يوم 25 يناير 2011 سقط مخطط «توريث» الحكم تحت أقدام الغاضبين، لكن الموجة الأولى من المسار الثوري وقعت في فخ مخطط آخر، لا يقل ضراوة ولا فداحة، عن سابقه، ألا وهو «التمكين»، الذي يعني بالنسبة لجماعة الإخوان نهاية لمرحلة «الصبر» والوصول إلى العتبة التي تقع عندها الدولة برمتها في قبضتهم، فيصادرون كل ما فيها لحساب فكرتهم، التي لم تعد صالحة لإدارة دولة عصرية متمكنة. ولو كان هذا «التمكين» «مشروعاً وطنياً» متماسكاً وواضح المعالم وقائماً على توظيف كل الطاقة الكامنة للدولة وجميع الكفاءات في شتى التخصصات دون النظر إلى الاتجاه السياسي أو الإطار الآيديولوجي ما كانت هناك مشكلة، لكنه مجرد حلم عابر لتنظيم يصر على إدارة الدولة بطريقة سرية، ويوظف كل إمكانياتها لخدمة فصيل واحد، بما يضع مصر في مهب الريح من جديد.لقد اعتقد الإخوان أن وقت التمكين قد أزف حين جلسوا ليرتبوا أوراقهم عقب تنحي مبارك عن السلطة على النحو التالي:1 - هذه المرة الأولى منذ ثورة يوليو 1952التي يكون فيها قادة الجيش بلا خبرة في السياسة، لأن مبارك كان حريصاً على إبعادهم عنها في إطار التمهيد لتوريث نجله الحكم. وهى المرة الأولىالتي يُهاجَم فيها «المجلس العسكري» بهذه الضراوة من قطاع شعبي عريض، ويهتف الشباب بسقوطه ورحيله، وينفتح الباب أمام تداول المعلومات عن الجيش وأوضاعه ومشاريعه وارتباطاته. وبالتالي فإن هذا المجلس الجريح المتعثر الباحث عن «خروج آمن» بدا هو الطرف الطيّع السهل الذي يمكن استعماله جسراً للوصول إلى السلطة، وهي فرصة قد لا تتكرر أمام الإخوان.2 - جهاز الشرطة أصيب بجرح غائر، ودفع ثمن خطايا نظام مبارك، وأخطاء انحرافه عن مهمته في خدمة الشعب بحفظ أمن المجتمع إلى خدمة السلطة. وهذا هو الجهاز، لا سيما مباحث أمن الدولة، الذي لديه معلومات كاملة عن تنظيم الإخوان، ويلاحقهم ويطاردهم ويواجههم إن دعت الضرورة، لكنه أمام الضربات المتتالية التي تعرّض لها، لم يعد بمقدوره أن يفعل ما كان ينفذه في الماضي، وبدا ضعفه واستكانته وقلة حيلته فرصة ذهبية أيضاً، كي يعوض الإخوان ما حُرموا منه في ظل يقظة الأجهزة الأمنية، ويتقدموا خطوات في سبيل حيازة السلطة.3 - القوى الحزبية لا تزال على ضعفها القديم رغم قيام الثورة، بعد أن قبعت طويلاً في حضن السلطة، وارتضت بالفتات المتاح، وقيام أحزاب جديدة بعد الثورة لم يوسع كثيراً من قاعدة المنضوين تحت لواء الأحزاب، ولم يقِ الحياة الحزبية من الضعف والتشرذم والاستسلام لثقافة الماضي. وهذا الطرف ليس بوسعه أن يطرح بديلاً متماسكاً في زمن سريع، وليس بمكنته أن يبني شبكات اجتماعية راسخة بجهد يسير، لا سيما مع ضيق ذات اليد، ولهذا رأى الإخوان أن تلك هي اللحظة التي يخطفون فيها ما يريدون قبل أن تستفيق الأحزاب وتلتحم بالجماهير.4 - قوى ثورية مبعثرة بعد «ثورة شعبية» لم يكن لها قائد، سواء كان شخصاً أو تنظيماً، أغلب المشاركين فيها اعتقدوا أن مهمتهم قد انتهت بمجرد تخلى مبارك عن السلطة وعادوا إلى بيوتهم، وكثير منهم اطمأن إلى أن المجلس العسكري سيتصرف كشريك حقيقي في الثورة ويسعى إلى تحقيق أهدافها. وزاد من طمع الإخوان أن الطليعة الثورية نفسها لم تكن متحدة ولا حتى متماسكة وملتفة حول مسار أو طريقة واحدة للعمل والتقدم إلى الأمام.5 - جماهير غفيرة كانت قبل انتخابات