(توفيق الحكيم يتذكر)
إعداد/ إدارة الثقافةيكتب الروائي جمال الغيطاني في مقدمة كتاب (توفيق الحكيم يتذكر): (عرفت توفيق الحكيم من إبداعه الأدبي والفكري أكثر مما عرفته على المستوى الشخصي، وأعتبر ‘يوميات نائب في الأرياف’ من الدرر الثمينة في خلاصته الفن الروائي الإنساني، إنها واحدة من أجمل الروايات في أدب القرن. أما (زهرة العمر) فهو الكتاب الضروري لأي مبدع ينوي أو يشرع، إذ نتابع فيه تكوين الفنان المبدع كما يجب أن يكون، مازلت مبهوراً بالأسلوب الخاص لحكيم، والذي يتميز بوضوح وعمق وإيقاع يكاد يكوم مسموعاً).ويؤكد أن الحكيم كان من المتذوقين الكبار للغة، وانعكس هذا على لغته، (اقتربت منه أكثر في سنوات السبعينات، وكثيراً ما كنت أجده وحيدا في مكتبة الذي لم يغلق بابه قط يتصور الحجرة الفسيحة، كنت أجده في حالات عميقة من التأمل، وبعد رحيل ابنه الوحيد إسماعيل كان دائم الشجن. وفي لحظة قال لي يوما ‘في طفولته كان إذ يقترب منه، أطلب من أمه أن تأخذه بعيداً عني حتى أستمر في القراءة والكتابة، وهأننا لا أتلمس منه كلمة بالسمع ولا نظرة حتى، لقد ضعت ما صنعت ليتني لم أفعل).وفي الفصل الأول من الكتاب يتحدث الحكيم عن أبيه فيقول (أذكر أنني عثرت بين أوراق أبي على قطعة نحاسية، كنت ألعب بها، ولا أعرف معناها، كنت صغيرا جداً، وعندما بدأت ألم بالقراءة، قراءت عليها (مجلة الشرائع من كانت ختماً من تلك الأختام التي تطبع إيصالات الاشتراكات).ويستمر توفيق الحكيم في الكتب بالحديث عن والده، ورؤيته له، وتأثير ذلك في نفسه وتكوينه (كان شعور والدي القوي بالواجب والمسئولية يتضاءل تماماً أمام شعوره بالواجب كقاضي، لقد امتحن هذا الشعور بالفعل يوم أن عرضت أمامه قضية التعذيب المشهورة في البحيرة خلال الحرب العالمية الأولى، يوم أن دبرا الإنجليز مؤامرة ضد مدير البحيرة، وحكمدارها، تنكيلاً بهما: لأنها لم يظهراً روح التعاون معهم، وشم والدي رائحة التهديد والإرهاب تحوم حوله، وأحس بأن منصبه مهدد إذا عارض أو اعتراض، لم يلتفت إلا إلى صوت ضميره وحده، وحكم بعكس ما أراد الإنجليز، فكسروا حكمه وصارو عن أعاد النظر فيه).وعن ميلاده يقول الحكيم (روت والدتي أني هبطت إلى الدنيا في صمت، دون بكاء أو عويل، شأن الكثيرين من الأطفال، تحسبني نزلت ميتاً، والتفت الجميع إلى ناحيتي فوجدوني انظر - كما زعموا - إلى ضوء المصباح وإصبعي في فمي شان المتعجب ياله من زعم!).ويضيف (كان لا بد للمضي في المرحلة الثانوية، من إقامتي في الإسكندرية، واضطرت الأسرة بالفعل إلى إعداد منزل برمل الإسكندرية لهذا الغرض، وعولت على أن اجتهد من أول العام،لأ كون على الأقل من المتفوقين، وبدأت أتفوق بالفعل، ومضت أسابيع هذا الاجتهاد، وإذا بإعلان السينماتوغراف يلوح لي عن بعد كأنه شيطان، ولم أستطع مقاومة الإغراء ودخلت الحفلة السينمائية في الساعة السادسة، والتي انتهت في التاسعة، فما أن وصلت إلى المنزل، وفتحت لي والدتي شراعة الباب، وسألتني أين كنت حاولت الإنكار وهو لم يسعني إلا الاعتراف بالحقيقة ، فقالت (أمكث في الشارع إلى أن يأتي أبوك، ويتصرف في أمرك).ويقول إن والده علم بالقصة من والدته فهاج وماج، وأقسم أن أبقى خارج المنزل. منذ تلك الليلة اللعينة وأنا أسير في طريق الجد، وبدأ اهتمامي الحقيقي بالأدب العربي بفضل مدرس جديد للغة العربية جاءنا ذلك العام).