون صنعاء وصحيفة 14 اكتوبر مجاورة لصحيفة الثورة، وقس بقية الحقائق على هذا المنوال بما في ذلك البرلمان والحكومة اللذان لم يدمجا وإنما جمعا ميكانيكيا. وبسبب المجاورة والجمع الميكانيكي احتفظت حقائق كل دولة بتبعيتها البنيوية للنظام الذي أنتجها..وكان مجلس الرئاسة يدير حقائق دولتين يتوقف نوع العلاقة بينها على نوع العلاقة بين الرئيس صالح ونائبه علي سالم البيض..لذلك قيل إن الوحدة لم تتحقق عمليا إلا من خلال العلم والنشيد الوطني..لكن الخطورة الكبيرة في هذا الإجراء مثلتها وحدات الجيش التي تجاورت من غير دمج ثم انزلقت بسهولة نحو الحرب متأثرة بمناخ الأزمة السياسية ألتي أعقبت إنتخابات أبريل 1993 النيابية. هنا نلاحظ أن دولة الوحدة المفترضة كانت عمليا دولة منقسمة..وهذا الانقسام بني بناء..وكأننا إزاء اتحاد كونفدرالي..ولأن نظام الشمال لم يكن مؤمنا بقضية الوحدة كمشروع سياسي وطني فقد أعاق عملية دمج حقائق الدولتين في إطار مخطط مدروس لتصفية الكيان الاعتباري لدولة الجنوب بمختلف مكوناته وحقائقه وشخوصه من خلال التطويق الإداري وعدم التمكين من ممارسة الصلاحيات والتحريض الأيديولوجي بشقيه السياسي والديني ثم الاغتيالات التي طالت العشرات من كوادر الاشتراكي..ثم جاءت حرب 1994 لتقضي على دولة الجنوب وتكرس دولة الشمال وتقضي على وحدة 22 مايو 1990 وتفرض على الجنوب وحدة 7 يوليو 1994 التي يرفضها كل الجنوبيين تقريبا..ويرفضها اليوم معظم الشماليين الذين أدركوا حقيقة حرب 1994 ودوافعها ورأوا نتائجها المدمرة على الأرض. رابعا: التحالف: البند الرابع في محتوى الوحدة هو التحالف بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني..فبما أن وحدة 22 مايو 1990 قامت على الدور المحوري لكل من المؤتمر الشعبي العام والحزب الإشتراكي اليمني فمن البديهي أن يتوقف مستقبلها على نوع العلاقة ألتي ستنشأ بينهما..لذلك جاء مرتكز “التحالف” في محتوى الوحدة المتفاهم عليه بين علي البيض وعلي صالح ليعالج هذه الإشكالية..والمقصود به إبتداء التحالف بين الحزب الإشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام كنواة لتحالف وطني واسع يمارس دور الربان الذي يجب أن يقود سفينة الوحدة إلى بر الأمان..أي أن يمكن مرتكزات “الشراكة” و”الديمقراطية” و”الإصلاح” من التحقق الفعلي والطلاق النهائي مع أزمنة التشطير على كل الأصعدة. يضاف إلى ذلك أن التحالف سيؤدي بالضرورة إلى تراجع الحساسيات الأيديولوجية القديمة بين الأحزاب السياسية إلى حدودها الدنيا وسيعزز عوامل الثقة فيما بينها..وهذا من أهم متطلبات الديمقراطية في أي بلد..فالديمقراطية غير ممكنة، داخل/ وبين الأحزاب ما لم تقم العلاقة بينها على قدر كبير من الثقة المتبادلة. وفيما يتعلق بالتحالف تبين أن قيادة المؤتمر الشعبي العام كانت تسير وفقا لنهج مختلف تماما قائم على استثمار الحساسيات الأيديولوجية القديمة والموروث التاريخي للصراع بين الشطرين من أجل تأزيم الحياة السياسية ودفع البلاد بقوة نحو الحرب..