أكدت أنها لم تنتظر يوماً أكثر من الكتابة
حاورها: سيف الدين كاطع قبل أكثر من ثلاثين عاماً خلت، وضعت ميسلون هادي أولى مرتسمات تجربتها الكتابية تلك التي اتسمت بالنضج والإقناع وسطوع روح المغامرة الفنية على النحو الذي جعلها محط إعجاب وإثارة وتمعن ومتابعة واهتمام في إطار نسق إبداعي جاذب ومنفعل في أتون اللحظة الإنسانية بشكل عام والعراقية على وجه الخصوص، متخطية بنبوغ أولي جدير بالإشارة والانتباه حدود مسافات الدعم والتشجيع التقليدي، متوغلة في دروب وعرة، شديدة الإقحام والاقتحام، منطلقة وهي تمسك زمام مدركها الفني الفاعل والمنغمس بحيثيات بناءات الكتابة الجديدة في أنساق المتناول السردي، قصة كانت أم رواية، في الوقت الذي تشدد فيه مقتضيات الرصد والاستقراء والنقد كل أنماط القراءة الجادة في نسق معاينة الجهد المميز الذي بذلته ميسلون هادي طوال أكثر من ثلاثة عقود في أن تكون شاهدة على الوقائع والأحداث والمتغيرات والتداعيات والتواءات الزمن العراقي والمكان وتفاصيل الحال العام، تم ذلك من خلال أنظمة البوح وتبويب الأجواء ورسم الخسارات وهي تترنح وتتعاكس مثل تاريخ وطن مبتلى. وميسلون هادي كما يذهب الكثير من النقاد في وصفها (هي من القلائل بين أبناء جيلها الذين يعرفون طبيعة القصة القصيرة والرواية ويفهمونها جيداً ويكتبونها بالشكل الذي يجب أن تكون عليه)، كذلك ضمت لوائح إبداعها العديد من الأعمال الروائية والترجمات والمقالات الأدبية والنقدية، فضلاً عن تقلدها مسؤولية الصفحات الثقافية في أكثر من موقع صحفي وإعلامي.التقيناها في حوار امتد طويلاً، لنناقش تجربتها في عالم الكتابة والسرد وشؤون أخرى تتعلق بالثقافة العراقية ومساراتها ومعطياتها وكيف حالها الآن فإلى الحوار:* كيف يمكنك أن ترسمي لنا ملامح تجربتك في الكتابة السردية (قصة - رواية) وما هي أبرز محطاتك الإبداعية فيها؟** في العام 1985 نشرت مجموعتي الأولى (الشخص الثالث)، وفيها غرست البذرة الأولى لبناء أعمل على إعلائه بهدوء منذ ذلك الحين... ثم توالت المجموعات بعد ذلك وهي تنتقل بين موضوعات كانت ذاتية في البداية ثم سرعان ما تحولت إلى هم فلسفي يحاول رؤية العالم من جهة القلب والعقل معاً. كنت دائماً معنية بالأدب كرسالة لإنسان يهتم بإعلاء قيم الجمال ونشرها فيما حوله، وكانت الكتابة بالنسبة لي عاطفة جياشة تنبع من قلب يحزن أو يفرح ولا يمكنه السكوت على المظالم مهما كان شكلها، والصحافة أعانتني في استيعاب ما لا يمكن استيعابه في الأدب. أما عما قبل ذلك فسأختصر المسافة لأقول أني كنت ولا أزال عاشقة للقراءة قبل أن أكون عاشقة للكتابة ولو كان الأمر بيدي لقرأت كتب الدنيا كلها. أقرأ بمعدل ثلاثة كتب في الأسبوع وكوني قارئة جيدة هو ما جعلني أراجع مسيرتي باستمرار وأن لا أستسلم للنمطية في الكتابة، بل أقول إن القراءة صنعتني كاتبة أكثر من الموهبة.