الرئاسة لا تزال متعاطفة مع الإخوان، وترى ضرورة أن يُمنحوا فرصة كاملة ليقدموا مشروعهم ويطبقوه، ربما يكون فيه «الخير لمصر» ويكون «الإسلام هو الحل» كما نادى الإخوان منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي حين خاضوا أول انتخابات برلمانية بالتنسيق مع حزب الوفد.6 - أطراف خارجية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، تريد طرفاً يملأ الفراغ الذي تركه مبارك ومجموعته ويكون «كنزاً استراتيجياً» بديلاً. وقد اطمأن الإخوان، عبر وسطاء، إلى أن واشنطن ليس لديها مانع من أن يتقدموا لانتخابات الرئاسة، ولعبت قطر وتركيا دوراً مهماً في هذا الشأن.حلم أسرة ووهم جماعةبين خطة «التوريث» ومخطط «التمكين» نقاط عديدة للتلاقي والتطابق أحياناً، رغم اختلاف الأطراف والعناصر الفاعلة في كل منهما، ورغم تغير السياق الاجتماعي والسياسي، يمكن ذكرها في النقاط الآتية:1 - اعتقد من سعوا إلى «التوريث» ومن يحاولون «التمكين» الآن، أن هذين المسارين يشكلان غاية في حد ذاتها، الأول كان حلم أسرة توهمت أنها امتلكت مصر، والثانى وهم جماعة تحلم بأن تتخذ من بلدنا محطة انطلاق نحو خرافة اسمها «أستاذية العالم»، لا سيما إن كان من ينادون بها لا يملكون أدنى سبيل إليها. وهذان المسعيان ليس لهما أي علاقة بما يريده المصريون، سواء ما طلبوه من نظام مبارك، أو ما تصوروا أن الإخوان سيفعلونه حين يصلون إلى الحكم.2 - سخّر الطرفان الساعيان إلى الثوريث والتمكين على حد سواء كل إمكانات الدولة لخدمتهما، فتوقف جريان كل شيء انتظاراً لهما، أو جرى كل شيء نحوهما، وكأن مشروع الدولة ومستقبلها انحبس في هذا الدرب، بينما اختفت كل الدروب، وماتت كل البدائل.3 - كل من حاولوا «التوريث» ويحاولون «التمكين» توهموا أن انتصارهما أمر حتمي، وأن كل الأمور قد ترتبت بما يجعل الوصول إليهما تحصيل حاصل، وصاحب هذا التقليل من قوة وهمة ومصداقية كل المعارضين لهما، فهم في نظر الطرفين «شرذمة قليلون» و«قلة حاقدة»، لكن الشعب مع الوريث والمُمَكَّن.4 - كل من العمليتين قامتا على أكتاف «زمر» من «أهل الثقة» كانوا يمثلون «أمانة السياسات» في حال «التوريث» و«مكتب الإرشاد» ومن معه من «الأهل والعشيرة» في حال «التمكين»، بينما تم إهمال كل من يقع خارج هاتين الدائرتين، رغم أن الانحياز في المسار الأول كان لاختيار سياسي مستبد، وفي الثاني هو لفكرة جماعة تتصور أن لها رسالة دينية، رغم خروجها الواضح الفاضح حتى عن الخط الذي رسمه مؤسسها. وفي سبيل هذا تنفذ الجماعة ما يسمى بـ«الأخونة»، حيث تسعى إلى زرع عناصرها في كافة مؤسسات الدولة، وتغيير المجال العام بالقدر الذي يتناسب مع مصالحها، ويضمن استمرارها في الحكم أطول فترة ممكنة دون اعتبار للإنجاز والكفاءة والشرعية.5 - كل من العمليتين سعى القائمون عليهما إلى استرضاء الخارج بأي طريقة، ففي التوريث كان مبارك يعتقد أن رأي واشنطن في مدى إمكانية تولي ابنه الحكم هو الأهم، وأن رأي وموقف الشعب المصري لا ينفع ولا يضر. وفي التمكين يصعر الإخوان خديهم للأمريكان، ويتصرفون وكأن فوزهم في الانتخابات الرئاسية قد أعطاهم صكاً على بياض يفعلون به ما شاءوا، ويصادرون بشتى الطرق على إمكانية أن يتغير هذا الرأي، كحق للشعب مصدر السلطات وصاحب الإرادة الأصيلة.6 - كل من المسارين