حسين صالح شهاب
د. أحمد صالح رابضة منذ أن ظهر كتاب صديقنا الكبير الباحث والمؤرخ البحري حسن صالح شهاب رحمة الله عليه (العبادل سلاطين لحج وعدن) أمدني الله بتعليق ظريف عن هذا الظهور، بل عن هذا الخروج من البحر، وما تلاه من كتب أخرى، فقلت: لقد خيل إلي أن أستاذنا وصديقنا قد ألقى عصا تسياره أو ترحاله في البحر فجأة وبغتة، ووقف وقفة إعياء ومشقة، وأن لا عودة له إلى البحر كرة أخرى ـ على غالب الظن ـ وعلم بتعليقي فقال ما مفاده: أنا لا أبالي بطنين أجنحة الذباب،سامحني وسامحه الله، وسأظل أمخر العباب حتى ألفظ أنفاسي الأخيرة فما يقول هذا الصديق إلا وهماً تسرب إلى ذهنه ليس إلا.وواقع الحال، أن الأستاذ حسن قد انصرف عن البحر وأهواله بالفعل، بعد أن ولج باب التاريخ ومجريات أحداثه.لقد ألف كثيراً، وحقق كثيراً، وصال وجال في علوم البحار حتى كاد يغدو من كبار علماء البحار في الوطن العربي كله، وهو لم يجلس على مقاعد الدرس الأكاديمي.لقد كان أول لقائي به في مطالع الثمانينيات، حينها طلب مني الأستاذ علي عقيل بن يحيى مدير عام مركز الابحاث الثقافية والآثار والمتاحف بالوكالة حينها ان انتقل من سلك التربية والتعليم إلى المركز للمشاركة في مجال الابحاث، وإصدار مجلة التراث، وحرر رسالة في هذا الصدد إلى وزارة التربية والتعليم، انتقلت بموجبها إلى المركز .. كان الأستاذ حسن وقتئذ هو الباحث والمؤرخ الوحيد صاحب النتاجات المتميزة، وإن قلت، وكان مديراً لدائرة التوثيق .. وكان مقبلاً على عمله، منقطعاً إليه، لا تراه إلا باحثاً مستقصياً .. وهو أول الطارقين باب المركز عند إشراقة الصباح الباكر.وعادة ما أجلس إليه وأحاوره في المعالم والمآثر وقضايا التاريخ بعامة .. لقد كان كتابه (أضواء على تاريخ اليمن البحري “1”) باكورة مصنفاته في تاريخ اليمن البحري، الذي استهله بالقول: (جاء هذا الكتاب في طبعته الأولى كالبسرة التي انتزعتها العاصفة قسراً من قنو العرجون، فهوت إلى الأرض قبل أن تدرك ..) ومع أهمية الكتاب وجودة مضامينه، فإن أستاذنا الفاضل استشف فيه قصوراً، أما نحن فما نعرف وجهاً يفسر ذلك سوى تواضعه الجم، ورغبته الجامحة في بحث مكتمل الجوانب شكلاً ومضموناً، وكان هذا ديدنه في كثير من أعماله.ومن ظريف وبديع ما شاهدت، وهو يحرر ويخط الكثير من اعماله أمامي، وكان رحمة الله عليه، يكتب المسودات في المركز حسن خطه، وجماله الأخاذ، فهو خطاط ماهر. قالت إحدى العاملات الاختصاصيات في مجلة الدراسات الكويتية .. ما عسى أن يكون شكل هذا المبدع ـ قبل أن تراه ـ إنه لا محالة، شاب جميل أحسن الله صنعه، ووهبه الخط البديع الجميل دليلاً على ذلك، وما علمت أن القائل قد سبقها إلى القول: (سماعك بالمعيدي خير من أن تراه).فقد كان هذا الشاب الجميل على حد زعمها وحدسها، قد جاوز العقد السادس من عمره أو يزيد، وهو قليل العناية بهندامه وشكله، كثير الرعاية لقلمه وفكره، وقد لا يمسح ما علق بنعاله من تراب قرية الحمراء، لكنه وهب نفسه لمسح ما علق بالمخطوطات والوثائق من تصحيفات وتحريفات لا حصر لها وأولاها جل عمره، وكان يحمل عقلاً وقاداً، وفكراً نيراً جديراً بالفخر والاعتزاز، كان ذلك في إحدى المشاركات العلمية في الكويت حيث رافقته في مشاركات عدة، منها اجتماعات الدورة العاشرة للأمانة العامة لمراكز الدراسات والبحوث في الكويت التي عقدت في الحادي والعشرين والثالث والعشرين من نوفمبر 1987م، ممثلين عن مركز الابحاث الثقافية في عدن، وفق اختيار الأمانة العامة بالكويت.