وهذا ما كشفت عنه مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر فضلا عما صدر عن علي صالح نفسه من تصريحات فيما بعد أكد فيها أنه خلال الفترة الانتقالية كان يستخدم التجمع اليمني للإصلاح ورقة في الصراع السياسي. يضاف إلى ذلك أن قيادة المؤتمر الشعبي العام ذهبت تلتف على الشراكة بين الشمال والجنوب من خلال شعار “لا شراكة إلا بالدمج بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي”..وفحوى هذا الشعار أن الوحدة ليست بين دولتين يجب أن تدمجا في دولة ثالثة لا هي دولة الشمال ولا هي دولة الجنوب، وإنما بين حزبين يجب أن يدمجا في حزب واحد..وهذا ما رفضته اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني جملة وتفصيلا معتبرة دمج هذين الحزبين إنقلابا على الديمقراطية وعلى الشراكة بين الشمال والجنوب..لكن “وثيقة التنسيق والتحالف على طريق التوحيد بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام” التي أشرنا إليها أعلاه تركت باب توحيد الحزبين مفتوحا على المستقبل عندما تتوفر شروط نجاحه..وهذا حل وسط اقترحه علي سالم البيض كي يقبل علي صالح بما تبقى من بنود الوثيقة، على أن تتسم العلاقة بين الحزبين بالتنسيق والتحالف، حيث أن طبيعة المرحلة ومهامها لا تحتمل التنافس بينهما.ملاحظات على محتوى الوحدة: والآن إذا قدر لنا أن نتخيل محتوى الوحدة وقد تحقق بنجاح فإن صورة المشهد السياسي في اليمن ستكون مختلفة تماما عن المشهد الذي رسمته نتائج حرب صيف 1994..لكن تلك الحرب قضت على حقائق دولة الجنوب وفرضت حقائق دولة الشمال على اليمن كله..وبذلك حكمت على محتوى الوحدة بالفشل وكرست النظام السياسي للجمهورية العربية اليمنية مع الإبقاء الشكلي على بعض مكتسبات الوحدة كالتعددية السياسية والإنتخابات الدورية للإيحاء بأن الوحدة القائمة هي وحدة 22 مايو 1990 السلمية المقترنة بالديمقراطية وبأن حرب 1994 كانت إضطرارية للقضاء على خطر الإنفصال وليس للقضاء على محتوى الوحدة وابتلاع الجنوب. وعند النظر إلى محتوى الوحدة في ضوء نتائج حرب صيف 1994 يبدو أنه على قدر كبير من المثالية وربما السذاجة السياسية..فاليمنيون أحزابا ونخبا ومجتمعا لم يكونوا عام 1990 مؤهلين للديمقراطية..وهذا صحيح مبدئيا..ولكن في المقابل لم يكن من الممكن أن تتحقق الوحدة وأن تبنى هياكل دولتها ومؤسساتها بآليات الديمقراطية إبتداء لأن هذا يقتضي أن تكون نخبتا الحكم في الشمال والجنوب جاهزتين لتقديم تنازلات كبيرة قد تصل إلى حد تخليهما عن السلطة لصالح حكومة تكنوقراط مستقلة تنجز برنامج التوحيد الديمقراطي للدولتين خلال فترة إنتقالية تفضي إلى قيام دولة مؤهلة للوقوف على مسافة واحدة من كل الأحزاب..وعند نهاية هذه الفترة يدخل المؤتمر الشعبي العام والحزب الإشتراكي الإستحقاق الإنتخابي الأول إنطلاقا من خط سباق واحد يساوي بين كل الأحزاب أمام مؤسسات الدولة..وبما أن علي صالح وعلي البيض ليسا رجلين من طراز غاندي أو مانديلا فإن بناء دولة الوحدة بآليات الديمقراطية إبتداء لم يكن ممكنا لا نظريا ولا عمليا..