يزعم بعض النقاد العرب الحداثيين - إن عن حسن نية؛ بسبب عدم الاستقراء الدقيق للنصوص، وإن عن تجاهل متعمد : أن فكرة (تعدد القراءات) أو فكرة تعدد الدلالات في النصوص، هي فكرة جديدة على النقد العربي، وهي من فتوحات النقد الحداثي وما بعد الحداثي.يقول كمال أبو ديب، أحد كبار نقاد الحداثة - متحدثًا عن تعدد دلالات النص: (إنها خصيصة خرجت على وحدانية البعد، ووحدانية المعنى في التراث الشعري، وأسست التعدد بدلاً من الوحدانية جذرًا للفاعلية الشعرية، وينبوعا من ينابيع الرؤيا الحديثة للعالم)[1].وهذا كلام من أعجب العجب؛ إذ هل يعقل أن يكون ناقد كبير بحجم (كمال أبي ديب) جاهلاً وجود عشرات النصوص في التراث النقدي العربي التي تتحدث عن تعدد دلالات النص الأدبي عامة، والنص الشعري خاصة؟! ها هو ذا القاضي الجرجاني في كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) ينص صراحةً في موطن تأويله لبعض شعر أبي الطيب: (أن باب التأويل واسع، والمقاصد مغيبة)[2]. ويقول ابن الأثير في (المثل السائر): (إن باب التأويل غير محصور..)[3].ويتعمق ابن رشيق في هذه القضية أكثر، فيشير إلى ظاهرة تعدد القراءات، وإلى غنى النصوص الشعرية خاصة بالدلالة؛ مما يفتح الباب في تأويلها واسعا، ويؤسس ثقافة التعدد، وبدلاً من الوحدانية التي ينفيها (أبو ديب) عن التراث، ويجعلها من ينابيع الرؤيا الحديثة للعالم.يقول ابن رشيق في باب يسميه أصلاً (باب الاتساع):(وهو أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى)[4]. ثم يبين ابن رشيق في العبارة السابقة نفسها أسباب هذا الاتساع، فيقول: (وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ وقوته، واتساع المعنى).وتتجلى ملامح هذه القضية بعد ذلك كثيراً في أجيج الخصومة النقدية، التي شبت حول أبي تمام؛ إذ اتسع مجال القول في معاني الطائي بسبب ما اتسمت به من عمق وغموض؛ مما فتح باب التأويل فيها، وفهم دلالاتها، على مصراعيه).يقول التبريزي عن بعض أبيات أبي تمام: (ربما احتمل البيت معنيين، ويكون أحد المعنيين أقوى من الآخر، فلا يميز بينهما إلا من حسن فهمه، وصفا ذهنه؛ لأن نقد الشعر أصعب من نظمه)[5]. ولو مضى الباحث يستقصي ما ورد في نقدنا العربي القديم من نصوص واضحة الدلالة حول وجود هذه الظاهرة (ظاهرة تعدد القراءات)، واتساع الدلالات في النصوص الأدبية - لملأ في ذلك الصفحات. إن هذه ظاهرة متأصلة في التراث الأدبي والنقدي، ولم تكن في انتظار فتوحات الحداثيين حتى تخرج إلى النور، وكم بنيت كثير من خلافات اللغويين والنقاد والفقهاء والأصوليين على سبب اختلاف التأويل، والاتساع في تغير النصوص، من منطلق الإيمان بأن النص العظيم الرائع غني بالدلالة، مكتنز بالمعاني، وقد قال علماؤنا عن القرآن الكريم - هذا الكتاب البلاغي المعجز -: (إنه حمال أوجه)؛ مشيرين بذلك إلى الثراء اللغوي الذي يحمله نظمه، فيجعله منفتحاً على أفق رحب من التفسير والتأويل على أيدي العالم البصير الذي يستطيع استنباط ذلك، والوقوع عليه في ضوء ما تحتمله لغة النص قبل كل شيء. [c1] تعدد الدلالات في النصوص:[/c]أدرك النقد العربي منذ فترة مبكرة - ومن قبل أن يصبح ذلك (تقليعة) يتناقلها اليوم نقاد الحداثة وما بعد الحداثة - أن النص الأدبي غني بالدلالات، وأنه من أجل ذلك قد يحتمل وجوها متعددة من التأويل، وقد يتسع فيه مجال التفسير والقراءة، وإبداء الرأي.جاء في (الوساطة) في نقد علي بن عبدالعزيز الجرجاني لبيت أبي الطيب المتنبي: [c1] ما بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي [/c]قوله: (فختم القول بأنه لا شرف له بآبائه، وهذا هجو صريح، وقد رأيت من يعتذر له فيزعم أنه أراد: ما شرفت فقط بآبائي؛ أي: لي مفاخر غير الأبوة، وفي مناقب سوى الحسب، وباب التأويل واسع، والمقاصد مغيبة، وإنما يستشهد بالظاهر، ويتبع موقع اللفظ)[6].وأورد ابن رشيق بيت امرئ القيس في وصف فرسه:[c1]مكر، مفر، مقبل، مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل [/c]تحت ما سماه (باب الاتساع)، فذكر أكثر من تفسير له، ثم عقب على ذلك هذا التعقيب الذكي، فقال: (يقول الشاعر بيتا يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى)[7]. وزاد البغدادي في (خزانة الأدب) على ما أثبته ابن رشيق من توجيهات لبيت امرئ القيس، ثم علق على ذلك قائلاً: (هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل، وإنما الكلام إذا كان قويا من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل؛ بحسب ما تحتمل ألفاظه، وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه)[8].[c1]التأويل وقصد المتكلم[/c]ولكن النقد العربي - كما هو واضح - يحترم النص ودلالاته اللغوية، وذلك مقدم عنده على ما يسمى بـ(مقصدية المؤلف).وها هو ذا الآمدي - صاحب كتاب الموازنة بين الطائيين: أبي تمام والبحتري - يرد على تهمة وجهها إليه أنصار أبي تمام؛ إذ رموه بأنه لم يفهم ما قصده شاعرهم من كلامه، ولم يدرك ما رمى إليه في قوله:[c1] الود للقربى ولكن عرفه [/c]للأبعد الأوطان دون الأقرب فأبو تمام الذي نقده الآمدي بأنه قد نقص الممدوح برتبة من الفضل، وجعل وده لذوي قرابته، ومنهم عرفه، وجعله في الأبعدين دونهم لم يفهم - في زعم ناقديه - كلام أبي تمام، فأبو تمام أخرج أقاربه من المعروف؛ لأنهم في غنى وسعة. يرد الآمدي على هؤلاء الناقدين قائلاً: وكيف يعلم أنهم أغنياء، وليس في ظاهر لفظ البيت دليل عليه، قال: نوى وأراد، قلت: ليس العمل على نية المتكلم، وإنما العمل على ما توجبه معاني ألفاظه، ولو حمل كلام كل قائل، وفعل كل فاعل على نيته، لما نسب أحد إلى غلط ولا خطأ في قول ولا فعل، ولكان من سدد سهما وهو يريد غرضا فأصاب عين رجل فذهبت، غير مخطئ؛ لأنه لم يعتمد إلا الغرض، ولا نوى غير القرطاس”[9]. وهي عبارة تستنبط منها - على وجازتها - مجموعة من الأحكام التي تتعلق بتأويل الكلام أو تفسيره، منها:1 - أن النص وحده هو المخول بإعطاء الدلالة، وفرز المعنى المراد، ومنه وحده تستنبط الأحكام، وتستخرج المفاهيم، وبذلك يحتفظ النص - بما تعطيه معاني ألفاظه - بهيبته ومكانته وسلطانه، ولا يعتدي عليه معتد.2 - أن فكرة (أن المعنى في بطن القائل) - كما يقول بعضهم - غير صحيحة؛ لأن الناقد لا يعول على نوايا المتكلم، وهو غير قادر على ذلك أصلاً: لا شرعاً ولا عقلاً؛ فالنيات لا يعلمها إلا علام السرائر، والناقد ليس عرافاً ولا قارئ فنجان، وإنما هو متلق يقوم بنشاط عقلي منطقي تمليه لغة النص الذي أمامه، وطبيعة ألفاظه وعباراته، تمليه - كما يقول الآمدي - (معاني ألفاظ المتكلم). وهذا عندئذ يلغي فكرة (مقصدية المتكلم)، ويحيل على مقصدية النص، ويعطيه السلطان على نحو ما فعلت البنيوية بعد ذلك بقرون. وها هو ذا عبدالقاهر الجرجاني يؤكد في نص بالغ الدلالة أهمية مرجعية النص، وأن احتمالية ألفاظه هي الأساس في كل ما يذهب إليه المؤول، أو يعدل إليه المفسر، وهو ينعي على قوم يفرطون في التأويل، والتكثر من التماس دلالات متعددة من النص من غير سند لفظي في النص يرشدهم إلى ذلك. يقول عبدالقاهر: (إن الإفراط هو ما يتعاطاه قوم يحبون الإغراب في التأويل، ويحرصون على تكثير الموجود، وينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يعدل به عن الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقله من المعاني)[10]. 