تلطخ وجهيهما انتهازية شديدة، على مستوى أفكار وتصرفات القائمين عليهما، فكل ما يهم هؤلاء هو صيد الهدف بغض النظر عن الثمن الفادح الذي تدفعه مصر.7 - كلاهما مشروع طفيلي غير أصيل، فالتوريث لم يكن قائماً على شيء أصيل، وإنما أراد الوريث أن يحصد ثمار الاستبداد والفساد الذي شاع في عهد أبيه، ويقف فوق أكتاف المؤسسات المتهالكة التي أوجدها وفي مطلعها «الحزب الوطني الديمقراطي» المنحل. أما التمكين فلم يطلق أصحابه الثورة، إنما شاركوا فيها متأخرين، وتفاوضوا على الميادين مع أركان سلطة مبارك قبل رحيله، ثم خانوها وحرفوها عن مسارها، وتسلقوا أيضاً على أكتاف الثوار، فلما اعتلوها راحوا يضغطون عليها بالأقدام متمنين لها التلاشي، حتى يقبضوا على زمام كل شيء.دستور خططوا له بليلذهب التوريث وصاحبه، لكن بقي أصحاب التمكين ليواصلوا محاولاتهم، إلى حين. وأول محاولة، بل أكبرها وأفدحها، هي ما جرى بالنسبة للدستور الذي انفردوا بوضعه، ومعهم بعض أتباعهم من السلفيين، الذين استخدموهم مرحلياً تحت لافتة «الانتصار للشريعة».فما تم عرضه على المصريين من «مشروع دستور» كي يقولوا له «لا» أو «نعم» ليس دستورا بالمعنى المتعارف عليه في تاريخ الأمم، بل هو ترجمة قانونية ركيكة لخطة التمكين التي حلمت بها جماعة الإخوان عقوداً طويلة ثم وضعت في تسعينات القرن المنصرم تصوراً إجرائيا لها، وظلت سنوات تحلم بتحققها عبر التدرج البطيء والحذر إلى أن جاء شباب مصر وأزاحوا نظام مبارك ففتحوا الباب واسعاً أمام الجماعة المترقبة في انتهازية مفضوحة لتنفذ خطتها بعد أن هدهدت العسكريين قليلاً، ثم هاهي تُحيدهم بمنحهم صلاحيات ومزايا أكبر في «مشروع الدستور» بعد أن أقام الإخوان الدنيا ولم يقعدوها ضد «وثيقة السلمى»، لأنها ستجعل الجيش دولة داخل الدولة، وعرفنا بعد الاستفتاء على الدستور أن اعتراضهم لم يكن مبدئياً إنما لأنهم أرادوا أن يمرروا هذا الأمر للعسكريين في محاولة للتقرب منهم والتودد إليهم إلى حين، وفق سياستهم المعهودة المتراوحة بين «التمسكن» و«التمكن».إن الدستور هذا الذي أصروا على أن يستأثروا به، أو يخطفوه بليل، يبدو في ظاهره «وثيقة» لتنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية في بلدنا، لكن من يمعن النظر في بعض مواده، أو في بنيته الكلية، والدساتير تقرأ كوحدة واحدة، يدرك أنه دستور وُضع لترتيب السلطة لصالح جماعة الإخوان إلى أن تتمكن تماماً من تنفيذ مخططها القديم بالسيطرة التامة على الدولة المصرية، كي تصبح في نهاية المطاف مجرد «وحدة دولية» في مشروع لإمبراطورية متخيلة أو مستعارة من القرون الفائتة تمتد من غانا في غرب أفريقيا إلى وادي فرغانة في آسيا الوسطى، بل تتعدى هذا إلى «أستاذية العالم» كما سبقت الإشارة.فالدستور هندس الانتخابات التشريعية المقبلة على مقاس الإخوان من خلال تغيير قواعد اللعبة في التوزع بين النظامين الفردي والقائمة مع تعديل عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا وإعطاء الرئيس حق تعيينهم. ورتب لمجلس الشورى (المحصن) الذي لم ينتخبه سوى أقل من 7 % من المصريين حق التشريع إلى أن يأتي مجلس النواب، ثم يشاركه هذا الحق مستقبلاً، وأعطى الرئيس حق حل البرلمان فإن أتى على غير هوى جماعته لن يفعل سوى اتخاذ قرار بعد منتصف الليل ثم يظهر بعد عصر اليوم التالي ليخطب في الناس عن الظروف القاهرة والأسباب الحتمية التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار.وناهيك عن أن الدستور يفتح نافذة أمام الإخوان لتغيير «لون العلم» و«النشيد» و«شعارات الدولة» فإنه يفتح باباً وسيعاً للقضاء على الكثير من مكتسبات الدولة الحديثة التي بدأت مع محمد علي، عبر إقحام الدولة بل والمجتمع في رعاية «الفضيلة والأخلاق» وبعد أن كانت هذه المسألة منوطة بمؤسسات يحددها القانون، مثل المساجد والكنائس والمدارس والجمعيات الدعوية الأهلية، بات من الممكن لأي مجموعة أو تنظيم أو حتى فرد أن يمارس «الحسبة» على الآخرين، مطمئناً إلى أن الدستور يحميه. وتدريجياً سيقوم الإخوان أنفسهم، وليس غيرهم، بهذا الأمر.ميراث سيد قطبكثير من مواد الدستور أحالت إلى «القانون» ومن ثم فإن اعتماده على هذا النحو أعطى الرئيس، الذي ظل يمتلك حق التشريع مدة معينة، فرصة إصدار ما شاء من قوانين، وجاء مجلس الشورى ليكمل المشوار، ويواصل رحلة ترتيب أحوالنا ومعاشنا على مقاس الأفكارالتي تدور في رأس قادة الجماعة، والتى هي في أغلبها الأعم مستندة إلى ميراث سيد قطب الذي يعزز الاستبداد الديني والدنيوي والتكفير، ويرمي المختلفين معه في الرأي بالجاهلية، ويتيح لتابعيه أن ينعزلوا شعورياً عن غيرهم، ويتعالوا عليهم. وبان هذا في قوانين «الصكوك» و«تنظيم التظاهر» و«الجمعيات الأهلية» و«استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات» وغيرها.إن ما قيل عن الأخونة، بوضع كوادر الإخوان في المناصب العليا بالدولة، رغم ضعف إمكانياتهم وعدم استحقاقهم وغياب جدارتهم، هو مجرد فرع من فروع مشروع التمكين هذا، الذي يرمي إلى نشر أفكار الجماعة وترسيخها عبر المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية، ربما عنوة كما فعل الفاطميون في القرون الوسطى من خلال نشر المذهب الشيعي، وذلك من الناحية الشكلية بالطبع وليس من ناحية المضمون، أو ما حاول أن يفعله الرومان بمذهبهم ضد المسيحيين المصريين في الزمن القديم، وقاوموه بضراوة في عصر الاستشهاد، وذلك أيضاً على سبيل المضاهاة الإجرائية. ولا غرو في ذلك، فمن يحلل كتابات الإخوان وتصريحاتهم وتعاليمهم وأناشيدهم وطقوسهم ورموزهم وشعاراتهم يتبين له أنهم يدركون أنفسهم على أنهم «طائفة»، تختلف عن بقية المسلمين. ولم يكن صبحي صالح يسخر أو يمزح حين قال «بناتنا الأرقى».وفي الدستور عشرات المواد التي تمهد إلى هذا السبيل، وما يتعارض معه الآن، قد يتم تغييره إن تمكن الإخوان من أغلبية البرلمان القادم، ويبدو أنهم خططوا لهذا عبر قانون انتخاب فصلوه على مقاسهم، فأوقف القضاء الانتخابات لعيب في الإجراءات وقع فيه الدكتور مرسي، فاضطروا إلى إعادته مرة أخرى إلى المحكمة الدستورية العليا. وما يجب أن نأخذه في الاعتبار هنا أن الإخوان سيسعون بكل قوة إلى أن يكون تداول السلطة عملية شكلية، بمعنى أن تتم داخل الجماعة وليس خارجها، فيذهب رئيس إخوانى انقضت مدته ليأتى غيره، سواء بالتلاعب في قواعد المنافسة أو تزييف إرادة الأمة أو أي إجراءات استثنائية.إن كل هذا كان يفرض على المواطنين أن يفكروا طويلاً أمام مشروع هذا الدستور، بحيث إذا أراد أي منهم أن يساهم في اختطاف الدولة فليصوّت بــ «نعم» وليكذب على نفسه ويصدق السخافات التي تربط بين الموافقة وبين دوران عجلة الإنتاج وتحقيق الاستقرار، فالدستور وضع أرضية عريضة للتنازع وليس للتصالح. الذين أرادوا أن يقوا الدولة شر الاختطاف فقالوا بملء إرادتهم: لا.