سطور
في سني دراستي الابتدائية كان الأستاذ الفاضل حسن باخشوين يدرسنا مادة اللغة العربية وكان كثيرا ما يردد على مسامعنا أبياتاً من الشعر العربي الجميل، وإن نسيت فلن أنسى ترديده للبيت الشعري القائل (( إذا سبـح القيطون هم بسرقة ٍ .. فاحذر من القيطون ِ حين يسبح ))، وكنت آنذاك، أي في سني طفولتي، أحسب أن القيطون لاتبتعد كثيراً في مدلولها عن القط ، وإن كنت لا أحسن تفسير البيت، وماخطر لي يوماً أن اسأل أستاذي عن معناه، أو لعلني سألته أو سأله غيري ، فنسيت جواب الأستاذ، المهم أنني حين كبرت وصار لي جهاز حاسوب واشتراكاً في الشبكة العنكبوتية هرعت إلى عمنا جوجل أبحث عن إجابة مرضية لمعنى القيطون ودلالتها لأفهم معنى البيت، لكن جوجل أفاد أن القيطون شخص مخادع وماكر عاش في العصر العباسي ، فما رأيت المعنى مقبولا لدي، فعرجت على المعاجم اللغوية أبغي عندها إجابة مقنعة، فكان أن جاء جوابها على النحو التالي : القيطون = المخدع بضم الميم وفتحه ،وهي لفظة مصرية قديمة وبربرية، والمخدع يعني الخزانة، وأصبح من المتيقن _ لدي على الأقل _ أن انزياحا دلاليا قد حدث في مدلول اللفظة، فبعد أن كانت القيطون هي الخزانة صار ت اللفظة دالة على حارس الخزانة، وكما يقولون في المثل حاميها حراميها، وأضحى المعنى إذا ماتظاهر حارس الخزانة بما ليس فيه من التقوى فاعلم أن نية مبيتة عنده لسرقتها . كان هذا هو أول لقاء لي مع الكلمات أو الألفاظ ودلالاتها ، لذا فقد سعدت كثيرا حين وقعت في يدي نسخة رقمية من كتاب، أعدته الأستاذة القديرة رقية علي بن علي للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة عدن، وكان بعنوان (( آيات النساء في القرآن الكريم ..دراسة تركيبية دلالية )).وكان أن نالت درجة الدكتوراه عنه بالفعل، كيف لا وقد تناولت موضوعا قل أن تجد من يطرقه بين طلاب جامعاتنا لا اليمنية فحسب بل والعربية . ولقد وجدت أن الأستاذة رقية قد اطلعت على عدد غير قليل من الكتب والمراجع القيمة كيما تصل إلى بحث رصين ودقيق لآيات النساء في القرآن الكريم ، وقد قادها البحث إلى أن ترجع إلى ماكتبه الأقدمون والمحدثون في علوم اللغة العربية ونحوها وكتب البلاغة والبيان ، وما خلفه لنا السلف من كتب التفسير وصحاح الأحاديث النبوية وغيرها من كتب علوم القرآن .وأحسب أن عددا غير قليل من القراء سيتوقف عند عنوان البحث متسائلا عن ماهية المعنى وعن مرمى الباحثة منه ، وأرى أن الحق هنا يواز ره، فما التحليل التركيبي والدلالي بالمصطلحات المطروقة كثيرا في كتاباتنا ، لذا أجد أن لامندوحة من أن أتحدث قليلاً عن اللغة والمصطلحات آنفة الذكر ، لأذلل السبيل أمام القارئ ، وليستبين له بعد ذاك أهمية البحث المطروق.فاللغة هي النظام أو مجموعة القواعد والمعايير المستقرة بصورة تجريدية في ذهن الجماعة اللغوية، وهي التي تقوم بتشكيل وعي أفراد المجتمع وسلوك أفراده ، وتحدد أنماط تفكيرهم وعاداتهم ، لكن هذا النظام لاينطق والمعجم جزء من هذا النظام، فالمعجم هو أيضا لاينطق، لكن الذي ينطق هو الكلام، وحين يتكلم الفرد يغترف من هذا المعين الصامت ( النظام ، والمعجم ) فتصير الكلمات ألفاظاً ونصوغها وفقاً للنظام اللغوي . فالكلمة في المعجم صورة صامتة في ذهن المجتمع ، أو صورة كتابية مفردة، والصورة دائما غير الحقيقة، وحين يلتقطها المتكلم يحولها من الصورة إلى الحقيقة الحسية ( سمعيا وبصريا )، من الإفراد ( وهو طابع المعجم ) إلى السياق الإستعمالي ( وهو طابع الكلام ) .