لم يكن مؤرخنا نكرة في أرضه ووطنه، على الرغم من بعده عن الأضواء وميله إلى العزلة والانطواء، فقد وهب نفسه لتاريخ اليمن البحري بل ولتاريخ علوم العرب البحرية، بيد أنه كان معرفة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى في البلدان العربية التي وطئتها قدماه.ففي حفل تكريمه في الكويت من قبل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، حظي هناك بالعناية والرعاية اللازمتين لباحث وعالم لا نظير له في علوم العرب البحرية بحثاً وتحقيقاً، وكأنه في وطنه الأم، ولما صدر كتاب (المركب العربيةـ تاريخها وأنواعها “2”).كتب الأستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم، الذي اعتنى كثيراً بجهود مؤرخنا البحري الكبير قائلاً: (.. فكتاب المراكب العربية، الذي بين أيدينا اليوم، هو جزء من خطة علمية متكاملة، وهو حصيلة لقراءات طويلة متنوعة، وثمرة لخبرة خاصة، وممارسة ذاتية، تمخضت عن تصنيف واضح، يلم شتات السفن العربية، صناعة وشكلاً في الماضي والحاضر ).وكان هذا الكتاب وكتاب آخر لمؤرخنا شهاب قد وقعا سنتئدٍ في يد أحد الدكاترة في بلادنا، ولما سئل عن رأيه فيهما، طعن في الكتابين على غير هدى، ودون أن يقرأ نزراً يسيراً منهما، وادعى أن أحدهما لا يرقى إلى مستوى الكتاب العلمي، وصاحبنا هذا لسوء حظه، لم يكتب مقالاً علمياً واحداً حرياً بالاهتمام.كان الاستاذ الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه، مستشار وزير الثقافة د. محمد أحمد جرهوم قد كلف بمعالجة قضايا مركز الابحاث الثقافية، فكلفني هو الآخر ـ أي الدكتور بافقيه ـ بالقيام بمهام مدير المركز، فالتقيت الأستاذ حسن، وعرضت عليه المهمة فهو أحق بها واجدر، لكنه رفض وقال: إنه عمل عقيم لا فائدة منه، فعقدنا اجتماعاً مع كبار الباحثين والموظفين أمثال: الأستاذ حسين سالم باصديق، وعبدالله عبدالكريم الملاحي، وعبدالله عزعزي ومحمد عبده عمر وغيرهم .. وعرضت مقترحي بتكليفه مديراً للمركز، واتفق الجمع على ذلك على أن أكون نائباً للمدير.وفي سنة 1990م، أسسنا معاً مركز الدراسات والبحوث اليمني فرع عدن .. وكان الأستاذ حسن يأبى حضور الاجتماعات الإدارية، وكنت أقوم بالتوقيع على معظم وثائق الدمج ـ دمج المركزين ـ في وزارة التعليم العالي والبحث، وأتلقى رسائل وخطابات مجلس الوزراء، ووزارة التعليم العالي، والمركزالرئيس في هذا الصدد، وأحضر الاجتماعات ـ على مضض ـ إذ كان من الأولى أن يقوم هو بهذه المهمة لكنه ـ كما خبرته ـ كثير العزوف عن الشؤون الإدارية والتنظيمية.كنت اطمح حيئنذ أن يطبع مركزنا في عدن اصدارات هذا العالم الجليل، وان يمنحه المركز كل ما يصبو إليه، وما يليق بمكانته .. وكنت أحاول استنهاض الهمة فيه، وهو صاحب الهمة كلها، فيضحك ويقول لي: دعك من هذه التهويشات ودع النفخ والتزيد الفارغ، فأنتم لا تستطيعون طباعة كتاب (استانسل).وأياً ما كان الحال، فقد ساهمنا معاً في تحرير مجلة (التراث) واصدرنا معاً اربعة اعداد آخرها (بالاستانسل)، وكان رحمة الله عليه، يلقي علي كل أعباء المجلة فاستفرغ مجهودي فيها، بحيث احمل العدد إلى منزلي، وأصوب الأخطاء والتصحيفات، واحرر المقدمة، واراسل من تهيأت لي مراسلاتهم من الباحثين في الداخل والخارج، وهم قلة قليلة، فعملنا تطوعي في مجمله، ومركزنا لا يستطيع لا التبادل بالاصدارات،ولا دفع مستحقات العاملين في هذا الحقل، وكان هذا الجهد قد صادف هوى في النفس، وكانت الظروف وقتها مواتية تحدوها العافية والفراغ .. ثم، بعد فترة تزيد أو تنقص يظهر العدد بحروف دقيقة وحجم هزيل فيثير دهشتي، ويعتريني الشك في جهودي، وجهود الآخرين.