ومن ثم لا بأس أن تكون الوحدة قد أعلنت على النحو الذي نعرفه ووفقا للمحتوى الذي عرضناه في هذه الرؤية. لكن نجاح هذا المحتوى كان بحاجة إلى قيادة إستثنائية مقتنعة به وراعية له حتى يعبر مرحلة الخطر..كان بحاجة إلى قيادة متناغمة وجامعة مؤهلة للتوفيق بين كل الأطراف وتعزيز عوامل الثقة فيما بينها..وإذا كان البيض هو صاحب مفردات محتوى الوحدة فإن علي صالح لم يعترض عليه بل تظاهر بالحماس له وتعهد للبيض بأنه سيسير معه يدا بيد من أجل تنفيذه وأنهما سيشكلان ثنائيا متناغما ومتكاملا من أجل إنجاز هذا المشروع وسيدخلان التاريخ معا من أوسع أبوابه..بينما كان في قرارة نفسه يضمر الإنقلاب على المخطط على الرجل وعلى حزبه وعلى الجنوب برمته..والمهم بالنسبة له أن تذوب الشخصية الدولية للدولتين في دولة واحدة لتصبح الحرب القادمة المحتملة بينهما شأنا داخليا..وأن يكون هو رئيسا لدولة الوحدة ليضع البيض في خانة الخروج على رئيسه..وأن تكون صنعاء وليس عدن هي العاصمة..فالعاصمة هي مركز الشرعية وهي التي تفرض شروطها ونهجها ونمط حياتها ولها سياجاتها الأمنية الممتدة من الجيش والأمن إلى قبائل الحواز..والموروث التاريخي للصراع بين الشطرين مازال حيا في الذاكرة تغذيه الحساسيات الأيديولوجية القابلة للإستخدام ضدا على مبدأ: “الوحدة تجب ما قبلها». لقد كان علي صالح مخلصا لنظامه الشطري القديم بتحالفاته القائمة حينها ولم يكن في أعماقه يقبل بمحتوى الوحدة الذي بني على نقد النظامين الشطريين واستوجب زوالهما الطوعي في النظام السياسي الديمقراطي المفترض لدولة الوحدة. كان علي صالح يفكر بطريقة مختلفة تصنف نظام الشمال في المعسكر الدولي الذي انتصر في الحرب الباردة وتصنف نظام الجنوب في المعسكر المهزوم..ووفقا لهذا التفكير من حق المنتصر أن يستميت من أجل إنتصاره وعلى المهزوم أن يستسلم لقدره..لهذا إعتبر صالح ذهاب البيض إلى الوحدة ترحيلا لهزيمة حتمية يجب أن تلحق به وبحزبه بأثر رجعي..لكن نتائج انتخابات أبريل 1993 كانت صادمة لحسابات علي صالح، فالحزب الاشتراكي الذي حمل راية الوحد وانتصر لها إنتصر أيضا في الديمقراطية عندما حصد مقاعد الجنوب ونافس بجدارة في الشمال وأثبت أنه يسير في خط تصاعدي، وأن حضوره في دولة الوحدة أحدث حراكا في محافظات الشمال وأنعش آمال أبنائها بالتغيير وتحقيق الشراكة الفعلية في السلطة والعدالة في توزيع الثروة والانتصار التدريجي للديمقراطية وتحقيق الاصلاح الشامل..وهذا الخط التصاعدي لمسيرة الحزب الاشتراكي هو الذي حرك قرار الحرب ضده..وكانت الوحدة والديمقراطية والإصلاح من بين أهم ضحايا الحرب. ثانيا:محتوى القضية الجنوبية: أيها الإخوة أعضاء فريق القضية الجنوبية: اشتملت رؤيتنا لمحتوى القضية الجنوبية على 24 صفحة..وهذا تلخيص لها لغرض القراءة..وكنا في رؤيتنا السابقة لجذور هذه القضية قد حددنا نطاقها الزمني بالفترة الواقعة بين 22 مايو 1990 وحتى الآن..وفي تلك الرؤية أوردنا عددا كبيرا من الشواهد والمقارنات التي تؤكد بأن حرب 1994 لم تكن ضرورية ولم تكن دفاعا عن الوحدة، وإنما هروبا من بناء دولة الوحدة..