لم تسقط المعادلة الفكرية في الاستشراق البريطاني أسس العلاقة بين ثنائية التاريخ والسياسة، فهي كثقافة رسمت أبعادها وحدود ركائزها في المشروع السياسي البريطاني الذي صاغ إدارة الهيمنة الغربية على منطقة الشرق الأوسط في حقبة من التاريخ أعادت فيها العقلية الغربية تشكيل ملامح القيادات والدول على حسب مسار الاتجاه البريطاني في هذه المنطقة. وقراءة عدة وثائق من تلك المرحلة تكشف لنا أن العقلية السياسية - التاريخية البريطانية، تحركت من مركزية مقتدرة، تراكمت خبراتها عبر أزمنة من الممارسة في هذا المضمار الذي تحول مع علم الاستشراق إلى آلية عمل موضوعي يحدد اتجاه الأمور حسب توجهات الأغراض. ومن الوثائق التاريخية والسياسية في هذا الفكر، نقف أمام مؤتمر كامبل بنرمان الذي عقد في لندن عام 1905م الذي دعا إليه حزب المحافظين البريطاني سراً، وضم في تلك الحقبة دولاً توسعت في نفوذها وهي: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا ، اسبانيا، إيطاليا واستمر حتى عام 1907م وشارك في إدارة نقاشاته فلاسفة ومشاهير في علم السياسة وعلماء التاريخ والاستشراق والاجتماع والجغرافية والاقتصاد وكذلك خبراء في قضايا النفط والزراعة وإدارة الاستعمار ، وفي نهاية هذا المؤتمر خرجوا بوثيقة سرية أطلق عليها وثيقة كامبل نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني حينها هنري كامبل بنرمان، وقد توصلوا إلى رؤية مفادها إن منطقة البحر الأبيض المتوسط يعد الشريان المهم والحيوي لمصالح هذه الدول الاستعمارية، وهذا البحر هو الجسر الواصل بين الشرق والغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية وتلاقي طرق العالم، وكذلك المهاد التاريخي للاديان والحضارات ، غير أن المشكلة للغرب في هذا الجانب وكما جاء في تلك الوثيقة، أنه يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص، شعب واحد تتجمع فيه وحدة التاريخ والدين واللغة. وكان أهم ما جاء في توصيات هذا المؤتمر الذي شارك فيه سياسيون ومفكرون، هذه التصورات وقد وضعت في المحاور التالية: 1 -ابقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة. وعلى هذا الفكر، عملوا على تقسيم خرائط العالم حسب رؤيتهم إلى ثلاث فئات : الفئة الأولى : دول العالم الغربي المسيحية، والواجب تجاه هذه الدول هو دعمها مادياً وعلمياً لتصل إلى مراحل متقدمة في مختلف المجالات. - الفئة الثانية : دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديداً عليها، كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها، وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديداً عليها وعلى تفوقها. - الفئة الثالثة : دول لا تدخل في الإطار نفسه ولكنها تعد من مراكز التصادم مع الغرب، وهي تحديداً الدول العربية والإسلامية ، والعمل تجاه هذه المناطق هو حرمانها من الدعم والتطور العلمي والاقتصادي حتى تظل في حالات متدنية من الأوضاع وإدخالها في دوامة من الأزمات. 2 - محاربة أي توجه وحدوي فيها: وحتى يتحقق هذا، دعا المؤتمر إلى إقامة دولة إسرائيلية في فلسطين لتكون الحاجز البشري والعسكري المعادي الفاصل بين الجزء الإفريقي من المنطقة عن القسم الآسيوي، أما قناة السويس التي افتتحت عام 1869م تكون قوة صديقة للتدخل الأجنبي وأداة معادية لسكان المنطقة. 