تحقق العتبات الشعرية أفضلية في مكونات الفضاء النصي، ذلك لأن العتبة كينونة مصاحبة وشرطية لكينونة النص، فلا نص بدون عتبات ولا العكس، فالعتبات مكون جوهري في كينونة النص، وكينونته مستمدة منها أيضاً، حيث تتبلور طبيعة أي منهما وتتحدد ماهيته ومبادئه في ضوء علاقته الجدلية بالآخر، وفي ظل تداخله وتكامله معه.من هنا تنبثق هذه الدراسة، وتنطلق أيضاً في بحثها وتنقيبها في عتبات النص الشعري، على اعتبار أن العتبة ليست مجرّد مدخل، أو مخرج، أو إشارة مرور، أو وسيلة مواصلات نصية، إنها كما توضح هذه الدراسة - فضلاً عن الأوصاف الإنشائية لتجلياتها الوظيفية - عنصر شرطي لبناء النص، وعنصرٌ ضروري لتلقيه، وكعتبة الدار لا يمكن تجاهلها، أو النفاذ من دونها، كما لا يمكن حذفها من مخططات البناء، وفصلها عن الخصائص البرجماتية والجمالية المعمارية، فهي جزء لا يتجزأ من النص، هذا الكائن المتخلق - بالضرورة - على أساس تكاملٍ عضويٍ بين المتن والعتبات.وبالرغم من الاضطراب والتعدد الاصطلاحي والمفهومي لتحديد العتبة، تبعاً لكون العتباتية ظاهرة نصية وتناصية ترتبط بتحديد ماهية النص أولاً، فإن هذه الدراسة تضع رؤية مبدئية للعتبات باعتبارها ظاهرة تتحقق في أي (عنصرٍ بصري أو صوتي أو ذهني أو سياقي، مصاحبٍ للمكون اللغوي للنص (المتن)، بشكل وظيفي، يؤثر في تشكيل بنية النص، وفي عملية تلقّيه وتحليله وتأويله..)، وبشكلٍ تمثيلي، فإن عنصراً ما، ربما كلمة، أو إشارة، أو رمزاً ، أو أيقونة، أو لوناً، يمكن أن ينال استحقاقاً عتباتياً، إذا ما صاحب النص بشكل مخطط وهادف.على أن البحث والتنقيب في العتبات هو تنقيبٌ يجري في صميم العملية النصية والشعرية نفسها، في الشكل والمضمون والقيمة والماهية والوظيفة والخصوصية، ومع ذلك فله غواياته المحرضة على الاشتغال عليه بحثاً عن إجاباتٍ، وربما عن مزيدٍ من الأسئلة التي تزجي الحراك النقدي، بما يثري أو يعمق الرؤية والممارسة النقدية والشعرية معاً.لأجل ذلك عمدت الدراسة إلى الانفتاح على المناهج النقدية المختلفة، حداثية وما قبل وبعد حداثية، بالشكل الذي اقتضته طبيعة النص الشعري، في انفتاحه خارج بنيته على مختلف انساق الحياة والكتابة والفن، كما أملته طبيعة الخطاب العتباتي في محافله المؤسسة على تكامل الشاعر والشعر والمتلقي، والأنساق والمحافل المتكاملة والفاعلة بشكل جوهري في صناعة الشكل والبنية النصية والعتباتية للرسالة النصية والشعرية.وبشكل خاص؛ تبنت هذه الدراسة المشروع النقدي للناقد الفرنسي جيرار جنيت الماثل في مؤلفاته (مدخل إلى النص الجامع) و(طروس) الأدب على الأدب، و(عتبات)، وهذا الأخير دراسة خاصة بالعتبات، قَدم عبدالحق بلعابد قراءة شارحة تفصيلية ومختصرة عنه في كتاب “عتبات،جنيت، من النص إلى المناص).كما أفادت الدراسة من نتاجات الحراك النقدي الذي أحدثه مشروع جنيت مؤخراً في الوسط النقدي العربي، حيث صدر عدد كبير من المقالات، وقليل من الكتب التي تعرضت له منهجياً وتطبيقياً.