وقد خطفتني منذ زمن طويل قوة الكلام وأسرتني فكرة الكلام النبيل الذي يمسح الأحقاد والكراهية. وأرى الكتابة خلاصة لأرقى مستويات الوعي الإنساني وأحزن إذا انزلقت إلى غايات غير نبيلة أو استعملت لتفريغ عقد وأمراض نفسية. وبعد ثلاث مجاميع قصصية هي (الشخص الثالث) و(الفراشة) و(أشياء لم تحدث)، جربت كتابة رواية قصيرة هي (العالم ناقصاً واحد) وصدرت في العام 1996 وكانت نقطة تحول في مسيرتي الأدبية إذ تعلقت بأذهان النقاد والقراء كعلامة من علامات تلك المسيرة.واصلت بعدها هذا الانشغال الكبير بالعلاقة بين الشكل والمضمون وبدأت أتطور بشكل مكشوف بسبب احتجاجي الدائم على الواقع. تقنيتي الإيهامية أعانتني على أن أحلم قريباً منه وهي تقنية لا أتصنعها ولكنها جزء من طبيعتي كإنسانة تعتد بالحلم وحاولت دائماً أن أجرب وارتاد آفاقاً جديدة في حدود ذلك التكنيك ولكن في الوقت نفسه فإني أخشى على كتاباتي من التصنع والتكلف. وأتمنى دائماً أن أكتب بنفس الروح التي كتبت بها قصتي الأولى. وطبيعتي الأولى. ومادامت الطبيعة محافظة على نفسها.. ستبقى هذه الروح تلازمني. هذا لا يمنع من القول بأني أنظر الآن إلى الكتابة بمنظور متجدد وأجد فسحة في الكتابة لتصبح مجالا لارتيادات فكرية وتجريبية وهذا ما أفعله أحيانا عندما أكتب قصصاً من الخيال العلمي أو كما فعلت مع روايتي الأخيرة (حفيد البي بي سي) التي ضمنتها عشرات المواقف المضحكة والمفارقات وهي ساخرة منذ عنوانها وحتى سطرها الأخير.* من هم الكتاب الذين أثروا في مسيرتك الإبداعية والثقافية وأسهموا في تشكيل رؤيتك وتوجهاتك وحساسيتك حيال الأشياء والحياة والعالم؟** كثيرون بعدد الكتب التي قرأتها ولا أبالغ إذا قلت لك إنها بالآلاف. قراءاتي كانت منظمة وممنهجة. في البداية كلاسيكيات الأدب الروسي والعربي وألف ليلة وليلة وكتب التراث وملحمة كلكامش وباقي الملاحم المعروفة ثم الأدب الإنكليزي من شكسبير وديكنز ولورانس وفرجينيا وولف إلى كاترين مانسفيلد وجين أوستن وغراهام غرين ووليم غولندغ وأوسكار وايلد.. الخ ثم الأدب الألماني الذي شغفت به جداً خصوصاً ريمارك وهيرمان هيسة ثم الأعمال الكلاسيكية الخالدة كزوربا والأخوة كرامازوف والساعة الخامسة والعشرون والجريمة والعقاب والصخب والعنف والمسخ والقلعة والقائمة تطول جداً ثم الأدب الفرنسي من خلال سارتر وكامو وألن روب غرييه والأدب الأميركي من خلال فوكنر وهمنغواي وفيتزجيرالد وغيرهم ثم الأدب اللاتيني الذي شغل الدنيا في السبعينات والثمانينات. فانبهرنا بكتابات لماركيز وبورخس والليندي كما انبهرت بقصص الفانتازيا والخيال العلمي لجورج أورويل ودي أج ويلز ورولد دال، وأتابع ما يصدر من جديد باستمرار وبالتاكيد أن كل تلك الأعمال محفوظة في أعماق اللاوعي مثل بقايا طفولة جميلة ستجعل حياتك مختلفة. كنت شغوفة أيضاً بقراءة الفيزياء فهي محببة إلى قلبي كما الأدب، ولدي فضول أبدي لمعرفة أسرار الظواهر الطبيعية للكون والأجهزة التي نستعملها في حياتنا اليومية. يعني أقرأ في طرفي نقيض الفيزيقا والميتافيزيقا.