سطور
منذ فترة ليست بالقصيرة وعلاقتنا باللغة العربية تتراخى لدرجة فقدان بريقها الأخاذ التي كانت عليه في سوالف أيامنا الغابرات، وغدت مجرد وسيلة مجانية لتدوين ما تمليه علينا الحاجة لاستعمالها بأسلوب جامد لا يتجاوز حد الانتفاع الآني بها باعتبارهاإحدى الأدوات التي أجبرنا للتداول بها لافتقارنا لما ينافسها من عداها من اللغات كما حدث في عهود التواجد الأجنبي لدى عدد من الدول العربية التي لازالت بعض اللغات - كالفرنسية مثلاً - هي الجارية على ألسنة شعوبها يتوارثونها كما يتوارثون صور زعمائهم التي عرفوها منذ ولادتهم وحتى شيخوختهم التي لا تشيخ .. أما نحن هنا فقد ولدنا معها ، بل أننا نقتل أي فكرة لإقتران لغة أخرى بها - رغم الدهر الطويل الذي عاشه الإنجليز بيننا وعشناه معهم - وحاربنا بل ودمرنا كل آثارهم وكل ما يربطنا أو يذكرنا بهم حتى لغتهم منذ رحلوا عنا تاركين لنا أبواب الصراعات السياسة مفتوحة على مصراعيها ولم تُـغلـَق حتى اليوم ..وإذا قادتك الظروف للحظات أن تجول في أروقة الكليات والجامعات فلن تجد أن لغتنا الأم تحظى بأدنى اهتمام سوى أنها أداة لعدد من العلوم الأخرى ووسيلة ساذجة للتلقي وبأبسط مقوماتها وبعاميتها التي تكاد تمحو ما تبقى منها لدى الأجيال السابقة .أما المستوى التعليمي الأساسي والثانوي فقد احتلتْ اللهجات السطحية الشعبية المرتبة الأولى في الأداء والتلقي وبكل بساطة ، متناسين تماماً أنها المرحلة الأكثر أهمية لتلقين هذا النشء علومهم بها حتى تنمو معهم وترتقي بهم لمستويات أفضل ويفخرون بامتلاكها كأهم مقومات العلوم وأساسها الأول وليست مجرد وسيلة يعبرون من خلالها لمراحلهم التعليمية التالية .. أن لغتنا العربية بحور من جمال الكلمة والمعنى، وحدائق غنـّـاء من رائع اللفظ وغزارة المعنى وعذوبة التذوق والنسق والصفاف ، فتزيد صاحبها براعة في التعبير والتصوير ويتناغم معها النطق والمعنى مما يسمو بها إلى الصدارة عن بقية اللغات الإنسانية.. وإن لم تكن كذلك لما أنزل القرآن الكريم ناطقاً بها، بأجمل وأعظم الآيات التي عجز عن الإتيان بمثلها كل من كـذب بها رغم مستواهم الرفيع في اللغة العربية حينها ، لدرجة اعتبارها الإعجاز الأول لهؤلاء القوم الذين كانوا يتفاخرون بها ويتبارون بملافظها القوية بنسيج يعجز عباقرة البلاغة والنحو اليوم عن مسايرة أبسط ما فيها . لقد تعددت النداءات وفي مختلف المحافل العربية للاهتمام المتزايد بلغتنا العربية الأُم وشمـَـر المجتهدون عن سواعدهم لبذل ما يمكنهم لهذه الغاية السامية المهمة في كل مناحي حياة أجيالنا من حاضرهم وآتيهم ، يملأ عقولهم وأفئدتهم التفاؤل الشديد بأن في مقبل الأيام سيحصدون انجازات جوهرية وتلاحماً حميماً بين الإنسان العربي ولغته الأسمى والأقدر على مساعدته للارتقاء بعلومه الإنسانية وحياته العامة ، وحتى النهوض بالذائقة الجمالية والفنية لديه . وهل لي أن أتـجرأ بتوجيه نداء متواضع لرجالات التربية ومختصيها في اللغة للالتفات لهذه الناحية ولو بعين الرحمة والشفقة للحال المتردي الذي وصلت إليه لغتنا الأم وفي كل مواقع التداول والاهتمام .. ولعل المنطق الأول لهذا الهدف الكبير تكون المدرسة هي مرتكزه الأساسي ، والمعلم أحد أدواته الحيوية ترافقه بذلك عدة وسائل مساعدة لتحقيق أفضل النتائج المرجوَّة . أنني لا أمتلك لساناً تشرّب بعذوبة حروفها ومخارجها ، ولم تنصهر ذاتي فيها يوماً وأغوار ألفاظها وعمق معانيها ، أو ممن يدعون أستاذية الكتابة بها وبمستوى أساتذتي أو حتى أصغر تلاميذ أولئك الممسكين بزمام قواعدها أو المتحكمين بأمواج بحورها ، وان كنت أتشكك كثيراً في المستوى الصعب الغارق فيه الغالبية العظمى المتخصصين من تلامذة اللغة والأدب في الجامعات ، ناهيك عن التدني الملحوظ لدى المؤسسات الأبسط من الطلاب ..وذلك ما زادني تفكيراً وقلقاً والتذكير بأهمية الالتفات بكل جدية بهذه اللغة العظيمة ، وإعادة النظر في إستراتيجية انتشالها ، لتغدو الأجدر بالاهتمام والأجدر أن تكون الوسيلة الأولى للعلم والعمل ، والخروج من حالة الغفلة التي نعيشها عن هذا الهدف التربوي الهام .