ونتائج الحرب على مستوى اليمن عموما، وعلى مستوى الجنوب خصوصا تثبت أنها كانت حرب عصابات ضد الوطن، وأنها أكثر الحروب الداخلية في تاريخ اليمن قذارة وخسة بكل المعاني الأخلاقية والإنسانية والوطنية والدينية. وفي رؤيتنا هذه لمحتوى القضية الجنوبية ميزنا بين مستويين في هذا المحتوى هما محتوى القضية الجنوبية بالمعنى الوطني العام ومحتواها بالمعنى الجنوبي الخاص.محتوى القضية الجنوبية بالمعنى الوطني العام: في رؤيتنا لجذور القضية الجنوبية كنا قد كشفنا عن الطابع الانتقائي للتسمية، وقلنا إنها كشفت عما تريد وأخفت ما لا تريد..وما أخفته هو محتواها الوطني العام..ومن أجل إبراز هذا المحتوى بحثنا في محتوى الوحدة..وتبين لنا أنه يتضمن أربعة مرتكزات هي: الشراكة والديمقراطية والإصلاح والتحالف.أولا: الشراكة: الشراكة هي الأصل في الوحدة..وهي من ناحية شراكة وطنية بين الشمال والجنوب..وهي من ناحية أخرى شراكة سياسية بين كل اليمنيين.1 - الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب: تعني هذه الشراكة أن الجنوب والشمال متكافئان في الإعلان عن دولة الوحدة وفي عملية تأسيسها من الألف إلى الياء..فما تم يوم 22 مايو 1990 هو لحظة التدشين في بناء دولة الوحدة وليس لحظة الإنتهاء المشروطة بظروف اشتغال ديمقراطي طبيعي لكل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، على النحو الذي يسمح لأي حزب إذا خرج من السلطة بآليات الديمقراطية أن يعود إليها بالآليات نفسها.2 - الشراكة السياسية بين كل اليمنيين: وتعني ضمان الحقوق السياسية بالتساوي لكل اليمنيين أفرادا وأحزابا وتنظيمات ومنظمات مجتمع مدني.ثانيا: الديمقراطية: بما أن الشراكة السياسية بدأت بقسمة السلطة على حزبين هما الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام، فالديمقراطية هي الآلية اللازمة للإنتقال بالشراكة السياسية من مستوى القسمة على إثنين إلى مستوى القسمة على الجميع بواسطة إنتخابات دورية يؤدي إنتظامها المتواصل إلى إثبات وثبات النهج الديمقراطي للدولة ونظامها السياسي.ثالثا: الإصلاح: وله شقان على النحو التالي.1 - إصلاح ما ورثته دولة الوحدة من سنوات التشطير في الشمال وفي الجنوب.2 - دمج الحقائق العسكرية والأمنية والاقتصادية والمالية والإدارية والقانونية والتعليمية...الخ للدولتين الشطريتين في دولة الوحدة..بحيث تصبح حقائق مختلفة لا هي حقائق دولة الشمال ولا هي حقائق دولة الجنوب.رابعا التحالف: بما أن الوحدة قامت على الدور المحوري لكل من الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام فإن مستقبلها يتوقف في البداية على نوع العلاقة بين هذين الحزبين..لذلك اقتضى الأمر أن تكون العلاقة بينهما تحالفية، وأن يكون التحالف بينهما نواة لتحالف وطني واسع يلعب دور الربان الذي يصل بسفينة دولة الوحدة إلى بر الأمان. لقد شكلت هذه المرتكزات مجتمعة محتوى وحدة 22 مايو 1990..وإذا كانت حرب 1994 قد أطاحت بهذه المرتكزات مجتمعة..فمعنى ذلك أنها أطاحت بمحتوى الوحدة، بل أطاحت بالوحدة ذاتها..فلم تعد هناك وحدة..والوضع القائم هو إحتلال في نظر البعض، وضم وإلحاق في نظر آخرين..