وهنا أحب التنويه للكتاب الشباب بأن هناك مرحلة مبكرة من العمر إذا لم تقرأ فيها بكثافة فلن تستطيع تعويضها لاحقاً وأضرب لهم مثلاً بنفسي مع يوليسس لجيمس جويس والتي تكاسلت عن قراءتها مطلع شبابي لأنها لم تستهوني كثيراً، والآن كلما أخرجها من المكتبة أعيدها ثانية لإحساسي بأنها أصبحت خارج زمان قراءاتي. وليس هي وحدها التي أصبحت خارج زمان قراءاتي ولكن أيضاً أغلب كلاسيكيات الأدب من ديستوفسكي إلى نجيب محفوظ.بالنسبة للكتاب العراقيين قرأت مؤخراً أعمالاً عراقية متميزة كإغماض العينين للؤي حمزة عباس وتغريبة ابن زريق البغدادي لسلام عبود وملائكة الجنوب لنجم والي وغرام براغماتي لعالية ممدوح وذلك الصيف في الإسكندرية لبرهان الخطيب. وحالياً هناك الكثير من الأسماء الروائية المهمة في العراق كالروائي طه الشبيب والروائي علي بدر والروائي نزار عبد الستار بالإضافة إلى أسماء كبيرة مثل الروائي عبدالخالق الركابي والروائية لطفية الدليمي والروائية سميرة المانع.في بداياتي أعجبت بالشعر أكثر من الرواية فكانت قراءاتي تتنوع بالنسبة للكتاب العراقيين بين شعراء وروائيين من أمثال فؤاد التكرلي وجليل القيسي ويوسف الصائغ وصادق الصائغ وسعدي يوسف وهشام الركابي وفاضل العزاوي وسالمة صالح وسامي مهدي ومدني صالح. كانوا ممن شغفت بهم بدون عدوى أو شائعة مسبقة.. إذ كنت بعيدة عن الوسط الثقافي وقرأت لهم من خلال الصحف ومجلة ألف باء ثم أخذت أقتني كتبهم فيما بعد. ولاحقاً وجدت نفسي محاطة ببعض تلك الشخصيات الثقافية عندما عملت في الصحافة. وأسهم زواجي من رجل مهتم بالأدب هو الناقد نجم عبدالله كاظم في دعم الجدية التي أخذت بها نفسي في مسيرة الكتابة، وكنت أتطور باجتماع عدة مؤثرات منها حبي الفائق لكل ماهو جديد في العلم والأدب. أيضاً عذوبة الحياة البدائية تستوقفني كثيراً وتجعلني أشعر بالسعادة.في روايتي (شاي العروس) وضعت نفسي بين قوسين من الصمت وحاولت رؤية العالم كما يراه أعمى يبصر للمرة الأولى. تحديت نفسي في ذلك وكتبت الرواية وأنا أتخذ من حاسة النظر العزلاء سلاحاً للدخول إلى تلك المعركة.* الأحداث الدراماتيكية كثيرة ومؤلمة، هل استطاعت الأعمال السردية في العراق أن ترتقي إلى مستوياتها أم لم يحن الوقت بعد؟** لقد دار سجال حول هذا الموضوع قبل فترة. ومن قبل كتاب كان بعضهم غير متابع للانتاجات العراقية الحديثة ولهذا لم يكن من المناسب أن يحكم على هذا الكم من النتاج القصصي والروائي بأنه قد تخلف عن مواكبة الهم العراقي أو بعدم ملاحقته للإحداث. ولم يحدث هذا لأن مطربة الحي لا تطرب، ولكن لأن التعب، على ما يبدو، قد أخذ منا كل مأخذ فلم نعد نهتم بما أنتج ونحكم بدون أن