3 - فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا: وعملية هذا الفصل تشمل كل الجوانب حتى يظل العرب في أوضاع التمزق والعجز وإفشال جميع التوجيهات الوحدوية إما بإسقاطها أو تفريقها من محتواها، وتحويلها إلى صراعات سياسية تعزز الانقسامات في المنطقة. وقد ذكرت هذه الوثيقة عدة شخصيات فكرية عربية أكدوا مدى خطورتها ومنهم الأستاذ محمد حسنين هيكل، والمحامي انطون سليم كنعان والدكتور مسعود الظاهر. بتاريخ 17 مايو 1920م يكتب الميجر هيوبرت يونغ الضابط البريطاني في الجيش الهندي المنتدب للعمل في الدائرة الشرقية والمصرية بوزارة الخارجية مذكرة رقم 69، توضح الرؤية البريطانية لوضع الشرق الأوسط وطرق السيطرة عليه، وهذه بعض النقاط التي جاءت فيها ، وعبرها ندرك كيف كانت العقلية البريطانية ترسم مسارات المنطقة وتشكل وضعها الجغرافي الذي أوجد كياناتها الراهنة: 1 - تعريف الشرق الأوسط : إن مناطق الشرق الأوسط التي سوف تهتم بها حكومة صاحب الجلالة بصورة خاصة بعد إنجاز التسوية مع تركية هي: مصر، وفلسطين والعراق وجزيرة العرب وإيران. ولأجل حفظ النظام في هذه المناطق وتنميتها بصورة سليمة، تعهدت حكومة صاحب الجلالة، أو تعتزم التعهد، باتخاذ إجراءات مختلفة من المسؤولية. هذه المناطق تؤثر إحداها على الأخرى، ليس بسبب وضعها الجغرافي فحسب، ولكن لأن أكثرية سكانها يتكلمون اللغة نفسها وينتمون إلى الدين نفسه، وفي مجموعة الإقليم الذي تقع في هذه المناطق يوجد قطران آخران هما سورية والحجاز، ولن تكون حكومة صاحبة الجلالة مسؤولة عنهما في المستقبل، لكنها لا تستطيع أن تتخلى عن الاهتمام بهما تماماً. إن استقلال الحجاز، والاستقلال المؤقت لسورية، وتحرر كلا البلدين من السيادة التركية قد ضمنها السلاح البريطاني والدعم البريطاني وحده تقريباً. والحجاز ، الذي تقع فيه المدينتان المقدستان مكة والمدينة ، قطر لا تستطيع حكومة صاحب الجلالة، وهي أعظم دولة إسلامية في العالم، أن تغفل عن الاهتمام العميق به. إن سورية تتماشى مع فلسطين والعراق، وحاكمها الأول ليس ابن ملك الحجاز فحسب ولكن أيضاً القائد الحليف الذي تمكنت القوات البريطانية بمساعدته من إنجاز نصرها على الأتراك . إن مستقبل سورية يجب أن يبقى دائماً موضع اهتمام حكومة صاحب الجلالة، خصوصاً ذلك القسم منها الذي يقع عبر الأردن إلى شرق فلسطين إن غرض هذه المذكرة هو البحث في الأساليب البديلة التي تتمكن حكومة صاحب الجلالة بها في المستقبل من المحافظة بصورة ملائمة على صلتها بالأقطار المذكورة أعلاه. 2 - الصلات المقبلة لحكومة صاحب الجلالة مع الأقطار المختلفة المذكورة أعلاه. أ) مصر : الوضع في مصر هو أن حكومة صاحب الجلالة قد أعلنت مؤخراً (18 كانون الأول - ديسمبر 1914م) الحماية على هذا القطر الذي أصبح بهذه الصورة جزءاً من الإمبراطورية البريطانية . وتوجد حكومة مصرية يمنحها المشورة موظفون بريطانيون يعملون تحت أوامر مندوب سام يتلقى تعليماته من وزارة الخارجية. زارت البلاد مؤخراً لجنة برئاسة لورد ميلنر ( غادرت اللجنة انجلترا في تشرين الثاني - نوفمبر 1919م وعادت في آذار - مارس 1920م ) وكان هدفها تقديم تقرير إلى حكومة صاحب الجلالة عن العلاقات المقبلة بين الموظفين البريطانيين والحكومة المصرية . وإلى أن يصل تقرير اللجنة، يفترض أن يكون النظام النافذ حالياً على الأقل أساساً للعلاقات المقبلة بين حكومة صاحب الجلالة ومصر، أي لن يدخل شكل من الإدارة البريطانية مباشرة. ب ) فلسطين : أعلنت حكومة صاحب الجلالة نيتها في تشجيع تشكيل وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، بينما هي تضمن حفظ الحقوق والمزايا القائمة لغير اليهود بكل دقة أكثر من (80) في المائة من السكان في فلسطين هم من غير اليهود ومعادون لفكرة الوطن القومي اليهودي. ويظهر من ذلك أنه ليس في النية تشكيل حكومة تمثيلية في فلسطين، بل إقامة إدارة بريطانية تجعل في الإمكان تشكيل وطن