نبض القلم
( البق ) أو كما يسميها العامة في اليمن ( الكتن ) دويبة صغيرة حمراء مفرطحة منتنة الرائحة يتأذى منها الفقراء ويتقززون لمرآها، ولا يحبذون وجودها في بيئتهم، ويعملون جاهدين على مكافحتها بالسم والنظافة، لأنها حشرة خطيرة تذهب بالراحة وتفسد الهدوء، وتجلب للناس القلق، وتثير غضبهم، ومن المؤسف أن هناك شبها بين هذه الحشرة وبين بعض الناس في مجتمعنا ممن يمكن تسميتهم بالبق البشري فهؤلاء - على خطورتهم - يعيشون بيننا، ويقلقون راحتنا. فإذا كانت حشرات البق لاتثير اهتمام علية القوم ممن يتقلبون في مطارف العز ونعيم الثراء، فإنها بالنسبة لفقراء المجتمع حشرة خطيرة مقززة، تفسد حياتهم، وكذلك (البق البشري) من أهل الفساد وأئمته الذين يتعمدون مضايقة الناس، وإقلاق راحتهم، أو الإضرار بهم، في ظل غياب الرقابة والمحاسبة الإدارية. إن خطرهم على المجتمع عظيم لأنهم لا يبيتون إلا على كيد، ولا يستيقظون إلا على حقد. فترى الواحد منهم فيعجبك شكله ولكنك إذا عاشرته وفحصت معدنه ، وتعاملت معه، تزكمك رائحته المنتنة، وتضايقك قرصاته المتكررة، فهو كالبق تماماً، بل هو أشد منها خطورة، ذلك أن ( البق الحشري ) تستطيع أن تختفي في زوايا الحجرات وشقوق الجدران، وثنيات الملايات والفرشان. ومع ذلك يستطيع الناس اكتشاف وجودها من خلال رائحتها النتنة، فيسارعون لمكافحتها قبل استفحال أمرها، وزيادة خطرها. أما ( البق البشري ) فإنه ماهر في التخفي، وبارع في التمويه، وحاذق في التضليل والخداع، وهو في الوقت نفسه قادر على التكيف مع كل الظروف، والتلون بجميع الألوان، ويمتلك مهارة في التسلق والقفز وسرعة الانتشار، ويكثر تواجده في المرافق الفاسدة والمؤسسات الموبوءة، فتراه في غاية الأناقة في الثياب، ومنتهى الجمال في المظهر الخارجي، ولكنه في الواقع ذئب عليه من جلد الشاة ثياب، فلو كشفت عن سرائره وضميره، لرأيت عجباً، فإن وراء المظاهر الخداعة حقائق مؤسفة، وأشياء مروعة. ولا فرق بينه في هذه الحال وبين ( البق الحشري ) إلا من حيث الحجم، أما من حيث الطباع فكلاهما متشابهان، ذلك أن ( البق الحشري ) لا يدل مظهره الخارجي على نتانة رائحته، ولا يوحي شكله بخبث مسعاه، فيراه الرائي هادئاً وديعاً ذا لون أحمر جذاب، ولكنه في الحقيقة حشرة رديئة قذرة، تعاف الأنف رائحتها النتنة. ومن عجيب الشبه بين ( البق الحشري ) ونظيرها ( البق البشري ) أن الأولى من شدة لؤمها وخبثها لا تقرص الناس إلا في الظلام، فإذا جاء الضوء وسطع النور فإنها تسارع بالهرب والاحتماء بجدار الحجرة، أو الاختفاء داخل الشقوق، ومن طباعها أنها تنشط عادة في الظلام، حيث تعجز الأبصار عن إدراكها وملاحقتها، وهذا ما يفعله بالتمام ( البق البشري ) فإنه يترصد الناس في الخفاء ويمارس نشاطه في السر، فإذا ما أنفضح أمره، وانكشف فعله فإنه يسارع للاحتماء بقبيلته، ويعمد إلى الاختفاء لينجو من الملاحقة، أو يهرب إلى خارج البلاد ويطلب اللجوء السياسي. ومن خصائص ( البق الحشري ) أنها لاتحيا إلا في المكان القذر، ولا توجد إلا في الحجرات المغلقة ذات المسالك المسدودة لأن هذه المواضع تلائمها للنمو والتكاثر. وهذا هو حال ( البق البشري ) التي لا تعيش إلا في الأماكن الموبوءة بالفساد، فهي تنمو وتتكاثر في أجهزة الدولة الفاسدة ضمن جماعة منغلقة على نفسها حتى لا ينكشف أمرها. ومن عجيب التوافق بينهما أن وظيفة ( البق الحشري ) في الحياة أنها تمتص دماء البشر، وبالذات فقراء المجتمع، وهو بالضبط ما يفعله ( البق البشري ) الذي لا وظيفة له إلا استغلال فقراء المجتمع وامتصاص دمائهم، ومما ساعد على ذلك وجود فئات طفيلية تحتضنها في بيئة فاسدة، وتربيها في مستنقع آمن تفوح منه روائح الفساد في كثير من أجهزة الدولة ومرافقها ومؤسساتها، فصارت تقتات من الكسب غير المشروع، وتتغذى من عرق الناس وكدحهم، حتى أصبحت لا تعيش إلا على المحسوبية في علاقات العمل، ولاتحيا إلا في ظل الرشوة، ولا يهدأ لها بال إلا باستغلال الوظيفة العامة لابتزاز الناس والاتجار بمصالحهم، وبسبب ذلك انتشرت بعض مظاهر الفساد الإداري، والمتمثلة في سوء استعمال السلطة، والتسيب والإهمال الوظيفي، واللامبالاة في العمل، والتفريط في المصالح العامة، وعدم الحفاظ على الممتلكات العامة، وإهدار الوقت، وشيوع النفاق، وعدم الثقة بين الرؤساء والمرؤوسين، وغياب الشعور بالمسؤولية، واستشراء الأنانية، وسوء القيام بالوظيفة العامة.. ونحو ذلك من الظواهر التي أدت إلى ضعف بعض القيادات الإدارية وقلة فاعليتها، أو انتفاء أدوارها. وليس بخاف أن وجود ( البق البشري ) في أجهزة الدولة كانت له انعكاسات سلبية في علاقات العمل، لعل أبرزها حصر التوظيف على الأقرباء، وتوزيع المهام والصلاحيات على أساس الولاء، وليس على أساس الكفاءة والتخصص والخبرة الفنية والعملية. وعليه، فإن تنظيف أجهزة الدولة من ( البق البشري ) مهم، ولا يقل في أهميته عن تنظيف البيوت الشعبية من ( البق الحشري ).