نقرأ. لو أقيم الآن مؤتمر للرواية العراقية فسنكتشف الجوهر تحت الرماد. وهو الجوهر الذي يجب أن نصقله نحن أهل المهنة وننبهر بجمراته من أجل الحقيقة وليس من أجل أن يعلي بعضنا بعضاً. نقوم بذلك من باب النزاهة والوطنية وليس من باب الرياء، وعندما أتم قراءة رواية عراقية جميلة أحاول الكتابة عنها بالرغم من صعوبات الوقت. وعندما يأتي الحكم من أشخاص لا يقرؤون فأنت تتألم أشد الألم لهذا النكران المبين. إن الرواية في العراق انعطفت نوعياً إلى حالة من الابتعاد عن الايديولوجيا والاقتراب من الحقيقة النسبية والتمرن على العالمية من خلال المحلية.الكاتب يتفاعل مع الأحداث أكثر من غيره ولكنه يرتاب فيها وينظر إليها من وجهة نظر إشكالية. كل إنسان يرى حدوده هي حدود العالم ولكن الكاتب يرى غير ذلك أو كما يقول آرثر شابنهاور (كل أمة تَسخر من الأممِ أخرى، وكُلهم على حق). كان عبقرياً يكره الضوضاء ويدعو إلى وقف إرادة التكاثر لأن الحياة هي مصدر الألم. بمثل هذه الطريقة قد يفكر الكاتب ثم عليه أيضاً في ذات الوقت أن يكون مسؤولاً عن الخير وأن يولي الإنسانية عنايته القصوى. تلك إشكالية كبيرة لايمكن النجاة منها إلا بطريق الفناء الشريف. وهو طريق الواجب.. والإخلاص لواجبنا كبشر، سواء في الأسرة أو المهنة أو كمواطنين. إذا كان الفناء قدرنا فليكن فناء شريفاً لا هروب فيه من أداء الواجب في هذا المرور العابر بالكون. من هذا الصراع ترتدي الكتابة ألف وجه ولا تكون خادمة للأيديولوجيات ولن تكون.* كيف تحقق ذلك في رواياتك؟** في الرواية كان علي أن أضع الأولوية للواجب الأهم، وهو الواجب تجاه الوطن. وبالتأكيد لا يمكن للرواية أن تهتف بذلك في شعارات كما يفعل المتظاهرون، أو الساسة، أو قادة الأحزاب، ولكنها تفعل ذلك من خلال تقديم المصائر الغامضة التي يلاقيها الهاربون من هذا الواجب.. كما يحدث مثلا لـ (ناجي عبدالسلام) في (يواقيت الأرض)، أو لـ (خالد) في (الحدود البرية).. إنهما يحاولان النجاة بنفسيهما من الخراب، ولكن إيثاكا دائماً معك في هذا الخراب، وهي خراب أينما حللت، فإذن عليك أن تلتزم الوطن بالسعي لإصلاح هذا الخراب لا الفرار منه، والتزام المكان هو من أعز الثيمات على قلبي، والبيت بمعناه الجغرافي والروحي والعمراني هو المكان الذي يكاد يحتل البطولة فيما كتبت من روايات، وبدون أن أقصد لاحظت أن بعض رواياتي تنتهي بكلمة (البيت) كما في (حلم وردي فاتح اللون) حيث يقول ياسر السجين في نهاية الرواية(أريد أن أرجع إلى البيت). البيت في “العالم ناقصا واحد” هو المسرح الذي تدور فيه مشاعر متضاربة نعرف من خلالها أن ما يجري في الخارج هو مأساوي وفظيع، والبيت في (يواقيت الأرض) هو الذي يتركه البطل (ناجي عبدالسلام) فلا ينجو وإنما تضيع بوصلته ويتوه في المجهول. البيت في (العيون السود) هو عدة بيوت في زقاق واحد تقدم بانوراما العراق لعقد كامل هو التسعينيات من زمان الحصار، إذ دارت الرواية في عشرة بيوت تضم عشر عائلات والعديد من الشخصيات خلال عام 1998 المشحون بوقائع كثيرة.