لكن النتيجة أن 68 % ممن لهم حق التصويت قاطعوا الانتخابات وذهب أقل من الثلث، وافق أقل من ثلثيهم على الدستور، في عملية لم تخل من التزييف والخداع، فأصبح دستور «تمكين الإخوان» هو مجرد مدماك جديد في رحلة البناء على الرمل،التي ستنتهي بالبكاء على الأطلال.وفي سبيل التمكين أيضاً تنتهك الجماعة الدستور الذي وضعته، فمرسي خرج على الدستور والقانون عدة مرات، وسكت عن انتهاكه مثلها، وحين قلده بعض الناس، عاد ليطالبهم بــ «احترام القانون» ويحذرهم من «خرقه».مسار التمكين محكوم عليه بالفشلسواء بالانتخابات أو بغيرها فإن مسار «التمكين» محكوم عليه بالفشل الذريع لأنه يحمل في باطنه بذور فنائه.1 - ثبت أن الإخوان ليس لهم رصيد من الكفاءة، وأن كل ما صدّروه للرأي العام طيلة العقود الماضية، وعقب انتهاء الموجة الأولى من الثورة مباشرة من أن لديهم فريقاً جاهزاً لإدارة الدولة، مجرد أوهام، أو دعاية سياسية استهدفت اصطياد الناخبين في عمليات الاقتراع المتتالية، لم تقم على شيء من الواقع، وليس لها رصيد من الحق والحقيقة. وتبين فيما بعد أن أغلب أعضاء «النخبة السياسية الإخوانية» من الأطباء، الذين هجر بعضهم الطب قليلاً أو وضعوه في مرتبة ثانية من الاهتمام وانخرطوا في خدمة الجماعة وتنظيمها، ووظفوا عياداتهم ومستوصفات الإخوان في تكوين رصيد جماهيري نفعهم في الانتخابات البرلمانية المتعاقبة التي خاضوها، لكن ليس معنى هذا أن هؤلاء بوسعهم أن يكونوا «رجال دولة» وأن يحوزوا الكفاءةالتي تمكّنهم من إدارة السياسات في مستواها العلوي.2 - لا يوجد لدى الإخوان «مشروع قومي» بالمعنى العلمي، له قوام وملامح، ويمكن أن يجد طريقه إلى التطبيق العملي بسهولة، وتكون ثماره مضمونة. فما يعرضه الإخوان، حتى الآن، مجرد كلام بلاغي إنشائي يقوم على «الينبغيات» والشعارات العامة الفضفاضة، ويعتقد أن الانتصار في المعارك اللفظية يعني التقدم إلى الأمام في الواقع، وأن الاعتقاد أو التوهم في «طُهر المسلك» أو «صدق النوايا» أو التذرع بأن الحصول على الأغلبية في الانتخابات يعني في حد ذاته تحصيل النجاح، ويعني الثقة المستديمة من قبل الناس في امتلاك الإخوان القدرة على تقديم حلول لمشكلات الواقع، وليس مجرد وضع الجماعة في موضع اختبار، وعليها أن تثبت للشعب ما إذا كان بوسعها إدارة الدولة أم لا.3 - هذه الرؤية الإخوانية الساعية إلى «التمكين» غير قابلة لشحذ الطاقات الوطنية وتوظيفها في شراكة تامة أو مشروع جامع، لأنها من المنبت هي مسلك فصيل واحد، تدور حول تصوراته وأفكاره هو، والتى بينها وبين تصورات وأفكار المشروع الوطني المصري هوة واسعة، أو اختلاف بيّن. فالأغلبية الكاسحة من المصريين لا يعنيهم أن يتمكن الإخوان من اتخاذ بلدنا محطة انطلاق نحو تحقيق حلمهم، أو بمعنى أدق وهمهم، بـ«أستاذية العالم»، بينما يعيش جل الناس في فقر مدقع، ولا يبدو أمامهم أي أمل في تغير أحوالهم التعيسة.