في الشخصانية الأدبية
كتب: د. عبدالله بن أحمد الفـيـفيرؤى ثقافية1- -لعل من المهم في سياق مقاربتنا للحداثة الأدبية، ولا سيما قياس شعر العرب على شعر غيرهم، استحضار مفهوم (الشخصانية الثقافيّة)، بوصف قضية الشخصانية، حضورا وغيابا، هي البنية العميقة للأمر كله.ومعروف أن الفيلسوف المغربي (محمد عزيز الحبابي، -1993)، قد اشتغل على مفهوم الشخصانية، الذي أفاد فيه من الفلسفة الشخصانية لدى الفيلسوف الفرنسي (إيمانويل مونيه)، وذلك في مشروع نظريّ أنجزه الحبابي حول الثقافة الإسلامية، منذ كتابه (من الكائن إلى الشخص: دراسات في الشخصانية الواقعية)، 1962، وكتابه (الشخصانية الإسلامية)، ألفه بالفرنسية، ثم نقله إلى العربية، (القاهرة: دار المعارف، 1969)، وكتابه (من المنغلق إلى المنفتح)، 1961، بالفرنسية، ترجمه: محمد برادة، (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1971)، وصولاً إلى كتابه (من الحريات إلى التحرر)، (القاهرة: دار المعارف، 1972). حتى لقد عد الحبابي مؤسس الشخصانية الإسلامية. وتلك الإشكاليّة التي عني الحبابي بمعالجاتها هي إحدى الركائز الذهنية التي كان ينبغي أن تحضر في جدليّاتنا الفكرية والإبداعية مع الآخـر، الغرب تحديدا. غير أن هذا ما لا يعيره كثير من (الكائناتيين) انتباها، فإذا هم غارقون في التنظير للتبعية باسم الحداثة، أو في التنظير للانغلاق باسم الأصالة.والأثر الأدبي- نموذجاً - ليس سوى ملامح الوجه العام الكياني الإنساني والوجه الخاص الشخصاني الحضاري، الذي يتشكل من خلال الجينات الثقافية الخاصة، ليكون رحيق الوجهين ذلك: (الكلّي - الإنساني). ومن ثم فإن انتفاء تلك الفروق في الأثر عن الآخر، أو ذوبانها في قسمات الآخر، يعني تلاشي (الشخصية الإنسانية المختلفة)، وتفتت (القيمة الخلاقة المضافة)، على نحو جذري. وهو ما يفضي إلى إفقار الحضارة الإنسانية كافة، نتيجة انخراطها في بوتقة واحدة، ذات ملامح مستنسخة.2- -على أن الأدب العربي لم يكن في حاجة إلى بعض الاستعارات الغربية، من قبيل قصيدة النثر؛ لأن المادة مألوفة لديه منذ أكثر من ألف سنة. وما حدث لا يعدو- عند التمحيص- تزوير عملة! ما حدث ليس سوى استبدال اسم مترجم باسمنا العربي. ومن ثم مصادرة اسمنا الحقيقي، بتسمية ما كنا نسميه نثرا أدبيا: شعرا صريحا؛ بما ترتب على ذلك من مصادرة الجنس الأدبي المستقر الذي كنا ندعوه (الشعر)، في محاكاة ساذجة للآخر، لا أكثر. وتلك أغبى درجات التبعية الثقافية، والاستلاب الحضاري لنماذج الآخرين.ولا غرابة - والحالة هذه - أن لم تعد للعربي شخصية في العالم، ولا تأثير يذكر؛ لأنه ارتضى أن يكون تابعا، مقلدا، غاية حلمه أن يذوب في كأس الغريب. وهي ظاهرة غير جديدة، إلا في الحقل الأدبي، إذ لا تعدو كونها صورة من ظواهر الانسلاخ والتقليد، كأن يغير أحدهم اسمه- من يوسف إلى: جوزف مثلا، أو تبدل إحداهن اسمها من مريم إلى: ماري- كي يحلو الاسم في أفواه من شغفوهما وجدا! ذلك كل ما هنالك، أو بلفظ آخر- وباستعارة تسمية ابن الخطيب الأندلسي لأحد مؤلفاته: تلك هي: (نفاضة الجراب)، الدعائي والادعائي، حول قصيدة النثر.ولقد تسمع من مزايا قصيدة النثر الغراء إشادتهم بتلك اللغة اليومية التي تميزها. وأن لغة التراث - بزعمهم - والأوزان والقوافي معيقات كأداء دون ذلك! وطبيعي أن يكون النثر أحفى باللغة اليومية! ولكن أي تعبير عن قضايا الإنسان اليومية لدى هؤلاء؟ وبأي مستوى لغوي إنسانيّ كان - ودع عنك أن يكون أدبيّا - مع انبهام ما يكتبونه، وندرة من يقرؤونه؟ أين ذلكم كلّه مع ما يبدو من انغلاق قصيدة النثر، وتقوقعها باسم اليوميّ والهامشيّ والسهل، إلى آخر هذه الحجج اليومية والهامشية والسهلة؟ فيم تلك المزاعم، وقد باتت أدب انعزال، وانكفاء ذاتي، يجتر فيه أصحابه هذياناتهم الذاتية، لا يؤثرون ولا يتأثرون، ولا يسمعون ولا يسمعون، ولا يقنعون ولا يقتنعون؟ أضف إلى هذا أن تعبير الشعر عن اليومي البسيط خصيصة طالما عرفت في كلّ زمان شعري ومكان أدبي، وليست باكتشاف جديد. غير أنها لا تعني بالضرورة هذا النحو البارد، الذي إنما يأتي اليوم ذريعة لمن لا ذريعة له. فأن يكون (اليومي) حجة من لا يكاد يبين؛ إذ يريد انفتاق الجسد الأدبي لفضوله وتطفلاته، قائلا: (أنا إنما أتوخى البساطة)؛ فإن شعراء العامية، إذن، أكثر منه بساطة ويومية، مع امتيازهم عليه بالجماهيرية والتأثير! فما الجديد؟! ثم إن التعبير عن اليومي في الشعر لا يعني أن يصبح نثراً، بحال من الأحوال؛ ذلك أن هذا الميدان يظل ميدان النثر بامتياز، بصحافته، ونشرات أخباره، وتقاريره، وخاطراته. ولا مفخرة، لهذا، في منافسة الشعر للنثر في هذا المجال، إلا حينما يشعرن ذلك اليومي؛ أي حين يرتفع به إلى سماوات الشعر، لا حينما يستنسخ، كما هو، فيغرق في وحله الغارقون. هذا ناهيك عن أن ترى الواقع اليومي نفسه أبهى من النص، وأجمل منه وأشعر. وهو ما يلحظ كثيرا في ما يسمى بقصيدة النثر!إن عبقرية الفن عموما تتمثل في أن يرتفع بالواقع، وأن يخلق من الهامشي فنا رائعا رفيعا، أما أن يستسلم للواقع، وينغمس عاريا في مستنقعه، وربما انحدر دونه، فما تلك إلا وظيفة الضفادع، لا وظيفة الإنسان المبدع، الصناع! التعبير عن اليومي البسيط، أو شعرنته، إنما يمكن أن يتأتى من قبيل قول الشاعر جاسم الصحيح، [من قصيدة له بعنوان (عاشق أعشبت به العتبات)، (مجلة القافلة- السعودية، ع4 م60، يوليو- أغسطس 2011)، ص84- 85]، على سبيل الشاهد:أنت يا من فتحت أزرار عمري ** فهوت من قميصه السنوات!فهنا يتم نقل البسيط واليومي من عاديته إلى شعريته التصورية. ولعل في هذه الإلماحة ما يبين ما نعنيه. أما أن يأتيك أحدهم ليغثك بسرد الأشياء التافهة، وفي نصوص أتفه، فما ذلك إلا العي والأفن، وليس من الفن في قبيل أو دبير.3- -ومن الحجج الواهية أيضا التي تتردد لدى بعض مسوقي ما يسمونه قصيدة النثر: على أنها شعر، و(أبا عن جد!)، قولهم: إن النقص يعتور كلّ أشكال الشعر، والنماذج الضعيفة يعرفها الشعر العربي والتفعيلي أيضاً، فما بالنا- نحن خصوم التزوير في الأسماء- نصب جام تنقّصنا وتضعيفنا على قصيدة النثر؟ وهي حجة مغالطة. لأنها توهم بالاعتراف بأن قصيدة النثر (شعر) أساسا، وكل ما في الأمر أن هناك خلافًا (فقهيا) حول جودتها! ولذلك فليس هناك نصّ كامل الجودة، بطبيعة الحال! في تغافل عن أن جوهر الخلاف هو في (الهوية)، والنوعية، لا في درجة الجودة. من حيث إن قصيدة النثر ناقصة شعريا باستمرار، ومعاقة باطراد. وذلك ما يذهب إليه (جان كوهن)، في كتابه (بنية اللغة الشعرية). وما أظن أحدا سيتهم الرجل بأنها أصابته لوثة الفراهيدي، بحال من الأحوال، أو أنه من أرباب السوابق في الشعر العربي! يقول: (إنه يمكن للشعر أن يستغني عن النظم، ولكن لماذا يستغني عنه؟! إن الفن الكامل هو الذي يستغل كل أدواته. والقصيدة النثرية بإهمالها للمقومات الصوتية للغة تبدو، دائما، كما لو كانت شعرا أبتر.) (ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري (الدار البيضاء: دار توبقال، 1986)، ص52). فالرداءة في هذا الضرب من الكتابة تنجم عن سبب نوعي، وجوهري، لا لسبب مهاري، أو عرضي. وذلك السبب هو: (أنها نثر، لا شعر)، أريد لها أن تعتقل، وتسجن قسراً، في قفص جنس أدبي آخر، يسمى (الشعر)! فلا هي صارت شعراً، ولا بقيت نثراً! وموقفنا منها لا يأتي تعصبا ضدها، أو انغلاقا دون بلوغ شأوها، ولكن لأنها ببساطة: نثر- ربما كان جميلا- لا شعر، كما عرف الإنسان الشعر، مذ آدم حتى اليوم. وإن كانت فيها شعرية؛ فالشعرية (يجشمها الناس)، ويمكن أن تظهر بنسب متفاوتة في شتى ضروب الكلام. ولو اتفقنا على أن النص النثري داخل في جنس الشعر، لتلك التعلات الواهية البالية، لما بقي خلاف حول قصيدة النثر؛ لأننا حينئذ سنلغي هويات الأجناس الأدبية، لنسميها كلها باسم واحد، ونستريح؛ فكلّ نص جميل وشاعري ندعوه: شعرا! وهنا سيمدّ أبو تمام رجليه، منشدا:أما لو أن جهلك كان علما، ** إذن لنفذت في علم الغيوب![ذلك لأن ثمة فارقا جوهرياً بين مفهوم (الشعرية) وجنس (الشعر)، لا يود الملتزمون بما لا يلزم، من إقحام النثر في الشّعر، أن يفقهوه، ولا- إن فقهوه- أن يعترفوا به، ولا حتى أن يسمحوا لأنفسهم بالتفكير الجدلي فيه، بحياد، وتجرد علمي، بعيدا عن التعصب والتشنج، أو المحاماة التي لا تستند إلى قانون!