وكيفما كان الحال، فقد لقيت هذه الاعداد اقبالاً منقطع النظير من المختصين وعشاق التراث.رحم الله أستاذنا وصديقنا الكبير المؤرخ البحري، الذي أسفت الأسف كله، لانني لم أره منذ آخر لقاء به في مسقط، في الندوة الدولية للعلاقات اليمنية العمانية التي عقدت في جامعة السلطان قابوس سنة 2010م.خلف أستاذنا الجليل سلسلة من المصنفات، منها ما المحنا إليه في ما تقدم، وأبرزها:فن الملاحة عند العرب، مركز الدراسات 1981م.الدليل البحري عند العرب، الجمعية الجغرافية الكويتية.فرجة الهموم في العلامات والمسافات والنجوم، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت.طرق الملاحة التقليدية في الخليج العربي، الجمعية الجغرافية الكويتية.علوم العرب البحرية من ابن ماجد إلى القطامي، سلسلة دراسات الخليج، الكويت.قواعد علم البحر (تحقيق)، الجمعية الجغرافية الكويتية وغيرها كثير.لقد لقي أستاذنا الكبير ربه يوم الثلاثاء السابع والعشرين من محرم 1434هـ الموافق 11 ديسمبر، كانون الأول 2012م، ولم يشيعه سوى أهله على حد قول كريمته، فكرامة الميت دفنه .. ولكن من الحق أن أقول: إن علماً بارزاً وقامة شامخة بهذا القدر، خلف هذا التراث البحري المتميز”3”، كان ينبغي ان تستفرغ محافظة لحج مجهودها لتشييعه، لكن عذير هؤلاء انهم مازلوا تحت وطأة الأحداث أو مخلفات الاحداث ومجرياتها التي تقض المضاجع.وكائن ما كان الرأي، فإن هذا ـ والحق يقال ـ هو ديدننا مع المؤرخين وكبار العلماء، أما مع غيرهم، فالأمر يختلف كل الاختلاف!!ولا حاجة بنا إلى ذكر الأمثلة فهي كثيرة، آملين ان تحسن الجهات المختصة الالتفات إلى هؤلاء وأمثالهم، ذاكرين لذوي الفضل فضلهم .. فقد نشر هؤلاء العلماء تاريخ الأمة وحفظوا تراثها، وذاع صيتهم في البلاد العربية والعالم أجمع، من طريق ترجمات نتاجاتهم ومشاركاتهم الفاعلة في المؤتمرات والفعاليات المختلفة، أما نحن فقد انصرفنا عنهم وجحدنا جهودهم .. ولعلي ما زلت اذكر أنني رفعت جملة من الخطابات إلى الجهات المختصة لمنح الأستاذ حسن درجة أستاذ مساعد وترقية كل من الأساتذة: يوسف حسن السعيدي وعبدالله عزعزي، وحسين باصديق وغيرهم، وعلى مضض، حصلت على قرار من المركز الرئيس بمنح استاذنا الفاضل درجة استاذ مساعد، ولما عرضت القرار على وزارة العمل والخدمة المدنية بصنعاء، قيل لي ما مؤهلات صاحبك؟!قلت: عشرات المصنفات، فقالوا ألديه دكتوراه؟ قلت لهم: كل مصنف من مصنفاته يعد شهادة دكتوراه .. فأفادوني في الختام، بعد ان بذلت جهوداً مضنية، ذهاباً واياباً، أن لا أجهد نفسي في ما لا طائل تحته، فهذا من المستحيلات!!وعليه، فإنني أدعو الحكومة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى تغيير القوانين والأنظمة ذات النفس العلمي، واعتماد الجهود العلمية المتميزة للباحثين والمؤرخين اليمنيين في تقييم الدرجات العلمية ومنحهم ما يستحقونه، بدلاً من أن ندفع بهم إلى العزلة أو الارتماء في احضان الآخرين، أو استمالة الآخرين لهم وبيع نتاجاتهم لمؤسسات علمية مختلفة.ولايسعني في ختام هذه العجالة إلا أن اردد قول الشاعر:جرت نوب الأيام بيني وبينه فلم يبق إلا ما أعيد من الذكر .كما ادعو جهات الاختصاص في محافظة لحج إلى ان تطلق اسم هذا العلم البارز على أحد شوارع المحافظة أو مراكزها العلمية كي لا يطوى ذكره، ويختفي أثره، وكيف ذلك وله هذا التراث البحري الغزير!!5 صفر 1434 هـ الموافق 18 ديسمبر 2010معدنهوامش1) صدر عن دار العودة، بيروت في طبعته الثانية، فبراير 1981م.2) صدر عن مؤسسة الكويت للنقد العلمي في طبعته الأولى 1987م.3) لم نشر إلا إلى أمثلة قليلة من مصنفاته.