الغريب أن نسمع اليوم في اليمن من يقول ويكتب عن ( أن الإسلام لا يعرف ولا يعترف بأي سلطة كهنوتية تدعي الوساطة بين الله وخلقه ، وأن قياس الإسلام على المسيحية قياس باطل من أساسه فالمسيحية تقوم على نظام كهنوتي معترف به، له سلطانه، ونفوذه وأملاكه ورجاله على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم في سلم القيادة المسيحية ولا يوجد هذا في الإسلام ) وتعليقا على القول المذكور أولا أتفق مع ما يذهب إليه مؤلفا الكتاب المذكور في الفقرة المشار إليها من أن الإسلام كدين لا يعرف ولا يعترف بأي سلطة كهنوتية تدعي الوساطة بين الله وخلقه فالدين الإسلامي كدين بريء من أي وساطة كهنوتية، وثانيا: أن جميع الدول الغربية والأمريكية والأوروبية هي اليوم ليست دولا دينية بل علمانية ولكل منها تطبيقه واجتهاده الذاتي الخاص في تطبيق العلمانية ولم نسمع عن أن أيا من هذه الدول تناصب الدين كدين العداء أو تدعو للحرب على الدين أيا كان هذا الدين ففي ظل هذه الدول العلمانية ( الكافرة) يعيش مئات الملايين من المسلمين ولهم جميع حقوقهم الدينية الكاملة ولا تتدخل الدولة في حياة الناس العبادية وشعائرهم وطقوسهم الدينية الخاصة بهم بل إنه في معظمها يسمح لهم ببناء مساجدهم الإسلامية الخاصة ومراكزهم الثقافية الدينية .. باستثناء دولة أو دولتين حادت عن هذا الحق وهي دول مسيحية بمعنى انتماء غالبية أو معظم سكانها للدين المسيحي وليس بمعنى أن الدولة مسيحية دينية، علما أن مشكلة بناء الكنائس في مصر ما تزال إحدى دوائر العنف والاضطراب في مصر اليوم.والاهم أن الكنيسة اليوم في الغرب المسيحي تمارس دورها كمؤسسة دينية لا دخل لها في شأن السياسة والدولة، ثالثا: أن المؤسسات الدينية الإسلامية (سنة أو شيعة) لها أملاك الأوقاف ... وأملاك الحوزات وملكية المؤسسة الدينية ( الحوزات) وهي في إيران وفي العراق تصل في الشهر الواحد لأرقام كبيرة من ملايين الدولارات، في العراق حسب إحصائية أوردها د. فالح عبدالجبار في مقاله في صحيفة الحياة اللندنية والحقيقة أن أرقام الأرصدة المالية للحوزات الإيرانية الآتية من مصادر الضريبة ( الخمس) وغيرها تصل إلى عشرات إن لم يكن أكثر من مليارات الدولارات المستثمرة في جوانب اقتصادية ومالية مختلفة.ومعلوم اليوم أن الحركات السياسية في كل المنطقة العربية ( المشرق والمغرب) هي من أكثر وأغنى الحركات السياسية الإسلامية ولهم استثمارات مالية واقتصادية وتجارية كبيرة داخل بلدانهم أو في خارجها وقدراتهم الهائلة على تمويل الانتخابات وإشراك المال السياسي في دعم انتخاباتهم أكبر دليل على ذلك ومصادر ذلك عديدة ومتنوعة ( السعودية ودول الخليج والدول الإسلامية في العالم الإسلامي إضافة إلى التبرعات الداخلية) ثم ماذا تسمى ظاهرة ( المطاوعة) العاملين تحت اسم ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في السعودية.. ونماذجها بدأت تنتشر في أكثر من بلد عربي بما فيها اليمن لفرض إسلامهم الخاص على الناس بالقوة والإكراه مع أن القرآن الكريم يقول في محكمة كتابه ( لا إكراه في الدين..) ( وجادلهم بالتي هي أحسن..) وقوله تعالى ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)،( آية 29 الكهف).صحيح أن الدين الإسلامي كدين لا يعترف بالوساطة والرهبنة والكهانة بين الله وخلقه ومع ذلك فعلى صعيد الممارسة والتطبيق السياسي والاجتماعي التاريخي عرفنا أنظمة ودولا حكمت باسم الدين الإسلامي وقدمت وما تزال تقدم أسوأ نماذجها في التاريخ السياسي للدول .إن حديث البعض اليوم عن دولة إسلامية وخلافة إسلامية يذكرني بالشعار السياسي الذي رفعته القوة الإمامية والملكية بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م قبل مؤتمر الطائف وبعده فقد رفع مؤتمر الطائف 1965م شعار (الدولة الإسلامية) ( والدولة الدينية) في مواجهة جمهورية سبتمبر وثورة 26 سبتمبر ولا أرى في حديث البعض اليوم عن دولة دينية ودولة إسلامية أو حديث ( عبد المجيد الزنداني ومحمد الصادق المغلس وغيرهما) عن دولة خلافة إسلامية سوى رجع صدى لخطاب القوى الإمامية والملكية في مواجهة ثورة الشباب الشعبية ومطالبتهم بقيام دولة مدنية دستورية حديثة دولة تقوم على عقد اجتماعي مدني، مصدر وصاحب السلطة فيه هو الشعب وحده وكما يرى المفكر الإسلامي خالد محمد خالد ( لكي يكون الشعب حرا يجب أن يسود ولكي يسود يحب أن يحكم وهذه هي الديمقراطية حكم الشعب) وفي هذا السياق، وتأصيلا لحكم الشعب وسيادته ورفضا للدولة الدينية يقول الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه الآخر ( من هنا نبدأ) ( أن