الاكتئاب .. بين الطب والشعر
كتب/ عبدالله احمد السياريقرأت عن بحث حديث بين انه قد تم تشخيص أن واحداً من كل عشرة من البريطانيين البالغين يعاني من الكآبة أو الاكتئاب على مدى الاثني عشر شهراً الماضية (بعدد إجمالي يفوق خمسة ملايين شخص) وان هذ النسبة في ازدياد.ازدياد حالات الاكتئاب هو في الحقيقة نتيجة لشيئين: أولاً أن ظروف وضغوط الحياة الحالية - لسرعة إيقاعها وكثرة طلباتها الملحة - تبعث على الاكتئاب، وثانيا لان المجتمع لم يعد يرى في التشخيص النفسي عارا ووصمة تدعو إلى الخجل من إعلانها والإفصاح عنها -على الأقل في الغرب، فهم إذا لا يرون ضرراً، ولا يبدون تردداً في طلب المعونة من أطبائهم.المحزن أنه في عالمنا الشرقي لا يزال هناك ربط ظالم جائر بين الحالات النفسية - خاصة الشديدة منها - والخرافات، مما يعيق المصاب وأهله من طلب المعونة من المختصين في علاج هذه الأمراض. ولا اشك للحظة بتأثير العين والحسد والسحر على أحوال الناس إلا إني اجزم - كطبيب - أن الكثير من الحالات التي تنسب إلى هذه الظواهر ليست كذلك وإنما هي حالات نفسية قابلة للعلاج من قبل الأطباء.واللافت أن أهم مصدرين للقلق أو الاكتئاب هما عائلة المرء ومحيط عمله، أي أن مصدر قلق الشخص واكتئابه هو في الأساس الناس الذين يعرفهم، ولا لوم يقع على من لا يعرفهم أو يلقاهم في حياته.وكأن الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري قد انتبه لهذا الأمر منذ قرون مضت فقال:وما ضرني إلا الذين عرفتهم ** جزى الله خيرا كل من لست اعرفيقولون إن أبا العلاء المعري كان متشائما وأنا اجزم انه كان يعاني من اكتئاب مزمن شديد الوطأة عصيها، ولعله كان يركن إلى كتابة الشعر من اجل تخفيف كرب الاكتئاب الذي كان يغشاه، وحاله في ذلك حال الكثير الكثير من الشعراء والأدباء الذين كانوا يعانون من هذا السقم عبر العصور والأماكن.والشخص بيننا لا يتوقع أو لا يجب أن يتوقع الشعور بالسعادة طيلة الوقت، فلا بد من حزن أو كآبة تصيبه في بعض الأحيان. إلا أن لا يرى امرؤ أملاً في سعادة قادمة على الإطلاق ولا يرى فروقا ذات أهمية في أحواله أو أملاً يرتجى من أن يصيبه والأمور عنده سيان مهما كانت مظاهرها أو عواقبها، فذلك هو (الاكتئاب الإكلينيكي) بعينه.وهذه الصفة - (الاكتئاب الإكلينيكي) - لا بد أنها أصابت أبا العلاء المعري فعبر عنها هكذا:غير مجد في ملتي واعتقادي ** نوح باك ولا ترنم شادوشبيه صوت النعي إذا ** قيس بصوت البشير في كل نادأبكت تلكم الحمامة أم غنت ** على فرع غصنها الميادإلى أن يقول:تعب كلها الحياة فما أعجب ** إلا من راغب في ازديادأن حزنا في ساعة الموت ** إضعاف سرور في ساعة الميلادوعندما كنت ادرس الطب اخبرني أستاذ الطب النفسي أن الاكتئاب نوعان: (الاكتئاب الرد فعلي) الذي سببه واضح للعيان كأن يحصل بعد وفاة شخص عزيز أو فراق محب لحبيبه (والاكتئاب الداخلي) الذي ليس له سبب مقنع وبين، واتضح لاحقاً أن النوع الثاني أسبابه اختلاطات كيمائية في أجزاء معينة في المخ - وتحديداً - في مركز في الدماغ يعتقد انه يعنى بدرجة البهجة والسعادة عند الشخص، إذ يكثر فيه أو يقل إفراز مواد السعادة الكيميائية (الاندورفين وغيرها). وبالمناسبة هناك بحوث تقول أن التمارين الرياضية (وكذا أكل الشوكولاته) ترفع مادة (السعادة) في المخ، ولذا نشاهد الإدمان الذي يلي استعمالهما.ويبدو أن الاكتئاب الداخلي (ذو أبعاد وراثية أيضاً)، وثمة علاقة تربطه وثيقاً بالإدمان على الكحول.وبما أن أسباب الاكتئاب هي اختلاطات بيوكيمائية بالإمكان إصلاحها فيجب النظر إليه - أي مرض الاكتئاب- وإلى الأمراض النفسية الأخرى على أنها أمراض بيولوجية كمرض السكر أو رعاش الباركنسن اللذين ينتجان - هما أيضاً - عن اختلالات بيوكيمائية.وارى أن ابرع من عبر عن الكآبة شعراً كان امرؤ القيس، واعتقد أن جزءاً من اكتئابه كان (رد فعلي) (وهو الذي فقد ملكه وقتل أبوه) وجزء من اكتئابه كان (داخلياً) فقد كان مدمنا للخمر (وهو القائل ) اليوم خمر وغدا أمر).فيقول في كآبة هي من النوع الرد فعلي ناتجة لذكرى حبيب ومنزل (حزن الغربة):قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل ** بسِقط اللوى بينَ الدَخول فحوملِوقوفاً بها صحبي علي مطيهم ** يقولون لا تهلك أسى وتجملِوفي الأبيات التالية وصف للكآبة لا يضاهيه وصف - حسب رأيي:وليل كموج البحر أرخى سدوله ** علي بأنواع الهموم ليبتليفَقُلْت لَه لما تمطى بصلبه ** وأردف أعجازاً وناء بكلكلِألا أيها الليل الطويل ألا انجل ** بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلفعنده الأوقات كلها - ليلها ويومها - مدعاة للحزن والتعاسة لا فرق بينهما في ذلك وهذا يأتي في صميم المنظومة التشخيصية للاكتئاب.إلا انه ركز أكثر على الكآبة الملاصقة بالليل فوصفه كموج البحر المحمل بالابتلاء وهذا واقع علمي طبي معروف - أي ازدياد الكآبة في الليل ومضاعفتها الناتجة عن الأرق الذي يصاحبها.وفي المعاناة التي تصحب الليل قال الأمير خالد الفيصل في قصيدته النبطية (المعاناة):يا ليل خبرني عن أمر المعاناة ** هي من صميم الذات ولا أجنبيةهي هاجسن يسهر عيوني ولا بات ** أو خفقتن تجمح أبقلبي عصيةوقال المتنبي في نفور النوم وقت الحزن وساعة الكآبة:الحزن يقلق والتجمل يردع ** والدمع بينهما عصي طيعيتنازعان دموع عين مسهد ** هذا يجيء بها وهذا يرجعوالنوم بعد أبي شجاع نافر ** والليل معي وكواكب ظلع