وفي ضوء حقيقة أن الظواهر والأساليب والخصائص الفنية والإبداعية هي حصيلة مقارنة بين متغيرات الأعمال والتيارات والعصور والأجناس الفنية والإبداعية؛ اتكأت الدراسة، ومن زاويتها العتباتية، على مجالات وأدوات المقارنة، للبرهنة والاستدلال على خصائص الشعرية المعاصرة، كامتيازات فنية ونوعية وثقافية وعصرية وإنتاجية وتداولية، لا يمكن تحريها والتأكيد عليها دون أدوات المقارنة، التي اقتضت في سياقات المعالجات العتباتية الالتفات إلى الأبعاد التاريخية والأجناسية والثقافية للمفاهيم والظواهر الأدبية والعتباتية لرصد تناميها وتحدرها، ومن شأن كل ذلك مراكمة رصيد من المعطيات المهمة التي تمكّن من تأصيل وتفسير وتأويل وحل إشكالات، وقراءة ظواهر الشعرية المعاصرة وفق رؤية أعمق وأكثر اتساعاً.في إطار ذلك كله فقد استطاعت الدراسة أن تتحول إلى مختبرٍ نقدي لجملة من الفرضيات المتعلقة بموضوعها، وجوانبه التي تتسلسل حسب تسلسل مفردات عنوانها الذي يبدأ بسؤال العتبة، وينتهي في حيثيات المعاصرة.وبشكل أعمق فقد اشتغلت الدراسة على معالجة واختبار منهجية الفرضية المركبة المتلخصة في أن: النص الشعري العربي المعاصر، ليس كذلك، إلا بفعل منظومة عتباتية متكاملة، لها عناصرها وعواملها ومعطياتها التي تبئر لخصائصه وخصوصياته النصية والجنسية والنوعية والوظيفية والتداولية، وتدفع المتلقّي إلى النظر إليه والتعاطي معه كنص شعري عربي معاصر.تبعاً لذلك اعتدت الدراسة اختبار عينة تطبيقية، تعبر في جانبيها الكميّ والكيفي عن الشعرية العربية المعاصرة، في بعضٍ من أهم رموزها ونماذجها، وأكثرها تمثيلاً لخصائص المعاصرة الشعرية العربية، في ممارسة الجنس الشعري والأنواع الشعرية، العمودي، والتفعيلة، والنثري، التي تتكامل وتتفارق في تخليق المشهد الشعري العربي المعاصر، والذي لا يمكن مقاربته بدرجة مقبولة من التمثيل في عينات محدودة فليست الشعرية المعاصرة بنية نمطية أحادية، أو ظاهرة سكونية معزولة، كما يمكن أن يصورها الانحصار في حدود عينة شعرية ضيقة، أو تيار شعري محدد، أو الاقتصار على النظر إليها من الداخل! إنها بابل من الأشكال والإشكالات والتجاوزات والاختراقات، وفوضىً خلاقة ملبدة بأهوال إشكالاتها النظرية التي لا يمكن تبديدها، لتوصيف هذه الشعرية، دون النظر إليها من الخارج أيضاً، ودون البحث عن المنابع والمؤثرات والعوامل التي خلقت هذا الثراء والتنوع على صعيد الشعر والشاعر والفضاء التداولي.إذ حددت الدراسة مجالها التطبيقي المختار في أشعارٍ لكلٍ من: أدونيس، وأمل دنقل، وأنسي الحاج، والبردوني، وخليل حاوي، والسياب، ومحمود درويش، ومحمد القيسي، والمقالح، ونزار قباني. كما قفزت الدراسة في أحايين إلى الاستشهاد في تفاصيل محدودة من خارج العينة التطبيقية، بما يخدم السياق النقدي ويعزز الرؤية العامة كما ترى.وقد عُنيت الدراسة في الأفق العتباتي لعينتها التطبيقية هذه؛ بتقصّي أكبر عدد ممكن من أهم وأبرز الظواهر والمظاهر العتباتية، في فضاءات العمل الشعري والقصيدة، وصولاً إلى عتبات الكيان النصي، بما يجيب عن التساؤلات، ويختبر الفرضيات المتعلقة بالشعرية العربية المعاصرة، في عمومياتها الجنسية، وتدافعاتها النوعية، وخصوصياتها التأليفية.قبل ذلك؛ وعلى نحو من التمهيد المتسع والتأصيل النظري؛ عمدت الدراسة إلى بناء وتأثيث مداخل نظرية، عبر محاور عدة، ممهدة لقضيتها العتباتية بتوفير الأرضية النظرية للعتبات، كماهية ومفهوم، ومنهج نقدي، وظاهرة نصية، لها أبعادها التاريخية، بدءاً بعرض العتبات المصطلحات والمفاهيم والمبادئ، كظاهرة ومنهجية نقدية تم التعامل مع محددات “جنيت” لها بإيجابية تضمنت المراجعة والتعديل والتوسيع، بما يعبر عن رؤية الباحث، وقراءته لواقع الشعرية العربية المعاصرة، وتاريخها الثقافي.