وهنا أتوقف عند فكرة تقبل الآخر المختلف في تلك الرواية من خلال ثيمة غريبة يتشابه فيها رجلان في الشكل ويختلفان في المضمون. فتقبل (الآخر)، لأنه عراقي بالرغم من اختلافه، كان هو الثيمة التي اشتغلت عليها كما يشتغل الباحث على بحثه في رواية (العيون السود)، ولكن (الآخر) عندما يكون محتلاًّ ومعتدياً، وبربرياً وغير إنساني، فلا يمكن أن يكون مقبولاً، وهذا ما تقوله رواية (نبوءة فرعون) من خلال بطلها (يحيا).. وبيت (يحيا) في (نبوءة فرعون) قدم الموروث الشعبي العراقي للدلالة على أن هذا الطفل المستهدف هو عراقي، فأمه (بلقيس) طلبته من (صينية الزكريا)، والاحتفال بالنبي زكريا هو تقليد عراقي غير موجود في باقي البلدان العراقية ويكون في أول يوم أحد من شهر شعبان، فالنبي يحيى قد وهبه الله لزكريا على كِبَر، ولهذا فإن المرأة التي يتأخر حملها تغرز دبوساً في شمعة من الشموع وتنذر بأن تنصب صينية لزكريا كل عام إذا ما وهبها الله غلاماً، كما وهب يحيى لزكريا. هكذا حمل (يحيا)، بطل (نبوءة فرعون) دلالات خاصة تؤكد أنه العراقي، وهو المقصود من الأمريكان بالإبادة. أما في (حلم وردي فاتح اللون) فأروي قصة حب تدور في وضع قاتم ومكان خطر للغاية، ولكن البيت أيضاً هو الذي يجب أن يحمي تلك القصة من الأخطار ويجعل الحلم الوردي قابلاً للتحقق.* كيف ترين المشهد الثقافي العراقي الآن؟** يعجبني فيه تماسكه إزاء عصبية السياسيين وقبليتهم وفرقتهم الطائفية. لا يزال المشهد الثقافي حيوياً وفي حالة وئام وطني وهدوء نسبي. وحتى عند الحديث عن وجود خلاف سياسي بين من عارض الحرب أو من أيدها أو وجود خلافات فكرية بين أدباء الداخل والخارج، فإن الخلافات لا تأخذ منحى العنف أو الثأر كما يحدث بين السياسيين. ولكن هناك ظلم كبير لحق بأدباء المنفى ويشعرون أن الوطن قد أنكرهم. وهم بحاجة فعلية إلى حنان الوطن بل هم أكثر حاجة إلى دعم اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة العراقية فلماذا تم تجاهلهم في ذلك؟ أتمنى أن تبادر وزارة الثقافة إلى استذكار هذه الأسماء الغائبة والكبيرة ونأمل أن يحدث هذا بمناسبة اختيار بغداد عاصمة للثقافة العراقية للعام المقبل وأن تتم دعوة الكثير من رموزنا التي تعيش في الغربة وأن تكون أسماؤهم في قمة الأولويات لفعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية لكي لا يفقدوا الأمل بأهل الثقافة بعد أن فقدوا الأمل بالسياسيين.* ما رأيك في الصحافة الثقافية في العراق بشكل عام، وخصوصاً بعد 2003؟** قضية الهوية الوطنية هي أكثر ما يشغلني.. والحمد لله يمكن القول إن الصحافة الثقافية قد نجت عندنا من فخ الطائفية ونتمنى عليها المزيد من الموضوعية في تذكر الأسماء البعيدة عن الضوء والمنزوية في عزلتها. يعجبني أيضاً في الصحافة الثقافية إنها تبذل جهداً أخلاقياً واضحاً من أجل تغليب الهوية الوطنية على الانتماء الطائفي أو العرقي ويستوقفني تركيزها على الإصلاح وعدم تقييد الحريات واهتمامها بالجيل الجديد من الكتاب وظهور أسماء جديدة لشباب وشابات من جيل يرغب بتغيير حقيقي. أما بالنسبة للانفتاح الفضائي بشكل عام، فقد تحول إلى ضجيج مزعج شغلني في السنوات الأخيرة وضقت به ذرعاً.. ولهذا سخرت منه في مجموعة جديدة عنوانها (أقصى الحديقة) وهي مختلفة عما كتبته سابقاً في مسيرتي القصصية لأن حس الفكاهة كان مرة أخرى حاضراً بقوة.. وفيها تهكمت على عصر الفضائيات والإعلانات.* برأيك هل ارتقى ما يطلق عليه بالأدب النسوي إلى مستويات هموم المرأة وحقوقها المهضومة والتعبير عن قضاياها المتمثلة بإثبات الذات والوجود الإنساني الكريم؟** من الصعوبة بمكان أن يجعل الكاتب من مشاعره وأحاسيسه الخاصة موضوعاً للكتابة القصصية أو الروائية ما لم تكن تلك التجربة الذاتية عنصراً فعالاً في المسار النوعي للتجربة الموضوعية التي يعيشها الكاتب ويتشارك بها مع القارئ. وتزداد هذه الصعوبة عندما يكون هذا (الكاتب) امرأة و ليس (رجلاً) لأن (ذات) المرأة محبطة أكثر من (ذات) الرجل وأقل منها تماسكاً (حتى بالنسبة لاثنين على الدرجة نفسها من الوعي) وذلك لأسباب اجتماعية وتاريخية معروفة، والنزوع إلى هذه الذات أثناء الكتابة قد يقود إلى نوع من الكتابات العاطفية التي ترضي فضول الذائقة التقليدية وتحد من إمكانية التخفي وراء شخصيات أدائية مختلفة تقدم الجدل المطلوب لوجهات نظر مختلفة داخل العمل الواحد. ولكني أجد أن الكاتبات العربيات في مرحلة تجاوز هذه المشكلة فهن أكثر حيوية من الرجال وأدبهن أكثر تشويقاً باعتراف الكثير من النقاد. المرأة راوية بطبيعتها، وهي التي اخترعت القص عن طريق إعادة حكاية الحدث لأغراض كانت ترفيهية أو تربوية في البداية ولكنها مفعمة بالحيوية. ولاحظ تفاعل المرأة مع أحداث مجتمعها العراقي ستجد هذا الحس الحيوي حاضراً لدى كل الروائيات فكتبت لطفية الدليمي (سيدات زحل) وعالية طالب (قيامة بغداد) وإرادة الجبوري (رائحة التفاح) و(رائحة الكاردينيا) وكتبت هدية حسين (نساء العتبات) و(مطر الله) وكتبت بتول الخضيري (غايب) وكذلك إبتسام عبدالله (ميسوبوتاميا) ومي مظفر وهيفاء زنكنة وكليزار انور وسميرة المانع و دنى غالي.* من الملاحظ، أن لديك كل سنة عملا روائيا قائما بحد ذاته، حدثينا عن أحدث رواياتك حفيد البي بي سي وآخر أعمالك؟