هكذا يقول علماء اللغة، ولعلكم تتذكرون ماحكيته لكم في المقدمة عن القيطون ودلالتها وتحور الدلالة.فالعلاقة بين الدال ( الجانب المادي ) والمدلول ( الجانب الذهني ) من اللغة هي أشبه ماتكون بوجهي الورقة كما يصورها عالم اللغة سوسير ، لايمكن الفصل بينهما، ووجودها لايكون لذاتها بل من علاقاتها بغيرها ، والمحل الذي تحتله في النظام اللغوي هو الذي يحدد قيمتها، وهذه القيم خاضعة للتغيير.والتحليل التركيبي للنص تعني تجزئته إلى وحدات نحوية مستقلة ، أي إلى جمل يمكن تجزئتها إلى كلمات ، أما التحليل الدلالي للنصوص فيقودنا إلى فهمها منطلقين من فكرة ثنائية الدال والمدلول التي تتحرك من ظاهر شكل اللفظ إلى دلالته، ومن ظاهر النص إلى بنيته العميقة .وهناك ولاشك في ترابط وثيق بين التحليل الدلالي والتركيبي لأي نص من النصوص، إذ لايمكن بأي حال من الأحوال الوثوب إلى التحليل الدلالي دون المرور بالتحليل التركيبي لهذا النص أو ذاك .والحق أن الباحثة لم تكن ترمي إلى تبيان روعة وجمال الألفاظ القرآنية واستخداماتها بدلالاتها المتعددة، والجمال البلاغي لها فحسب ، بل إنها هدفت من خلال الدراسة إلى جانب كل ذلك ، إلى إظهار مكانة المرأة في الإسلام من خلال النصوص القرآنية .يتضح ذلك جلياً من خلال ماذكرته من أهداف سعت إلى تحقيقها من خلال هذه الدراسة أوجزتها بما يلي : شغفي الشديد بالأسلوب القرآني ورغبتي في سبر أغواره واستجلاء أسراره اللغوية الباهرة. • استنتاج ما أمكن استنتاجه بالنظر في طرق الصياغة ، وبالرجوع إلى أسباب النزول وبالرجوع إلى الدلالات اللغوية لألفاظه من حيث اللغة نفسها ومن حيث وجودها في سياق معين . •حاجتنا الماسة لهذه الدراسة في عصر قد تنكر لحقائق الإيمان وتشويه كثير من مفاهيم هذا الدين لقضايا المرأة وحقوقها، لنقف على عظمة هذا الدين الذي عزز من قيمتها وساوى بينها وبين الرجل في الجزاء والثواب والحساب والعقاب مع الاحتفاظ بخصائص كل من الجنسين وأثره في المجتمع . ولقد أوردت الباحثة في مقدمة الرسالة مايلي : ((فجر أضاء عتمة ليل داجٍ ، فبددت خيوطه ظلام أمة ظلت تتخبط في دياجير جهلها .. مخلصاً إياها من همجيتها وتناقضاتها ليرتقي بها إلى مصاف الآدمية والإنسانية ، وتبلغ شأواً عظيماً في شتى مجالات الحياة ، وما كان يمكن أن تنبتَّ كرامة المرأة في الجاهلية ، لولا أن تنزّلت بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها ؛ يستوي في ذلك ذكورها وإناثها ، ورفعهم إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفحة من روح الله )). وخلصت في ملخص الرسالة إلى أن المرأة قد أعطيت حقها الكامل في الحياة الحرة ، وكانت لها مكانتها المتميزة في عهد النبي محمد صلوات ربي وسلامه عليه ، وتجلى ذلك من خلال التعاليم والقيم التي غرسها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في المجتمع المسلم آنذاك ، فإذا بالرسالة أضحت في جانب من أهم جوانبها ، دعوة من الباحثة إلى أن نسير على هدى الكتاب والسنة اليوم لتحقيق المقصد الإلهي والنبوي في تكريم المرأة وإعطائها حقوقها كاملة غير منقوصة .وقد اقتضى البحث ، كما تقول الباحثة، التمهيد في دراسة الجملة تعريفها عند اللغويين وعند النحاة متتبعة ظهورها عند المتقدمين والمتأخرين والمحدثين .