ومهما إختلفت التسميات فكلها تجمع على أن ما هو قائم ليس وحدة. إن الإطاحة بمحتوى الوحدة هو محتوى القضية الجنوبية بالمعنى الوطني العام..وبهذا المعنى يكون الإنتصار للقضية الجنوبية هوانتصار للوحدة.محتوى القضية الجنوبية بالمعنى الجنوبي الخاص: كانت حرب 1994 كارثة على اليمنيين شمالا وجنوبا..لكن نتائجها كانت مأساوية على الشعب اليمني في الجنوب إلى درجة لا تطاق..وقد أشارت معظم الرؤى المقدمة إلى النهب الواسع للأرض والمزارع والمساكن والمؤسسات والمصانع والثروات الطبيعية ومناطق الاصطياد السمكي..كما أشارت إلى التسريح الجماعي من الجيش والخدمة المدنية وإلقاء المسرحين إلى رصيف البطالة..ونحن لا نريد أن نكرر ما هو معروف عند أطراف هذا الفريق..لكنا سنلتفت إلى الجوانب التي أهملت وهي في نظرنا على قدر كبير من الخطورة..وهي كما يلي:1 - تدمير الهوية اليمنية للجنوب التي أوصلت اليمنيين إلى وحدة 22 مايو 1990..ويظهر هذا من خلال مسمى “ القضية الجنوبية” نفسه الذي يستقطب الحشد على أساس جهوي لا يفرق بين الجنوبيين الذين اكتووا بنار الحرب والجنوبيين الذين استفادوا منها. 2 - تدمير قدسية الوحدة عند أبناء الجنوب الذين أصبحت الوحدة بالنسبة لهم هي المعنى المرادف للحرب والنهب والإقصاء والتهميش والإبعاد والإفقار والإذلال.3 - تعميق بعد الشعور بغياب الدولة عند أبناء الجنوب الذين تعودوا على حضورها حتى في الظروف الصعبة..ففي أحداث يناير غابت الدولة أثناء الأحداث، لكن بمجرد أن اختفى صوت آخر طلقة رصاص عادت الدولة بسرعة وبكامل هيبتها..وهذا يعني أن الدولة في الجنوب ليست مؤسسات فقط، ولكنها أيضا قيم مترسخة في المجتمع...ولو أن الشمال شهد أحداثا مثل أحداث يناير سيكون من الصعب عليه أن يعود بسهولة إلى الأوضاع الطبيعية.4 - للشعب اليمني في الجنوب إرث تاريخي في النضال ضد المستعمر الأجنبي من أجل التحرير وضد السلاطين من أجل التوحيد..وهذا الإرث مصدر مهم من مصادر اعتزازه بذاتيته..لكن المنتصر لم يحترم هذه الذاتية وذهب يتصرف بطريقة إستعلائية ويتعامل مع أبناء الجنوب كصومال وهنود وخاصة في مدينة عدن التي لا تربطه بها علاقة وجدانية كتلك التي تربط من يسميهم صومالا وهنودا. 5 - إن القضية الجنوبية في بعدها الحقوقي ليست مجرد أراض سرقت ومؤسسات دمرت أو نهبت..إنها في المقام الأول قضية إنسان تعمد المنتصر في حرب 1994 أن يلغي كيانيته وكرامته بعد أن ألغى حقوقه المادية في الوظيفة العامة وفي التملك، وألغى تاريخه في النضال، وألغى عاطفته تجاه وطنه عندما ذهب يتهمه بالإنفصال، وينهبه جهارا نهارا باسم الوحدة.6 - في البعد الإنساني للقضية الجنوبية تتقاطع أبعاد كثيرة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية..فالإنسان اليمني في الجنوب تعرض لحصار مهين في مصادر كسبه وعيشه..فقد كان قبل 22 مايو 1990 لا يخشى من الغد رغم تواضع مستوى حياته في ظل دولة الرعاية..لكن المنتصر في حرب 1994 صادر عليه مستقبله ففقد وظيفته العامة، ومن لم يفقدها لا يستطيع الترقي بحسب قدراته وكفاءته ومعارفه، لأن الدولة التي كانت تضمن له هذا لم تعد موجودة..