ويتذكر (كانت أول تمثيلية لي في الحجم الكامل هي التي أسميتها (الضيف الثقيف) كل ما أذكر عنها - وقد فقدت منذ وقت طويل - هو أنها كانت من وحي الاحتلال البريطاني، وأنها كانت ترمز إلى أقاعة ذلك الضيف الثقيل في بلادنا دون دعوة منا).ويضيف (عندما أذهب إلى باريس الآن، لا أجد الأصدقاء القدامى، معظمهم ماتوا، جاستون فيتي توفي، تعرفت إليه في مصر، واشترك في ترجمة (يوميات نائب في الأرياف’. أما الأماكن التي عشت فيها فقد تغيرت. في سنة 1972 سافرت إلى فرنسا بهدف واحد و هو زيارة الأماكن التي عشت فيها، ووصفتها في كتابي (زهرة العمر)، ذهبت إلى المكان كنت أقيم فيه، ذهبت أبحث عن الحجرة التي عشت فيها فلم أجد الحي بأكمله. في باريس وجدت مناطق لم تتغير، تلك التي تقع في مكب ميدان قوس النضر الأوبرا، مقهى كافية دي لابيه الذي مازال على نفس هيئته القديمة، مقاهي الحي اللاتينية أيضاً تغيرت وتلك المقاهي كنت أتردد عليها أثناء أقامتي في باريس كذكلك مقاهي منطقة موغاروتو!).ويشكو الحكيم تغير أحوال الحياة والثقافة (زمان، كانت الرواية الجيدة تظهر فتهز الواقع الأدبي. أما الآن فكل عمل يظهر هناك في حاجة إلى مقدمة وإلى خطة للدعاية).ويقول (قبل ذهابي إلى فرنسا كنت أكتب مسرحيات للتسلية لا تحتوي على مواقف أو قضايا فكرية، لكنني بعد ذهابي إلى باريس واستيعابي للثقافات العميقة بدأت مرحلة أخرى مختلفة تماماً في الكتاب، ربما كانت بدايتها أهل الكهف، ولكنني لم أكن أتعمد تضمين مسرحياتي قضية فكرية معينة لكي تصبح أكثراً عمقاً، كل شيء تم بتلقائية وبساطة هذا التعمد الفكري، ربما تجده عند عباس العقاد وكان -رحمه الله- له قيمة فكرية وأدبية لكنه كان يعتمد الصعوبة، الكلمة السهلة يرمي بها جانباً، ويستخدم كلمة صعبة بدلاً منها، وأظن أن هذا يرجع إلى رغبته في إثبات ثقافتة، وأنه يفهم أكثر من المتعلمين، كانت كتابته - رحمه الله - فيها تعالٍ تماماً مثل كان يكتب حتى لا يفهمه أحد، وإذا مثل له إن ما كتبته فهم بسهولة فإنه يحزن).ويضيف (بعد أهل الكهف) ، فكرت أن أكتب بعض ماكبته الأوروبيون، أن استوحي موضوعاً من التراث العالمي، وهكذا اتجهت إلى (أوديب) لسوفكليس، إننى عندما كتبت أوديب ورفعت أشياء معينة بحكم عقيدتي الإسلامية، وهي فكرة الآلهة ودورها في المأساة، عندما كتبت أوديب قلت إن الله لا ينتقم من البشر بهذه الطريقة كما جرى في الأصل).ويتمسك توفيق الحكيم بمسرحيته (شهرزاد) التي ترجمت إلى الإنجليزية، ويقرأ بعض السطور من المقدمة:و(يقول روبير كامب عن مسرحيتي شهرا زاد ‘تحت هذا الاسم المثير للأحلام وللخيال، لا تبحث عن الزخرف الشرقي الجميل المثير شغفنا به، وعن بذخ الشرق الذي تواطأنا على المراد منه…).ويتوقف توفيق الحكيم عن قراءة أوراقه، ويستمر في الحديث (لم أسع في شهرزاد إلى تصوير الإطار الخارجي المبهر الذي كان يمكن أن استوصيه من ألف ليلة وليلة، لم أحول تقديم الرقصات والجو الشرقي. لقد لفتت شهرزاد أنظار الأوروبيين، ليس باعتبارها عملا فنيا يعتمد على إثارة المتفرج بالشكل وبجو ألف ليلة وليلة، ولكن يغوص في أعماق النفس البشرية أولاً وعندما ترجمت شهرزاد، كنت حسن الحظ ، إذ ترجمها إلى الانجليزية شاعر اسمه كريسترفريايكسي فأسبغ عليها روحاً شاعرية، لهذا نجح العمل المترجم، والأهم من ذلك أن يقوم بالترجمة شخص أوتي قدراً من الحساسية والفهم هنا يمكن القول أن هذه ترجمة حقيقية).