نبض القلم
يتبادر إلى الذهن ـ أحياناً ـ أن التنمية تعني الزيادة في الشيء، فانصرف الذهن إلى التنمية الاقتصادية دون غيرها من مجالات التنمية الأخرى، وبذلك جعلوا الإنتاج مقياساً للتنمية، وهذا مفهوم قاصر للتنمية لاقتصاره على الجانب الاقتصادي فقط، وإغفاله الاهتمام بالإنسان الذي هو المحور الأساسي للتنمية الشاملة. ومن هنا فإن علماء الاجتماع يخطئون هذا المفهوم، لأن هناك جوانب أخرى لها أهميتها في التنمية الشاملة، منها التنمية الاجتماعية والتنمية الثقافية، والتنمية السياسية.أما التنمية الشاملة فتعني كل عملية تطوير وتغيير للإنسان نحو الأفضل، وتسير به من الحسن إلى الأحسن، وهي عملية مستمرة، وشاملة لقدرات الإنسان ومهاراته المادية والمعنوية، تحقيقاً لمقصود الشارع الحكيم من استخلاف الإنسان للأرض، ضمن تعاون إنساني متكامل، بدءاً من التعاون الاجتماعي في البلد الواحد، مروراً بالتعاون الإقليمي، وانتهاء إلى التعاون الدولي المتكامل، بعيداً عن أي نوع من أنواع التبعية للآخرين. والتنمية بمفهومها العام تهدف إلى تطور الإنسان وتغيير حياته، ولابد أن يراعى فيها مدى قابلية الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك لعملية التغيير، ومدى استطاعته كذلك للقيام بدوره بفاعلية في الإسهام في عملية التغيير والتطوير، وفقاً لقدراته ومهاراته الخاصة، فليس مطلوباً في أية عملية تنموية في أي مجتمع أن يكلف الإنسان بما لا يطيق القيام به، أو يحمل من المسؤوليات أكثر من طاقاته لتحمل أعبائها، فتكليف الناس القيام بما لا يطيقون يؤدي إلى فشل العملية التنموية من حيث يراد لها النجاح. قال تعالى :«لا يكلف الله نفساً إلا وسعها»(البقرة،286).فالناس في أي مجتمع مطالبون بتطوير أنفسهم وبلدانهم، في جميع مجالات الحياة بحسب قدراتهم، وصولاً إلى التغيير نحو الأفضل، فإذا لم يستغل الناس طاقاتهم لإحداث تغيير في مجتمعاتهم فإنهم لن يتمكنوا من تطوير أي جانب من جونب التنمية الشاملة، بل ربما يكون التغيير الذي أحدثوه تغييراً سلبياً، لأنهم لم يستطيعوا تغيير أنفسهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الأنفال، 35). ويقول في آية أخرى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد،11).فالتغيير الوارد في الآيتين الكريمتين ما لم يكن تغييراً غايته التطوير نحو الأفضل والأحسن، فإنه سيكون لا محالة تغييراً سلبياً، لأن الله لا يغير نعمة أنعمها إلى نقمة لها عواقبها، إلا إذا حصل ما يقتضي ذلك، وهو التغيير السيئ في نفوس الناس، لذلك فإن التنمية مشروطة بتغيير النفوس أولاً، وصولاً لتطوير العمل وتغييره من الحسن إلى الأحسن.ومما لاشك فيه أن أية عملية تنموية لابد أن تكون متواصلة ومستمرة، فهي لذلك تأخذ زمناً طويلاً يطول ويقصر على حسب قدرات الناس وعزائمهم، ومدى سعيهم الجاد إلى تحقيق أهداف التنمية في مجتمعاتهم، ولابد أن تكون عملية التنمية هذه مستمرة على مستوى الأفراد والمجتمعات، بحيث تبقى العملية التنموية متواصلة من جيل إلى جيل دون توقف، لأن توقف أي جيل عن القيام بدوره في التنمية سيؤدي إلى إيجاد خلل في العملية التنموية، وهو سيؤدي إلى تخلف المجتمع، وتراجعه الحضاري.والعملية التنموية في أي مجتمع ينبغي ألا تتوقف عند التطوير والتغيير المستمرين في الاتجاه من الحسن إلى الأحسن فحسب، بل لابد أن يضاف إليها ميزة أخرى وهي الشمولية، أي أن تكون عملية التنمية شاملة، تستغل فيها قدرات الناس جميعهم، وتسخر إمكانياتهم المختلفة لإحداث تغيير وتطوير في مجالات الحياة المختلفة، بحيث تشمل جميع المجالات، ولا تقتصر على مجال واحد دون سائر المجالات.ومن البدهي أن أية عملية تنموية وما ينجم عنها من نهوض حضاري تحتاج إلى رعاية لضمان استمراريتها، كما تحتاج إلى أن يتولى ولاة الأمر في هذا المجتمع أو ذاك تبني المشروعات التنموية ورعايتها وحث الناس على القيام بها، ولابد أن تكون رعايتهم شاملة لمجالاتها المختلفة، بحيث لا تكون مقصورة على قطاع على حساب القطاعات الأخرى، وبالتالي لا يكون نفعها لفئة بعينها دون الفئات الأخرى.وتتطلب عملية التنمية الشاملة في أي مجتمع تعاون أفراده جميعهم، وتستوجب تضامنهم فيما بينهم وصولاً إلى تحقيق المشروعات التنموية جميعها، امتثالاً لقوله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» (المائدة،2).ولا بد أن يراعى في العملية التنموية في بلادنا خصوصية كل محافظة وحاجاتها ومتطلباتها، وما تمتاز به من موارد وتراث ثقافي واجتماعي، وما لديها من خصائص محلية، وصولاً إلى تنمية شاملة، والنهوض بالإنسان بدرجة أساسية، فهو محور التنمية الشاملة.*خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان