المستشرق اليهودي الدكتور إسرائيل ولفنسون
بتاريخ 20 يونيو سنة 1927م يقدم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين المستشرق اليهودي الدكتور إسرائيل ولفنسون إلى جمهرة أهل الثقافة وطلاب العلم في جامعة مصر، بأنه عالم شاب اقبل إلى مصر بعد ان تملك عدة معارف ثقافية فهو قد أجاد من اللغات الغربية أرقاها وما يتصل منها في عالم البحث العلمي والدراسات التاريخية، وبالذات فيما يتصل بالمسائل الشرقية العربية، كذلك من اللغات السامية ومنها العربية، أغناها بالأفكار والآثار القيمة من الدين والأدب والتاريخ والعلم.يقول الدكتور طه حسين: (لم تقف ثقافته عند إتقان هذه اللغات بل درس من آدابها حظاً موفوراً فكان له مزاج معتدل من هذا القديم السامي والجديد الأوروبي يعده أحسن إعداد لتناول المسائل التاريخية والأدبية الرقيقة إذ تهيأت له مناهج البحث كما ألفها علماء أوروبا في هذا العصر الحديث وما هو إلا أن انتسب إلى الجامعة المصرية القديمة واختلفت إلى أساتذتها يسمع دروسهم ويعمل معهم حتى تهيأ له من ذلك ما كان يجب.ولقد كان يختلف إلى دروسي في التاريخ القديم فكان يعجبني منه ميل ظاهر إلى البحث، وحرص شديد على الإجادة والإتقان، ونشاط غريب إلى القراءة والاطلاع، وكنت أرى فيه عناية خاصة بكل ما يتصل باليهود في عصور السيطرة اليونانية والرومانية على العالم القديم فرأيت أن أوجه بحثه هذه الوجهة وأشجعه على المضي فيها.ولست أنسى محاضرات تمرينية ألقاها في مثل هذه الموضوعات تركت في نفسي أحسن ما تترك أعمال التلميذ المجد في نفس أستاذه من الأثر.ثم ظفر بشهادة الليسانس في الآداب من الجامعة القديمة وأخذ يستعد لشهادة الدكتوراه فلم يرقه من المباحث التي كانت تثار في الجامعة على كثرتها إلا هذا المبحث الذي يتصل دائماً باليهود، وهو تاريخ اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وإبان ظهوره).يأتي كتاب الدكتور إسرائيل ولفنسون (تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام) والذي صدرت منه طبعة عن دار مكتبة النافذة في القاهرة عام 2006م، في إطار البحث التاريخي الذي قدم في هذا الاتجاه دراسات تعد من مصادر المعرفة لهذا الجانب من تاريخ العلاقة بين اليهود والعرب.هذه الدراسة والتي تعود إلى عقود خلت، يجب أن ينظر إليها في إطار الفترة الزمنية التي جاءت بما فيها من معارف، ففي هذا السير العلمي، توسعت الدراسات وقدمت البحوث ما تجاوز هذه الرؤية ما بين إضافة ونقد، لأن كشف التاريخ ليس له حدود معرفية، بقدر ما يتواكب مع تقدم مستويات الجوانب العلمية التي توسع مقدرة النظرة والقراءة عند مسافة الفكر، فلا تجعل من السابق درجات قاطعة ولا من الراهن المقصد المطلق، بل هي عملية إدراك موضوعي تتعامل مع المعلومة والعقل من مدارك التواصل الحضاري الذي لا يمكن نفيه خارج مكونات الوجود السابق والراهن والقادم.من الأفكار والمعارف المقدمة في مؤلف الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه، ما يسعى إليه في معرفة تاريخ اليهود في الجزيرة العربية، فهو يذهب إلى تتبع تاريخ اللغات والأديان والقبائل والأحوال العامة، وهذا ما دفع به إلى تقديم جهد الباحث في خدمة العلم.يقول في تصدير كتابه: (إن للبحث في تاريخ يهود الجزيرة العربية أهمية عظيمة في حل المشكلات التي يتخبط فيها كثير من الناس وإماطة اللثام عن لهجات العرب ودياناتهم وعاداتهم لما بين اليهود والعرب من رابطة الدم، ولما بين اللغة العبرية واللغة العربية من التشابه والاقتراب.ومع أنه قد وجدت أمم سامية قبل بني إسرائيل بالآلاف من السنين فإن الباحثين يرون في اللغة العبرية وآدابها مقياساً صالحاً للبحث في جميع اللغات السامية، إذ كان بنو إسرائيل أقدم أمة سامية تركت ميراثاً روحانياً عظيماً في الأدب والدين يعتبر أكبر مجموعة قديمة من أثر القريحة السامية، لان الذي وصل إلينا من آثار البابليين والأشوريين والآراميين ضئيل جداً بالقياس إلى ما وصل إلينا من تراث بني إسرائيل.على أن اللغة العبرية من أمهات اللغات السامية، فقد كانت شائعة قبل نشوء بني إسرائيل وظهورهم في العالم إذ كانت لغة أهل فلسطين الكنعانية ولغة كثير من القبائل في طور سيناء وشرق الأردن، وكان من أهم تلك الأمم بنو آدوم وعمون وموآب وقبائل عماليقية ومديانية وإسماعيلية، ثم ظهرت بطون بني إسرائيل بين هذه الأقوام في طور سيناء وأطراف الحجاز وانتشرت منها إلى الأقاليم الأخرى وبقيت هذه اللغة صاحبة السلطان والنفوذ مدة طويلة إلى أن ظهر تأثير إحدى اللهجات الكنعانية وهي الآرامية، فأخذت اللهجات العبرية والكنعانية الأصلية تضمحل بطون التغييرات السياسية على أن أصبحت أغلب بطون فلسطين وسوريا والعراق وطور سيناء تتكلم باللهجات الآرامية.ثم أخذت هذه اللهجات في القرون الأولى ب . م، تتدهور تدريجياً في أطراف الجزيرة العربية وأخذت تنكمش وتتضاءل أمام اللغة العربية التي كانت في ذلك الحين تمتد وتنتشر بسرعة حتى اضطرت بعض القبائل الآرامية والعبرية إلى ان تختلط بالعنصر العربي الأصلي وتندمج فيه شيئاً فشيئاً ).مما يورده الدكتور إسرائيل ولفنسون من أبحاث في كتابه، ظهور اليهودية في بلاد اليمن. فقد أوضح بأن الديانة اليهودية لم تعتمد العصبية اليهودية، وسبب ذلك، أن الأغلبية التي تكون منها أنصار هذا الدين كانوا من أهل اليمن، سكان البلاد.أما اقوال من دون التاريخ في هذا الجانب فقد سادها الاختلاف في أسباب ظهور هذا الدين في ربوع حمير، هناك منهم من قال أن ظهور اليهودية كان لحالة الصراع العنيف الذي جرى بين اليهودية والنصرانية تغلبت فيه الأولى على الأخرى في بادئ الأمر. وطائفه أخرى تعترف بأن للعامل الديني منزلته في هذا، غير أنها تصنع الباعث السياسي في صدارة الأسباب، وفي ذلك وجهة نظره تشرح، بأن ملوك الدولة الرومانية الشرقية بعد أن توسعوا في الأقاليم المحاذية لجزيرة العرب، تأهبوا لضم أطرافها إلى سيادة أملاكهم فكان مما سلكوا من سبل سياسية متزنة في العمل، إرسال عدة وفود من الرهبان إلى بلاد العرب لينشروا تعاليم الدينية المسيحية بين سكان الحضر والبادية من جهة ومن جانب يرسوا في عقول ونفوس العامة قبول التسلط السياسي الروماني غير أن ملوك حمير قد أدركوا الهدف من هذا الفعل وما يأتي على كيانهم من خطر شديد، فما كان معهم سوى إحباط ذلك المسعى والقضاء عليه فهداهم فكرهم إلى اعتناق الديانة اليهودية حتى يقاوموا ديناً توحيدياً بدين توحيدي آخر.وقد أصاب ملوك حمير في هذه الفكرة كل الإصابة لأن دخولهم اليهودية اسقط كل الحجج التي استند عليها ملوك الدولة الرومانية الشرقية في بسط دعوتهم السياسية وغابت العوامل التي يدفعونها إلى عقول أفراد العامة.على ان هنالك عاملين آخرين لظهور الديانة اليهودية في بلاد اليمن لم يصرح بهما المؤرخون، وقد ذكرهما الباحث قائلاً: (إن ملوك حمير لم يخشوا على أنفسهم من اعتناق اليهودية ان تتسلط عليهم دولة ذات سلطان كبير ونفوذ واسع، ولم يكن لليهودية في ذلك العصر دولة سياسية في حين ان النصرانية كانت تعتمد على الدولة الرومانية الشرقية الطامعة في فتح بلادهم.ومن هنا نفهم السر في مقاومة الرهبان واضطهاد أهل نجران والنفور من الحبشيين لأنهم جميعاً كانوا آلة في أيادي السادة من ملوك قسطنطينية.الثاني: وله أثر كبير في انتشار اليهودية في بلاد اليمن ـ وهو ان تعاليم الديانة اليهودية ومبادئها أقرب إلى عقلية العرب من الديانة المسيحية التي كانت تستمد يومئذ بعض تعاليمها من الفلسفة اليونانية.ومع أنه كان هناك في شمال الجزيرة العربية قبائل عربية اعتنقت الديانة المسيحية فإني اعتقد أن النصرانية كما كان اليونان وغيرهم يفهمونها لم تتغلب في وقت ما على النفوس العربية بدليل إن البطون العربية المسيحية دخلت في الدين الإسلامي بعد اتصالها بجيوش الخلفاء الراشدين بلا كبير مقاومة في حين كان اليهود في شمال الجزيرة العربية وجنوبها يدافعون عن الديانة اليهودية دفاعاً شريفاً.فيقاتلون جيوش الحبشة في اليمن قتالاً شديداً رغم ما كانت عليه هذه الجيوش من قوة البأس وكثرة العدد اللتين بواسطتهما فقط استطاعت أن تظهر على اليهود وأن تفرقهم وتمزقهم).وتظل مسألة ظهور الديانة اليهودية في أرض حمير موضع جدل علمي، فمن علماء التاريخ من يعود بها إلى القرن الأول قبل الميلاد وهو زمن ظهور الدولة نفسها، ولكن هناك فريقاً آخر منهم يعارض هذا الرأي ويقول: (لو صح هذا الحدس لكان المؤرخ اليهودي يوسف قد تكلم عن هذه الدولة اليهودية كما ذكر ظهور دولة ارامية متهورة على أطراف نهر الفرات النائية عن فلسطين وهي دولة حديب).وهناك من يقول حول هذا الاتجاه، بأن ظهور اليهودية في اليمن لم يسبق القرن الثاني بعد الميلاد، غير ان المؤرخ اليهودي شيفر لا يوافق على صحة هذا الرأي ويقول: (لو وجدت هناك دولة يهودية في القرن الثاني بعد الميلاد لكان التلمود يملأ صحائف غير قليلة بذكر اخبارها وسرد الأساطير عنها فسكوت التلمود عن هذه الظاهرة التاريخية أعظم دليل على عدم وجودها في قرون تأليفه).وقد نشر العالم برون مقالة بحثية في المجلة الآسيوية الفرنسية عام 1838م، ناقض فيها تلك التصورات حول ظهور اليهودية في اليمن وقال: (إن دولة حمير اليهودية لم تظهر إلا في القرن الخامس بعد الميلاد) وسنده في ذلك ما ذكره المؤرخ العربي الطبري صاحب كتاب (تاريخ الأمم والملوك) 923هـ حول ذلك يقول برون: (إن احيحة الذي قاتل تبان اسعد أبي كرب ملك حمير وصاحب الدعوة اليهودية طلق زوجه سلمة فذهبت إلى مكة حيث تزوجت من هاشم أبي عبدالمطلب جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على ان مقاتلة تبان أسعد لاهالي يثرب إنما كانت حوالي نهاية القرن الخامس بعد الميلاد).ما ذكره الطبري من أنه كان لتبان اسعد بنون ثلاثة هم حسن وعمرو وذرعة، وحسب ما جاء في رواية ابن هشام بان ذرعة هو ذو نواس آخر ملوك حمير، فمن كل هذا تكون تلك الدولة قد ظهرت قبل القرن الخامس بعد الميلاد.يناقش الدكتور إسرائيل ولفنسون ما طرح من اجتهادات علماء التاريخ قائلاً: (لا شك ان حجة برون أمتن وأصح من نظريات غيره ممن ذكرناهم بيد أن هذه الحجة لا تنتج الجزم القاطع لأنها مبنية على أقوال ليست محل ثقة تامة لأن هناك شكاً في بعض الحوادث التاريخية التي ذكرناها.أما أنا فأرجح أن ظهور اليهودية في بلاد اليمن قد حدث قبل تبان أسعد إذ من الصعب أن نقتنع بأن قيلاً واحداً يستطيع أن يرغم اقيال حمير على اعتناق دين جديد دون أن يحدث ذلك فتناً داخلية وان عدم وجود معارضة للدين اليهودي ليدل على أنه كان هناك أناس من ذوي النفوذ السياسي سمحوا للديانة اليهودية التوحيدية أن تتسرب إلى اليمن وتركوها تنتشر شيئاً فشيئاً، أو ساعدوا على انتشارها بين الشعب من قبل أن يعلن تبان أسعد أنها صارت دين البلاد.على أن المعقول أن يكون اليهود قد وجدوا في تلك الإرجاء منذ أزمان بعيدة إذ لا يمكن أن يكون اليهود انتشروا في بلاد الحجاز في حين لا يكون منهم أحد في بلاد اليمن لاسيما وعدد كبير من اليهود تجار دأبهم التنقل والارتحال لتبادل البضائع في مختلف البلدان فلا بد أن تكون هناك جموع يهودية قد وصلت إلى ثغور اليمن وحضرموت ثم توغلت إلى الداخل شيئاً فشيئاً.وقد أثبت العالم جلازر، وجود اليهود في اليمن وحضرموت منذ عصور كثيرة قبل ظهور الإسلام، إذن فهؤلاء اليهود هم الذين انبتوا النبات في النفوس وتعهدوه حتى ترعرع ثم تأصلت جذوره وظهر الميل عند قيل أو عدة اقيال لاعتناق اليهودية كما اعتنقت بطون عربية الديانة المسيحية بسبب نفوذ الرهبان وانتشار الدعوة إليها تدريجياً، وقد كانت هناك جموع من العرب المتهودة وهي بطون كنانة وبني الحارث بن كعب وبني كندة سكنوا جميعاً بجوار مكة.وقد يكون في حكم الممكن انه بعد ان قفل تبان اسعد راجعاً من يثرب جمع الاقيال المتهودة وكون فيها دولة حميرية يهودية لصد هجوم الدولة الحبشية وسد السبيل في وجه مطامعها لمنع انتشار النصرانية التي كان ملوك الروم يتوسلون بها إلى تنفيذ مطامعهم الاستعمارية).يذكر علماء التاريخ بان ما جرى لليهود في أرض حمير قد جاء بنتائج سيئة ما كان لها أن تحدث إلا بفعل ما جرى.ولعل أهم ما صار ونتج عنه تحمس العناصر النصرانية والتي كانت تجد في مناصرة الدولة الرومانية ضد الديانة اليهودية كي يهدم كيانها والقضاء على تجمعاتها في مناطق من الجزيرة العربية، وقد كانت القبائل العربية في تلك الحقب التي ظهرت فيها اليهودية في بلاد اليمن وانتشرت بين أهلها، فكانت لا توجد صراعات بين اليهود وأهل الحضر والبادية ولم تمس حاجاتهم مما كان لهم في تلك الأصقاع.ومن الجوانب التي يبحث فيها الدكتور إسرائيل ولفنسون الأدب في العصر الجاهلي وما حظ الإسهام اليهودي فيه، وما ضاع منه وما بقي محفوظاً في الذاكرة.وهنا يطرح وجهة نظر الدكتور طه حسين ويناقش ما جاء فيها من أفكار قائلاً: (يقول أستاذي الدكتور طه حسين: أما أثر اليهود الأدبي فيسير الفهم لأننا نعلم كيف تؤثر هذه الحركات في العقول ولا سيما عند العرب ونزيد على أثرهم العقلي أنهم كانوا بعدائهم للانصار ومحاربتهم إياهم شؤماً على الأدب العربي وسبباً في ضياع الكثير منه واختراع الكثير.ويصل الدكتور بعد بحث طويل إلى ثلاث نتائج خطيرة من أثر اليهود.أن لليهود في الأدب العربي أثراً كبيراً جني على ظهوره ما كان بين العرب وبين اليهود.أن اليهود قالوا كثيراً من الشعر في الدين وهجاء العرب وقد أضاعه مؤلفو العرب.أن اليهود انتحلوا شعراً لإثبات سابقتهم في الجاهلية على لسان شعرائهم وشعراء العرب.والذي حملني على أن اثبت بعض نظريات أستاذي الدكتور طه حسين بصدد شعراء يهود الجاهلية هو:أني قد جمعت كل ما ينسب إلى شعراء اليهود في الجاهلية ولم أجد فيه فرقاً ظاهراً يميزه عن بقية الشعر الجاهلي في حين أن هناك فرقاً شاسعاً لا يخفى بين اليهود والعرب من وجهة الدين والعقلية واتجاه الأفكار.لا شك في أن اللغة العبرية تركت في إشعارهم آثاراً ظاهرة وخصوصاً فيما يتعلق بالشعر الديني فقد كانت النزعة الدينية قوية في نفوس يهود الحجاز فليس ممكناً أن لا يوجد هناك شعر ديني يمجد التوحيد وآل موسى وأنبياء بني إسرائيل ويحط من قمية الأصنام وعبادتها لان مثل هذا النوع قد ظهر في الأدب اليهودي في كل عصوره القديمة.أن الذي يمعن نظره في قصائد السموءل يتضح له جلياً انه قد طرأ عليها كثير من التقلبات والتغيرات حتى ليتعذر على الباحث أن يميز القديم منها والحديث أو يفرق بين الصحيح والمنتحل.هذا إلى أن الأبيات القليلة التي وصلت إلينا من شعر اليهود لا تكفي لتخليد أسماء شعرائها مما يجعلنا نجزم بأنه قد كان هناك شعراء مجيدون ولكن ضاع شعرهم ولم يبق لهم منه إلا أسماؤهم كأنها صدى ما كان لهم من شهرة وبعد صوت.إذا كان العرب أنفسهم لم يستطيعوا أن يحافظوا على شعر آبائهم وأجدادهم مع أنهم ظلوا كما كانوا عليه لم يصبهم شيء سوى تغيير العقيدة فبقيت لهم لغتهم وتقاليدهم فكيف كان من الممكن أن تحتفظ بشعرها أمة غلبت على أمرها حتى فني منها من فني وهاجر منها من قدر له أن يعيش ولكن في غير البلاد التي نشأ فيها واطمأن إليها وضاعت وراثتهم الروحية ولم يبق لهم ذكر في البلاد العربية).في الفترة التي ظهرت فيها هذه الدراسات عبر هذا المستشرق، كانت رؤية تحسب على عقلية الفكر اليهودي القادم من مدارس الاستشراق في الغرب، ومن قواعد علمية لا تنفصل عن مسارات الصراع بين هيمنة العالم العربي على الشرق العربي الذي شهد في حينها تصاعد الفكر القومي العربي امام المد الاستعماري، وبقدر ما أسهمت دراسات الدكتور إسرائيل ولفنسون في البحث عن تاريخ اليهود في المنطقة، تظل هناك حلقات في مسار الموضوع تتطلب إخراج المزيد من المعارف في هذا الجانب.فحدود الهوية لا تشمل كل من عاش على مساحة من الأرض، ففي أحيان وإفرازات حضارية تتحول العقيدة والطائفة والقبيلة إلى كيان سياسي تشكل عملية البحث في تاريخه بداية خلق مشروع متكامل من هذا الانقسام.وقد أدركت العقلية اليهودية أن التاريخ ليس مجرد تراكم للأحداث، ولكنه صناعة لا تقف عند خطوط إعادة الكتابة، بل هو الدخول في مواجهات مع حقائق وأفكار وقيادة الصراع مع الشعوب وتحدي على الواقع تتحكم فيه سياسة قد عرفت أن مساحات التاريخ هي لعبة الأمم والانتماء لا يكون إلا لو عرف الفرد على أي مسافة يلتقي العقل مع القوة.