قومي لليهود تدريجياً هناك يتصور الصهيونيون أن فلسطين تكون في الوقت المناسب دولة يهودية. إن هذا لا يمكن توفيقه مع مبدأ الحكم الذاتي إلا إذا تم تطوير القطر إلى حد يسمح بهجرة اليهود بأعداد عظيمة جداً حتى يكونوا أكثرية السكان. وإذا كان ذلك تنتويه حكومة صاحب الجلالة فإنه يكون من الضروري السيطرة على الهجرة والتنمية في فلسطين لغرض تشكيل أكثرية يهودية في الوقت المناسب. وسيتطلب هذا إدارة بريطانية مباشرة لمدة طويلة من الزمن. أما إذا كانت النية منصرفة، من الجهة الأخرى، إلى إنشاء حكومة فلسطينية على غرار الحكومة المصرية مع الضمانات للأقلية اليهودية، فإن المستشارين البريطانيين يجب عليهم الاحتفاظ بالسيطرة إلى حد ابعد كثيراً من الحال في مصر، والقيام بإدارة شؤون البلاد فعلاً.ج) العراق: من خلال معاهدة الصلح مع تركية، تم الاعتراف بالاستقلال المؤقت للعراق بشرط مراقبته من قبل دولة منتدبة حتى الوقت الذي يستطيع فيه الوقوف على قدميه. لم توضع نهاية لمدة هذا الانتداب، ولكن يفترض أن تتخذ خطوات لتشكيل دستور محلي في العراق بشكل يجعله في الوقت المناسب قادراً على حكم نفسه، ويكون الموظفون البريطانيون في ذلك القطر، إذا لم يكن فوراً ففي المستقبل القريب على كل حال، يشغلون مناصب المستشارين لا الإداريين. د) جزيرة العرب: تحاول حكومة صاحب الجلالة ضمان قبول سائر الدول الحليفة العظمى لسيادة المصالح البريطانية في جزيرة العرب عدا الحجاز. وفي الوقت نفسه تقترح حكومة صاحب الجلالة التعاون مع الدول العظمى الأخرى في إصدار بيان مآله إغفال أية رغبة في التوسع الإقليمي في تلك الجزيرة . وإذا اتبعت هذه السياسة فإن حكومة صاحب الجلالة سوف تعتبر من قبل الدول الأخرى مسؤولة عن ممارسة سيطرة سياسية على حكام جزيرة العرب المستقبلين، لكن إنشاء إدارة بريطانية مباشرة يكون خارج الصدد. وقد استثنيت محمية عدن من جزيرة العرب كما حددت في المقترحات المشار إليها أعلاه وفي النية إبقاؤها محمية بريطانية. كان الوضع في محمية عدن من قبل هو أن حكومة صاحب الجلالة قد امتنعت عن ممارسة أية سيطرة إدارية خارج شبه جزيرة عدن الفعلية. ودخلت في علاقات تعاهدية مع الزعماء العرب في البر الداخلي بموجب خطوط مماثلة تماماً لتلك المعقودة مع الحكام العرب المستقلين في الأجزاء الأخرى من الجزيرة.ويمكننا إذن أن نعتبر أن موظفي حكومة صاحب الجلالة في عدن يكونون في المستقبل، كما كانوا في الماضي، مستشارين لا إداريين باستثناء القلعة نفسها.هـ) إيران: إيران بلد مستقل عقدت معه حكومة صاحب الجلالة مؤخراً اتفاقية قبلت الحكومة الفارسية (الإيرانية) بموجبها بعض المستشارين البريطانيين مقابل المساعدة والدعم في شؤون المال وفي المحافظة على النظام الداخلي. إن العلاقات بين حكومة صاحب الجلالة وإيران هي علاقات خارجية محضة.و) سواء أكانت سورية تحت الانتداب الفرنسي أو مستقلة، كما يدعي فيصل والحزب الوطني، فإن العلاقات بين حكومة صاحب الجلالة وسورية تكون علاقات خارجية صرفة. في حالة استثناء منطقة شرقي فلسطين من منطقة السيطرة الفرنسية تقوم ثلاثة احتمالات: أما أن تعتبر جزءاً من الحجاز، أو إقليماً تحت الانتداب البريطاني، أو جزءاً من مملكة فيصل حيث يتنازل الفرنسيون عن مصالحهم).في هذا الجانب لم تقل أهمية المذكرات والكتب السياسية في قراءة رؤية الاستشراق البريطاني لتاريخ الشرق الأوسط.