3 - أن سلطان القارئ إذن أو سلطان المتلقي - خلافًا لما يقوله التفكيكيون وأصحاب نظرية التلقي - منضبط بالنص المقروء، محكوم بدلالة ألفاظه، ومعاني عباراته، وليس سلطانًا مطلقًا، يجعل هذا القارئ يؤول النص كما يشاء، أو يقرؤه على هواه، حتى ليقوله ما لم يقل، أو ينطقه بما لم ينطق.4 - وعبارة الآمدي النقدية البليغة لا تنكر ما يمكن أن يحمله النص من دلالات متعددة، أو توجيهات مختلفة، ولكنها - مرة أخرى - تجعل ذلك نابعاً من النص ذاته بما فيه من إمكانات، وبما يفرزه من المعاني والأفكار، وليس بما يحمل عليه حملاً، أو يكره عليه إكراهاً، استجابةً لسلطان زاعم أن القارئ وحده هو الذي يمتلكه. إن الصيد في جوف النص، والقارئ يستخرجه، ولن يستطيع أن يستخرجه - دائماً - أي قارئ، بل القارئ الدرب المتمرس، وبذلك نحترم طرفين من أطراف معادلة العملية الأدبية، هما النص والقارئ، ولا نستهين بأحدهما أو نسقطه؛ انحيازاً للطرف الآخر.5 - وأخيراً: فإن الاحتكام إلى النص لا يعني تجريده - كما يفعل البنيويون - من كل خارج: كالمجتمع، أو التاريخ، أو السيرة، أو ما شاكل ذلك؛ لأن هذا الخارج قد يكون في أحيان غير قليلة جزءًا من الداخل، وقد تكون (معاني ألفاظه) التي يحيل عليها الآمدي محكومةً بهذا الخارج، بل آخذةً أبعادها الحقيقية من خلاله، فقد يكون - وما أكثر الأمثلة على ذلك - هذا الخارج هو الذي شكلها على هذا النحو أو ذاك، فأصبح جزءاً من دلالتها. وها هو الآمدي نفسه الذي يحيل على سلطان النص، وما توجبه معاني ألفاظه، يحيل في شعر أبي تمام نفسه إلى هذا الخارج، ويوضح أن التقاط معاني الألفاظ قد لا يتضح إلا بمعرفة هذا الخارج. يورد الآمدي بيت أبي تمام:[c1]تسعون ألفًا كآساد الشرى نضجت [/c]جلودهم قبل نضج التين والعنب وهو بيت عابه بعض النقاد، ومنهم أبو العباس، واستنكروا إيراد هاتين الفاكهتين، فيقول الآمدي مدافعا عن البيت، مبينا ارتباط اللفظ المعين بخارج معين: (لهذا البيت خبر لو انتهى إلى أبي العباس لما عابه)[11]. ومن الواضح أن هذا النقد التراثي - وهو يتحدث عن هذه الظاهرة، فيشير إلى وجودها ويؤصل لها - لا يغفل عن أن يضبطها، فيضع لها قواعد دقيقة؛ حتى لا تكون فوضى أومشاعاً لكل قارئ.إن للتأويل ضوابط، من أهمها ضابطان:1 - احتمالية لغة النص لما يراد توجيه المعنى إليه.2 - العالم الحصيف المميز.إن سلطان المؤول، أو القارئ - إذاً - ليس عليه سلطاناً مطلقاً كما أشاع ذلك التفكيكيون، أصحاب نقد ما بعد الحداثة اليوم، حتى تحول تأويل النصوص - حتى ما كان منها سماويا مقدساً - إلى لعبة يمارسها كل قارئ بحجة ما سموه (سلطان القارئ) أو (نظرية التلقي)، وما شاكل ذلك من المصطلحات البراقة.إن النصوص الأدبية العظيمة متسعة الدلالة حقا، ولكن استخراج هذه الدلالات الكثيرة مشروط بجملة من الشروط، من أهمها ما أشرنا إليه.يقول الإمام الغزالي - رحمه الله - في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ذاكراً أبرز قواعد التأويل:(معرفة ما يقبل التأويل وما لا يقبل التأويل ليس بالهين، بل لا يستقل به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة، العارف بأصول اللغة، ثم بعادة العرب في الاستعمال: في استعاراتها، وتجوزاتها، ومنهاجها في ضرب الأمثال)[12].المراجع[1] (جدلية الخفاء والتجلي): صـ244.[2] (الوساطة): صـ374.[3] (المثل السائر): 3/ 112.[4] (العمدة): 2/ 93.[5] (ديوان أبي تمام): 1/ 2.[6] (الوساطة): 374.[7] (العمدة): 2/ 84.[8] (خزانة الأدب): 3/ 144.[9] (الموازنة): 1/ 179 - 180.[10] (أسرار البلاغة): 343.[11] (النظام)، لابن المستوفي: 2/ 64.[12] (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة): صـ199 (ط القاهرة، تحقيق سليمان دنيا).
|
ثقافة
من ضوابط قراءة النصوص في النقد العربي
أخبار متعلقة