كما تناولت الدراسة محاور أخرى كالبعد التاريخي للممارسة والوعي العتباتي، في التراث العربي خلال الثقافتين الشفاهية ثم الكتابية، وفي مجالات الشعر والنثر والنقد، الأمر الذي بجانب كشفه عن ثراء أشكال الممارسة العتباتية، وعراقة الفقه العتباتي في هذا التراث، مثل دعوة لاستقراءات أشمل لأشكال الممارسة والوعي العتباتي في التراث العربي، لبلورة رؤية متكاملة عن ذلك، وتوفير مادة مقارنة هامة لمعالجة الظواهر الشعرية والعتباتية المعاصرة، واستقراء ملامح الجِدة والأصالة فيها.وعنيت الدراسة في بابها الأول بالاستدلال والبرهنة على فرضية أن العمل (الكتاب) الشعري المعاصر، ظاهرة كتابية قرائية، تتأسس على الإنتاج الكتابي، والتداول الطباعي، وتتذرع إلى التلقي بمنظومة مركبة من العتبات البصرية التي تعمل على استقطابه، كما تعمل على إبراز خصائص العمل الجنسية والنوعية والشكلية والمضمونية والتأليفية والثقافية، بدرجات متفاوتة من الوضوح والتعقيد.تضم هذه المنظومة عتبات لغوية ومادية وأيقونية، تتمركز على جوانب الغلاف الشعري، والصفحات الأولى من العمل، بأبعادها المتصلة بواقع الشعر المعاصر وظواهره وقضاياه، مما تشتمل عليه بيانات النشر، والعنوان واسم الشاعر والإشارة التجنيسية، ثم المقدمة.إن تفكيك البداهة الخادعة لأيٍّ من هذه العتبات المهمشة تقليدياً، يفتح الدرس النقدي على كمٍ كبير من الأسئلة والإجابات والإشكالات المحورية في تحولات وقضايا الحداثة والمعاصرة الثقافية والإبداعية، ويبلور أو يعيد بلورة رؤى ومفاهيم جديدة لظواهرها، من واقع السياقات والأطر الجديدة للممارسة والتلقي الإبداعي، وقضاياها وأبعادها النقدية والثقافية، فالإشارة التجنيسية على سبيل المثال، لم تعد إشارة بديهية إلى مسلمة ثابتة، لم يعد للجنس الأدبي ماهية واضحة محددة بحسم، ليشكل حضور أو غياب الإشارة التجنيسية على الغلاف الشعري المعاصر، نافذة عتباتية على قضية جدلية نسبية، في ظل ظاهرة التداخل الأجناسي وإبدالات الحداثة الشعرية، وإشكالات الجنس الأدبي.وكذلك اسم المؤلف، كقيمة وأهمية نسبية متراوحة بتراوح مناهج النقد الأدبي، في ارتكازها على أحد أركان ثلاثية المؤلف، النص، المتلقي. وكذلك الشأن في بقية عتبات هذا الباب الذي اهتم في كل عتبة بمعالجة أبعادها المختلفة، بقدر تركيزه على خصائص تجلياتها الحديثة، والبرهنة من خلالها على حداثة رافدة وحاضنة.في الباب الثاني عنيت الدراسة باستقراء واستنطاق وتحليل العتبات الأكثر قرباً ومحايثة وتداخلاً بالنص الشعري المفرد (القصيدة)، على أكثر من مستوى، ففي الفصل الأول (عتبات الفضاء النصي) تحركت الدراسة على تخوم هذا النص (القصيدة)، والنصوص العتباتية المحايثة للمتن، والتي تتمركز على حوافه، وتدور حول فلكه، كما قد يتجلى بعضها على مستوى العمل، كالإهداء والتصدير والاقتباس والهامش، كظواهر عتباتية كتابية لبعضها تاريخها الثقافي، لكن مبادئها الشكلية والمضمونية والتواصلية والمرجعية في الشعر المعاصر، تؤكد على حداثة شعرية، تحققت في بنية النص الشعري، وطبيعة محافله التداولية، تأسيساً لعلائق تفاعلية جديدة بين الشعر والشاعر، ومحيطه الاجتماعي والفكري، وبين الشعر وفصائل التأليف الأخرى، في التراث العربي والإنساني، وبين الشاعر والمتلقي المعاصر.