**رواية (حفيد البي بي سي) تتصدى لتفكيك الكراهية عن طريق السخرية. سيكون من المفاجئ أن أكتب في السخرية. ولكني تحديت نفسي بهذا العمل بعد أن وجدت كل الروايات العراقية الأخيرة مشبعة بالقهر والفواجع ومنها رواياتي بالطبع. تتحدث رواية (حفيد البي بي سي) عن صداقة النساء مع الراديو من خلال شهرزاد الجدة التي ولدت في الناصرية وتزوجت (ممتاز) قارئ المقام من كركوك ثم خلفا ست بنات وثلاثة أبناء توأم وبعد ذلك اثنين وعشرين حفيداً بينهم بطل الرواية عبدالحليم الذي أسمته شهرزاد بهذا الاسم بعد مشاهدتها فيلم (أبي فوق الشجرة) نهاية الستينات. تتوزع الشخصيات الرئيسة للرواية بين شهرزاد مدمنة سماع الأخبار من البي بي سي، وحفيدها عبدالحليم الرقيب الوفي الذي يعمل في قسم رقابة المطبوعات. وهناك أيضاً بدر ومنار اللذان يعملان معه في دائرة واحدة ولكن يختلفان معه في الأفكار والمزاج. تدور أحداث الرواية في المكتبة الوطنية في بغداد ولكن تداعيات الأحداث تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير وتصل إلى لندن. ومن خلال تلك الأحداث سيعيش القارئ سخرية لاذعة من الأحداث التي مر بها العراق والوطن العربي خلال نصف قرن من الزمان. مقدمة بعدة وجهات نظر يغلب عليها سلطة الجدة العظمى شهرزاد التي تعشق الحروب والثورات والانقلابات. وتقلد الملكة اليزابث في تصرفاتها حرفياً ولكنها لا تعترف بعمرها الحقيقي وتجمع حولها شلة من العجائز المرحات وتزدري أزواج بناتها السبع ولا تعترف بالرجال رجالاً إلا إذا ترددت أخبارهم في البي بي سي.صدرت لي أيضاً مجموعة من الخيال العلمي عنوانها (ماماتور باباتور) وهي تجربتي الأولى في مجال النشر الالكتروني.* هل أنصفك النقد؟** أعتبر نفسي محظوظة بكل الدراسات التي كتبت عن أعمالي وتجعلني أشعر إنني سائرة في الطريق الصحيح. هذا التقييم ضروري للكاتب ولكني لم أنتظر يوماً أكثر من ذلك لأن جائزتي الوحيدة هي الكتابة نفسها.* كيف تبدو الكتابة لك خارج الوطن، هل ثمة فرق عنها في الداخل؟** هناك فرق بالتأكيد ولكن بالنسبة لمن أصبحت الغربة وطنه منذ عشرات السنين وليس بالنسبة لمن عاش غربة مؤقتة مثلي..لم أعتبر نفسي مغتربة في يوم من الأيام وإنما مسافرة والفرق شاسع بين الاثنين. ولكن الحديث عن أدب المنفى يقودني إلى الإشارة لوجود فرق جوهري بينه وبين أدب الداخل من جهات مختلفة كالجرأة في الطرح شكلاً ومضموناً كما أن إتقان اللغة الأجنبية يلعب دوراً في الاطلاع على تقنيات مختلفة ومن ثم استخدامها. الرواية الغربية أصبحت نوعاً من البحث في مناطق بكر تثير فضول القارئ ولاتعد الرواية رواية إذا لم يتجاوز حجمها مئات الصفحات بالإضافة إلى تضمين ثقافة الكاتب الميدانية في الرواية بطريقة متشعبة وأحياناً مبالغ بها. لاحظت مثلاً في (غرام براغماتي) لعالية ممدوح و(ملائكة الجنوب) لنجم والي أنهما مكتوبتان بشكل مختلف حتى بالنسبة لتجاربهما الأولى وليس بالنسبة لتجارب الداخل فقط. الشكل تطور وهناك التوصيف البيوغرافي المطول لجميع الشخصيات حتى وإن كانت ثانوية وهذه سمة غربية في الكتابة. أما القيمة نفسها فأعتقد أنها معاناة عراقية مئة بالمائة، حتى وإن اشتبكت مع الآخر الغربي.