ثم قامت في الفصول الخمسة التالية بدراسة كل آية دراسة تركيبية ثم أعقبتها بدراسة دلالية متكئة بهذه الدراسة الدلالية على الدراسة التركيبية . ويتضح من خلال قراءة البحث صدق قولها إنها لم تدخر فيه وسعاً، ولم تحبس دونه سعياً ،وكذا مقدار الجهد الذي بذلته الباحثة في ظل ما اكتنف الموضوع من مصاعب جمة لعل أهمها :*قلة التجارب في ما يتعلق بالدراسات القرآنية الدلالية . *افتقار القسم إلى الأساتذة المتخصصين في الدراسات القرآنية . *افتقار المكتبة العربية إلى المعاجم الدلالية التي تساعد على معرفة المعاني الدلالية التي تكتسبها اللفظة في السياقات المتعددة . من أجواء الرسالة : (( من سورة القصص )) قال تعالى : (( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولاتخافي ولاتحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ))التحليل التركيبي :الواو عاطفة وجملة معطوفة على ما تقدم ، ثم جملة تفسيرية ، ثم جملة مزدوجة أداة الربط فيها إذا ،ثم واو العطف وجملتان ،على جملة الجواب ثم جملة مجاورة أسمية مركبة تعليلية.التحليل الدلالي :(( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه )) الوحي قد يكون رؤية في المنام، وقد يكون بالقذف في القلب، وقد يكون بإرسال ملك ،أن أرضيعه جملة تفسيرية لقوله أوحينا، والغرض من الإرضاع أن يتعرف الرضيع على أمه بشمها ويتغذى بلبانها ولتقوى بنيته .الآية جامعة لأساليب عدة فهي غاية في الإعجاز، ففيها خبران هما (( وأوحينا إلى أم موسى )) و(( فإذا خفت عليه )) ، وأمران هما ((أرضعيه وألقيه )) ،ونهيان هما ((لاتخافي ولاتحزني ))، وبشارتان (( إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين )) .(( خفت ، ولاتخافي )) أما إذا تساءلنا كيف جمع بين ثبات الخوف والنهي عنه في الآية، فالخوف المثبت من توقع مكروه يكمن في ذبحه من قبل فرعون، والخوف المنهي عنه من توقع مكروه يصيبه في اليم بغرقه .(( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين )) وعد من الحق يذيب كل المخاوف ويسكن كل الهواجس، بإسلوب تعليلي للنهيين السابقين متصدراً بأن التي تفيد التعليل وتفيد التوكيد الذي ينفي الشك الذي قد يتبادر إليها بضمان رده إليها . (( وجاعلوه )) بإدخال المسرة عليها بجعله من الهادين المرسلين إلى هذه الأمة .ها أنت ذا قد عشت لحظات المتعة اللامتناهية مع التحليل التركيبي والدلالي لآية واحدة من آيات النساء في القرآن الكريم ، فما يكون حالك لو وقع البحث كاملا بين يديك كما حدث معي .البحث جميل ورائع وهو خطوة أولى على طريق التحليل التركيبي والدلالي لمجمل آيات القرآن الكريم، هذا المنحى من التحليل الذي يكشف لنا رؤى جديدة كانت خافية عنا ، لا من حيث جمالية النص القرآني وتبيان روعته البلاغية فحسب، بل من حيث إعادة قراءة هذا النص واستنباط مفاهيم وقيم ورؤى جديدة تعزز ما توصل إليه السلف الصالح ، وتضيف إلى موروثهم العظيم والجبار آفاقا رحبة ماكانت لتستبين لولا هذا النوع من التحليل، فما أحوجنا إلى دراسات تسير على الدرب نفسه تضيء لنا ما جهلنا من كتاب ربنا الكريم ، ولقد أراه _ أعني هذا البحث _ يحمل قيمة معرفية كبيرة تستدعي طباعته ليصبح في متناول المثقفين في الداخل والخارج، وأحسب أن جامعة عدن بما لها من إمكانيات، هي الجهة المعنية بطباعته وإخراجه من دائرة البحث العلمي الأكاديمي إلى دائرة أكثر انتشاراً واتساعا هي دائرة القراء غير المتخصصين ممن تستهويهم القراءات الجادة والرصينة، ذات القيمة المعرفية العالية، فهاهي ذي بغيتهم قد تجسدت بين دفتي هذا البحث ، ترى هل تفعلها الجامعة في معرض نشاطاتها المعرفية، ورسالتها التنويرية ؟؟ سؤال لايملك سواها الرد عليه . *تمت الإستعانة بكتاب التحليل الدلالي .. إجراءاته ومناهجه للدكتور كريم زكي حسام الدين