تثبت هذه العتبات أكثر من غيرها مدى إيجابية وتجاوب الشعر والشاعر المعاصر مع الحياة المعاصرة، ومدى اتّكاء القصيدة المعاصرة، كظاهرة بصرية كتابية، على عتبات بصرية كتابية ملائمة للأرضية المعرفية والتقنية للعصر، من أجل تلقٍ قرائي أكثر استبصاراً وجودة، وربما توافقاً مع رؤية الشاعر.على أن الدراسة توغلت في فصلها الثاني (عتبات الكيان الشعري) في المساحة الأكثر داخلية وتداخلاً بالبنية النصية والعتباتية للنص الشعري المعاصر، وعلى أكثر من جانب ومستوى، حيث السواد والبياض يتكاملان في ترسيم خصائص جغرافية الكيان الشعري، وتضاريسه الكيفية والكمية، رأسياً وأفقياً، بما يعكس مستجدات الرؤية والممارسة الشعرية المعاصرة، في ثراء الممارسة بالأشكال البنائية والنوعية والتداخلات الأجناسية، وثراء النظرية بالقضايا والإشكالات المرحلية والفنية والثقافية، خلال ذلك تتأكد وبدرجات متفاوتة بصرية القصيدة المعاصرة، حتى في الشكل العمودي النمطي، كما يتأكد كون الشكل البصري للقصيدة المعاصرة، في معظم تجلياته، ليس معطىً قبلياً جاهزاً لكتابة الجنس أو النوع، وتمثيل قيمه الصوتية الإنشادية، كما في القصيدة العمودية التقليدية وبعض الشعر الحر، بل قيمة بنائية تتخلّق مع التجربة الشعرية، وتمثّل وتتمثل خصائصها الأسلوبية في الانبناء والتلقي.على محور آخر تم استقراء الشكل الكتابي الطباعي للقصيدة المعاصرة للتدليل على حداثة شعرية عربية، تتجاوز مجرد اعتمادها الشكل البصري الخطي لتداوليتها، إلى استثمار مقدّرات الخط العربي، والمناورة بمتغيرات الكم والكيف واللون والنوع الخطّي في بناء شعرية القصيدة وأسلوبيتها في تشكلها ومعناها.تتعزز هذه الحداثة البصرية من خلال استئناس الشعر المعاصر لمنظومة كبيرة من العتبات العلاماتية البصرية، كعلامات الترقيم والرموز والأرقام الرياضية، والأشكال، وتطعيم القصيدة بها، والاعتماد عليها بجانب اللغة في بناء القصيدة وشعريتها، وتحديد وتوجيه البني الدلالية على مختلف المستويات.تخلص هذه الدراسة الماتعة والمعمقة إلى نتائج عامة تتصل بقضايا النص والعمل والمعاصرة الشعرية في الثقافة العربية على الأقل مما عالجته الدراسة بشكل عام واجتهدت في محاولة الإجابة عن أسئلته التي تبحث عن ماهية النص والعمل والشعر والمعاصرة من زاوية العتبات.فكون النص نتاجاً لالتقاء استراتيجي بين المتن والعتبات، يسهم في الإجابة عن سؤال النصية، وهو ما الذي يجعل من خطابٍ ما نصاً؟ من هنا يمكن افتراض أن أي خطاب لغوي دال يمكن أن يعد نصاً ولو في الحد الأدنى من تحديد بنيته، أي أنه لا بد لأي خطاب أن يتسور ولو بالحد الأدنى من العتبات ليكون نصاً!وهو ما يعني أن العتبات بتداخلها واندغامها مع المتن هي التي تجعل من الخطاب نصاً، كما أنها ـ أي العتبات ـ على مستوىً آخر هي التي تجعل من النص عملاً قابلاً للانخراط في الوسط التداولي تبعاً لتقنياته الكتابية.
|
فنون
العتبات الشعرية .. المفهوم والتشكيل
أخبار متعلقة