أجل خدمة نؤديها للدين أن نجعله قريبا من قلوب الناس ، عميقا في نفوسهم وتطعيم الدولة والمجتمع بروحه الحي ومعنوياته الفاضلة، لأنك أن تأتي بحكومة تستغله في تقديس ذاتها وتبرير أطماعها واستكراه الناس لجبروتها وأن الدين يجب أن يظل كما أراده ربه نبوة لا ملكا، وهداية لا حكومة وموعظة لا سوطا ( …) وحيث أن الدين شيء ودعاة الدين و الحكومات الدينية شيء آخر ولا يعد الطعن في هؤلاء الدعاة أو في هذه الحكومات طعنا في الدين(…) فالدين حقائق خالدة ثابتة أما هؤلاء الدعاة ومتولو شؤون هذه الحكومات فهم بشر من الناس يصيبون ويخطئون) وحديث المفكرين الإسلامين وكذا فتاوى رجال الدين الإسلاميين - بمن فيهم رجال الدين المستنيرون حول قضايا الدولة وبنائها وشروط قيامها ومفهومها هي اجتهادات إيديولوجية سياسية وليس القول الفصل الديني القرآني، وكذلك فإننا لا نرى في حديث البعض اليوم عن دولة دينية أو دولة إسلامية أو دولية مدنية دينية وهي حالة جمع بين المتناقضات التي لا تجتمع كما يصرح البعض أو دولة خلافة إسلامية سوى معارضة أو مقاومة ماضوية لمشروع الدولة المدنية الحديثة الذي يقول به شباب الثورة بمختلف تياراتهم ومكوناتهم وهي اليوم دعوة دينية لدولة ثيوقراطية في شروط عصر مغاير ولا تمتلك أدنى شروط ومقومات القدرة على الوجود والحياة وهي دعوة سلفية ماضوية صلتها بالسياسة والمصالح أكبر وأعمق من صلتها بالدين الإسلامي الذي لم يقل بالدولة الدينية ولم يعرف في تاريخه دولة دينية بالاسم الصريح للدولة الدينية أو الإسلامية فقط الحكام ( الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء والأئمة) هم من كانوا يلحقون بأسمائهم العديد من الصفات والنعوت والألقاب الدينية لأهداف سياسية سلطوية ( دنيوية) مثل الحاكم بأمر الله، الناصر لدين الله، المتوكل على الله، المستنصر بالله المستعظم بالله، مع أن الخليفة عمر بن الخطاب اكتفى بلقب أمير المؤمنين بدلا من خليفة رسول الله ودلالة تسمية عمر بن الخطاب هنا تحمل دلالة سياسية اجتماعية بشرية تعني علاقة بين حاكم ومحكوم علاقة بين رئيس ومرؤوس حددها في خطاب توليه الخلافة في صورة العقد الذي قدمه للناس بعد مبايعته سبق أن أوردنا مختصره، وهو لا يختلف عن قسم تولية الخليفة أبوبكر الصديق .ويمكننا القول أن معظم الدول العربية الإسلامية التي تدعي أنها دول إسلامية أو تحكم باسم الدين الإسلامي هي من أكثر الدول والأنظمة ابتعادا عن روح الدين الإسلامي والأكثر إغراقا في الاستبداد الثيوقراطي وفي التخلف الاجتماعي بدءا من السعودية ونظامي جعفر النميري والبشير ومعهم د. حسن الترابي إلى نظام دولة باكستان ودولة طالبان حتى دولة ولاية الفقيه المذهبية في جمهورية إيران الإسلامية.فلا يزايدن أحد علينا اليوم في الحديث عن نموذج لدولة تدعي صلتها بالدين وتحكم باسمه ولا يشار إليها بالبنان بأنها دولة ثيوقراطية مستبدة وكهنوتية تستخدم الدين الإسلامي أداة ووسيلة لخدمة السلطة والسلطان .. وهنا أجد نفسي متفقا مع ما يقوله المفكر الإسلامي الأستاذ خالد محمد خالد (فما حاجة الدين إذا إلى أن يكون دولة؟ وكيف يمكن أن يكونها وهو عبارة عن حقائق خالدة لا تتغير بينما الدولة نظم تخضع لعوامل التطور والزمن المستمر، والتبدل الدائم ؟ وهل الدين أدنى مرتبة من الدولة حتى يتحول إليها ويندمج فيها ؟ ثم إن الدولة بنظمها الدائمة التغيير عرضة للنقد والتجريح وعرضة للسقوط والهزائم والاستعمار فكيف تعرض الدين لهذه المهاب أو بعضها أن الذين يريدون أن يجعلوا الدين دولة، ويؤمنون بوجوب قيام حكومة دينية يبررون ذلك بثلاثة أمور: الأول: القضاء على الرذائل والثاني: إقامة الحدود والثالث : تحرير البلاد والعمل لاستكمال استقلالها وإنعاش أهلها) والأمور والقضايا الثلاثة التي أشار إليها الأستاذ خالد محمد خالد يمكن أن تقوم بها أي دولة مدنية ديمقراطية حديثة تقوم على العدل والحرية والمساواة بين الناس ، كما أن إجابات التاريخ السياسي العربي الإسلامي حول الأسئلة الثلاثة اختلفت وتعددت بل وتناقضت فليست إجابة خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبعدهما عمر بن عبد العزيز هي إجابة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان وولده يزيد ولا هي إجابة أبي جعفر المنصور وعبد الملك بن مروان حتى الخلافة العثمانية وصولا لإجابة الدولة الوهابية السعودية والإثني عشرية الشيعية الإيرانية (الجمهورية الإسلامية) حتى دولة طالبان و إرهاب القاعدة وجميعهم يقولون إنهم يحكمون ( بما أنزل الله) .
|
آراء
مقاومة الدولة المدنية بمشروع نظام الخلافة
أخبار متعلقة