ومن تلك المؤلفات، كتاب سفير بريطانيا في إيران سر ريدر بولارد خلال الأعوام من 1939م حتى 1946م وعنوانه (بريطانيا والشرق الأوسط، من أقدام العصور حتى 1952م) والصادر في بغداد عام 1956م، في هذا المرجع التاريخي المهم نتعرف على فترات وسياسات من الوجود البريطاني في هذه المنطقة، وتعد فترة ما قبل وما بعد الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918م من المراحل المهمة في العلاقات البريطانية مع الشرق الأوسط، فعلى مستوى اليمن أقر الحلفاء استقلالها عن تركيا بعد الحرب، ولكن ذلك لم يحسن العلاقات مع بريطانيا، فهو ما أن تخلص من الأتراك حتى أخذ يتجاوز حدود محمية عدن غير مقدر لخطورة عمل مثل هذا واتفاقية ترسيم الحدود، التي وقعت بين بريطانيا وتركيا عام 1914م، وربما كان تعنت الأمام ورفضه الاتفاق على الحدود بتحريض من الايطاليين.غير أن حكومة عدن البريطانية اضطرت بعد عدة تحذيرات متكررة إلى طرد جيوش الأمام من بلاد عدن، ورضخ بعدها إلى عقد معاهدة عام 1934م، اعترفت بريطانيا فيها باستقلال اليمن، كذلك أقر الإمام أن الوضع الراهن للحدود اليمنية والعدنية سيحدد بعد إجراء مفاوضات بين الطرفين.ومع كل المحاولات التي بذلتها ايطاليا والجهود فإنها حتى بداية الحرب العالمية الثانية لم تحصل على مكانة سياسية في اليمن، ولا يعزي ذلك إلى التعهدات التي أعطتها الحكومة الايطالية في الاتفاق الانجليزي ـ الايطالي المعقود عام 1937م، وإنما يعزى إلى خوف الإمام من التدخل الخارجي في أمور بلاده. أما عن عدن ومحمياتها يقول: (كان الإشراف على شؤون عدن قبل الحرب العالمية الأولى من مسؤوليات حكومة بومباي، وفي خلال فترة ما بين الحربين انتقلت تلك المسؤولية إلى حكومة الهند أولاً ثم إلى وزارة المستعمرات. وقد ظلت محمية عدن التي تحدد من جهة مستعمرة عدن واليمن والصحراء وسلطنة مسقط من جهة أخرى، على ما كانت عليه سابقاً من نظام للحكم. ولكن في عام 1937م بذلت جهود من أجل توطيد الأمن والسلام بدلاً من العداء المستحكم بين القبائل المستوطنة في الاقليم، عسى أن تتحسن أحوالهم فيهم بينهم الرخاء. فكانت نتيجة تلك الجهود أن اقتنع بضع مئات من رؤساء القبائل على اختلاف درجاتهم وتباين اهميتهم بضرورة عقد ميثاق عدم اعتداء مدة أعوام ثلاثة، كان من أثره أن حدث تحسن كبير في الأحوال المعاشية لتلك القبائل، كما صار في مقدورهم التنقل من موضع إلى آخر في البلاد دون أي خطر.واشترطت حكومة عدن عليهم أن أياً من رؤساء القبائل يرفض تنفيذ الميثاق أو يأبى رفع الغرامة التي تفرض عليه من قبل حكومة عدن فإن مساكن قبيلته ستكون عرضة للقصف الجوي.ومع أن هذه السياسة لاقت انتقاداً مراً فإن إتباعها للقضاء على الفوضى الضاربة اطنابها في البلاد، كان أمراً لابد منه. فالإقناع دون عقاب رادع لا تأثير له في تلك القبائل، سيما إذا ما عملنا أن من شأن حملات المشاة أن تذهب بأرواح الكثيرين من الجنود المحليين وضباطهم البريطانيين أو العرب. كما أن هذه الحملات ستبيد عدداً من العصاة أكثر مما يبيده منهم القصف الجوي.كانت السلطات الحكومة لا تلجأ إلى هذا التدبير إلا بعد إنذار متكرر يعين فيه موقع القصف وزمانه).تلك بعض القراءات والمعلومات في حقل الاستشراق البريطاني لحقب ظلت فيها الثقافة من أسس العمل السياسي، فالاستشراق هنا لا يقف عند حدود الكتابة لما يشاهده العقل الغربي في مجريات الشرق، بل هو الفعل الإداري المحرك لصناعة التاريخ والرجال ممن كانوا ركائز لعبة الأمم عند الخطوط المعينة من تغيير صورة الشرق الأوسط وهي تخرج من الحقبة الأخيرة لخلافة الدولة العثمانية وتدخل في منعطف الاتجاه المغاير لمشاريع الغرب في تقسيم المنطقة إلى دويلات وأزمات، وهنا يصبح الاستشراق ليس وليد المعرفة بل صنيع قوة الهيمنة القائمة على مواجهة التاريخ.
|
ثقافة
الاستشراق البريطاني .. ثقافة التاريخ والسياسة
أخبار متعلقة