وكانت تضمن له حقوقه المستحقة له دون النظر إلى الطبقة أو الفئة التي ينتمي إليها أو المنطقة التي جاء منها.7 - كان الإنسان اليمني في الجنوب يعيش وكله أمل بأن حياته ستتحسن وبأنه سيجد السكن..لكن المنتصر دمر أحلامه وآماله..لقد نهب أراضي الجمعيات السكنية، ورفع الأسعار في السوق بما في ذلك إيجار المساكن التي لا يقدر على دفعها..وفجأة رأى الإنسان اليمني في الجنوب بيوتا وعمارات تتكاثر كالفطر وكلها كتل أسمنتية غريبة عليه لا يستطيع أن يعمل في أي منها حتى كحارس. 8 - وأمام محدودية دخله لم يستطع الإنسان اليمني في الجنوب أن يلتحق بالسوق كمنافس..لذلك تملكه شعور دفين بأن صراعه مع المنتصر هو صراع وجود..فكل شيء أصبح متوفرا أمام عينيه، لكنه لا يستطيع أن يقتني شيئا مما يراه.9 - فقد الإنسان اليمني في الجنوب الخدمة الصحية المجانية، وفقد التعليم المجاني، وفقد المنح الدراسية، وأصبح ملزما بالدفع من حيث لا يقدر..وقد انعكس كل هذا على مزاجه وعلى حالته النفسية المحاصرة بضغوط الحياة عليه.10 - لقد تعرض الإنسان اليمني في الجنوب للإعتداء على حقه الشخصي في الترفيه عن نفسه في الشواطئ والمتنزهات التي خلقها الله وأهداها لبيئته.. وفجأة وجد هذه المتنزهات تنهب أو تغرق بالسياحة الداخلية التي لم يعثر على نفسه فيها..وتحول حضوره الفيزيائي في هذه لأماكن إلى شعور دفين بالظلم الواقع عليه..فهو لا يستطيع أن يجاري الوافدين إليها لا كباحث عن التسلية وتمضية الوقت، ولا كباحث عن دخل لتحسين مستوى حياته.11 - أغرق المنتصر مدينة عدن بالمعسكرات التي أحس المواطن هناك بحصارها له ليس أمنيا فقط، وإنما ديموغرافيا أيضا..فضلا عن كثافة نقاط التفتيش التي حولت عدن والجنوب كله إلى سجن كبير.12 - أحس الإنسان اليمني في الجنوب بأن هناك مالا سياسيا سائبا يعمل على تدمير حياته..وقد استفز هذا مشاعره وأثار حفيظته..خاصة وهو يعلم أن الجنوب هو مصدر هذا المال.13 - تعرض الإنسان اليمني في الجنوب إلى مركزية قاسية دفعته إلى عذابات السفر إلى صنعاء من أجل كل صغيرة وكبيرة إبتداء من البحث عن علاوة مستحقة له وانتهاء بالبحث عن العدالة التي فقدها.14 - إن القضية الجنوبية هي قضية إنسان تعرض فجأة لخلل كبير في منظومات الحياة التي اعتادها..خلل في منظومة السكن..وخلل في منظومة الإدارة..وخلل في منظومة التعليم..وخلل في منظومة الصحة..وخلل في منظومة القضاء الذي أصابه الفساد..وخلل في منظومة الأمن..وخلل في منظومة الغذاء..وكل هذا أثار غضبه ودفعه للخروج إلى الشارع لمواجهة المنتصر الذي اعتقد أنه قادر على إذلاله وتدجينه..ومنذ أن خرج إلى الشارع تعرض خروجه لكل أشكال التشويه والتسفيه من قبل الآلة الإعلامية للمنتصر..يضاف إلى ذلك أن النخب في الشمال ظلت لفترة طويلة إما صامتة وإما شريكة لنظام الحرب في الإساءة لإنسان صبر حتى نفد صبره..وعند ما خرج كانت النخب في الشمال تنظر إلى الأعلام التي يرفعها لا إلى وجهه الشاحب، ولا إلى قدميه الحافيتين، ولا إلى ملابسه المهترئة، وكأن الوحدة هي غاية وليست وسيلة.