كما أن القوى السياسية المعارضة، والنخب الفكرية والثقافية، والتنظيمات والروابط الوسيطة وقادة الكتل الجماهيرية الغفيرة من الفلاحين والعمال، أو الأفكار السائدة في هذه الأوساط، تشعر بدرجة متعاظمة أن مسار التمكين يجري في كل الأحوال على حساب المصلحة الوطنية، أو يتناقض مع مشروع الثورة المصرية أو أهدافها، ومن ثم فإن التصدى له ضرورة، وتحديه واجب، وإسقاطه هدف حقيقي من أجل استكمال الثورة أو إعادتها إلى مسارها الأصلي الذي انحرفت عنه بفعل أفكار وسلوكيات الإخوان الغارقة في الأنانية المفرطة.4 - رؤية أشبه بمخططات التنظيمات السرية أو العصابات، صعب تسويقها في ثقة ووضوح لدى الشعب. فوثيقة التمكين الحديثة، كما سبقت الإشارة، يغلب عليها «الطابع الأمني» وتحتاج إلى طرق خفية عن أجهزة السلطة كى تتقدم إلى الأمام، ورغم وصول الإخوان إلى الحكم، فإنهم لا يدركون هذا بشكل كامل، وتسيطر عليهم هواجس ووساوس قهرية تصوّر لهم أن الكل يتآمر عليهم، وأن تحقيق «التمكين» يتطلب الكتمان، ولذا يستمرون في السرية.5 - التمكين رؤية قديمة واكبت نشأة جماعة الإخوان، لكنها لم تتطوّر مع الزمن، ولم تراعِ تغيُّر الظروف وتبدُّل السياقات. فهذه الفكرة جاءت في ركاب الرغبة في استعادة «الخلافة»التي أطلق عليها مصطفى كمال أتاتورك «رصاصة الرحمة» عام 1924، ووقتها كان الشعب المصري متعاطفاً مع «الإمبراطورية العثمانية» في وجه الاستعمار البريطاني، رغم أنها كانت قد ضعفت وتهالكت ولم تعد قادرة على حماية الولايات التابعة لها. لكن الأمر تبدّل الآن، فلا المصريون يجعلون قضيتهم هي العودة إلى أي شكل إمبراطوري للمسلمين، وإنما فقط تعاون وتنسيق بين الدول الإسلامية، لا سيما في المجالات الاقتصادية والثقافية، لكن الإخوان لم يتقدّموا خطوات فارقة ومؤثرة تحوّل «التمكين» هذا إلى «مشروع للوطن»، وليس مؤامرة عليه، سواء بقصد أو من دون قصد، حال الإخلاص لفكرة لم تعد قابلة للتطبيق وتضييع وقت مصر وطاقتها في الجري وراء الأوهام، واعتبار أن تحصيل الإخوان للسلطة ليس فرصة لخدمة الوطن وتقديم نموذج مغاير بإضفاء طابع أخلاقي على الحكم، إنما خطوة على طريق تمكين الإخوان من «أستاذية العالم».6 - لا توجد نظرية متماسكة أو إطار فكري قوي لمسار «التمكين» هذا، والاحتجاج بأنه نابع من «مرجعية إسلامية» غير مقنع، فالإسلام ليس حكراً على الإخوان، والرؤى والاجتهادات الفقهية فيه متعدّدة، وهو حجة على أصحابه مثلما هو حجة لهم، علاوة على أن الادعاء بأن التمكين هو مشروع الإسلام، يفقد هذا المسار المرونة المطلوبة للتفاعل مع الأفكار والأفراد والقوى المختلفة، لأنه يزعم الطهر والصواب التام ويدّعى أصحابه أنهم «ملاك الحقيقة المطلقة».7 - يفقد الحديث عن التمكين بريقه تباعاً، بإخفاق السلطة في حل المشكلات المعقّدةالتي يعاني منها المجتمع، وتتهاوى مصداقيته مع تراجع الثقة في القائمين عليه، سواء في خطابهم الذي أصبح مشبّعاً بالأكاذيب، أو في ممارستهم التي تسقط في أحابيل الأنانية والأثرة، ولا تتسق مع الخطاب الذي صدّروه إلى الشعب في دعاية سياسية فجة سبقت الانتخابات والاستفتاءات المتتابعة.8 - لا يعني سقوط خرافة التمكين أن أصحابه سيكونون بلا دور سياسي أو اجتماعي أو فكري أو حتى فقهي في المستقبل، لكنهم قد يتعلّمون من هذه التجربة المريرة، ويعدّلون الخطاب والممارسة، ويطرحون أنفسهم في إطار التعددية السياسية والفكرية في المجتمع بتواضع ظاهر، وبعيداً عن التهويل والأوهام.
|
آراء
التمكين بديلاً للتوريث
أخبار متعلقة