* الإيقاع الداخلي (غير المباشر): إذا كنا، في المحور السابق، قد وقفنا على عناصر الإيقاع المباشر وتجلياته، فإن عناصر الإيقاع غير المباشر وتجلياته في قصيدة النثر، لا تكشف عن نفسها بطريقة اعتباطية مباشرة، بل إن الوقوف عليها واكتناه أسرارها وقيمها يحتاج إلى دراية ودربة نقدية كافية، و إن كنت لا أدعي ذلك، لأن حركة الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر، ليست حركة لفظية كما رأيناها في الإيقاع المباشر، وإنما هي حركة ذهنية تشبه الموسيقى الشعرية، بوصفها حركة نفسية أو ترجمة صوتية عن تجربة الكاتب، هدفها إعانة اللغة على أداء المضمون الروحي للكاتب. لكن ما ينبغي الإشارة إليه، وهو من الأهمية بمكان، هو أن طبيعة الإيقاع بشكليه المباشر وغير المباشر ذو طبيعة متداخلة تداخلاً عضوياً، لا يعمل أحدهما بمعزل عن الآخر، و هناك محاولة نقدية جادة ، لتحديد مرتكزات الإيقاع الداخلي أو غير المباشر في قصيدة النثر، منطلقة من خصوصية اللغة وفضائها الموسيقي ، راصدة سبع ممكنات، ترى أنها بالإمكان أن تحقق قدراً من الإيقاع الداخلي لقصيدة النثر، يمكن مناقشتها في ضوء واقع النصوص المختارة :1 - استثمار إمكانات الإيقاع البصري الناشئ عن الشكل الخطي والطباعي الشبيه بقصيدة الشعر الحر أو القصيدة المدورة أو بالأشكال الهندسية والإفادة من العناصر التشكيلية البصرية لخلق إيقاع بصري على المستوى السيكلولوجي وإن لم يتجاوزه صوتياً. ولا شك أن قصيدة النثر أدركت أهمية المنظور الخطي واستفادت من هذه الإمكانية ، لأنها أكثر التصاقاً بطبيعتها ، بوصفها قصيدة مكتوبة من ناحية ، وإيحائية من ناحية أخرى ، فطبيعة رسم مفرداتها على الورق، جزء لا يتجزأ من بنيتها الموسيقية ، فإذا كان البيت الشعري ، بمساحته العروضية المحددة ، مظهراً من المظاهر الأساسية لموسيقى القصيدة العمودية ، وإذا كانت مساحة الأسطر الشعرية على الورق ، و تنوعها طولا و قصراً، مظهراً أساسياً من مظاهر التشكيل الموسيقي في شعر التفعيلة، فإن الإيقاع النفسي للفكرة ، المتدفق من لا وعي الشاعر، له أثره في طبيعة رسم و تشكيل قصيدة النثر على الورق، بوصفه أحد مظاهر البنية الموسيقية، فشكل قصيدة النثر على الورق، صورة لإيقاع أثر الفكرة في نفس الشاعر: تعبَ الشارع من وقع الخطى.. [c1]من نقطة في جمار اللظى[/c] فانتعشَ النبض .. و ثمة ضلع يتجسد .. في فوهة الموال تعب الراكض في ... و علي .. يختبئ الآن ببئر الدمع و علي سر الفصل ، و سر اللهب الموغل في الصحراء و علي بلسم هذا الدمع المورق في ليل الشهداء . 2 - دراسة إمكانات الأنظمة النبرية والمقطعية للغة العربية والخطاب الشعري. ولا شك أن قصيدة النثر حاولت استثمار هذه الإمكانية وإنما بحذر شديد نظراً لقلة الدراسات الصوتية التي تعنى بهذا الجانب، و التي من شأنها أن تعين الشاعر في الاستفادة منها و توظيفها توظيفا ملائماً . 3 - العناية بخلق أنساق التوازي والتكرار والتشاكل والتمفصل. ولهذه النقطة بالذات تجليات واسعة في النصوص المختارة كما لاحظنا آنفاً ولعلها أبرز مظاهر التداخل العضوي بين الإيقاعين . 4 - توظيف خاصية التنغيم والوقف والتلوين الصوتي . غير أني أرى أنه على الرغم من القيمة الإيقاعية لخاصية التنغيم والوقف والتلوين الصوتي، إلا أنها لا تتلاءم وطبيعة قصيدة النثر، بوصفها قصيدة مكتوبة بينما تبرز قيمتها وفاعليتها في الأشكال الشعرية الأخرى. 5 - استثمار الإمكانات البلاغية المختلفة كالجناسات والتقفية الداخلية والتمفصلات النحوية والتركيبة . وفيما مضى من النصوص وقفنا على استثمار الشعراء لهذه الإمكانية ، ولكن بالشكل الذي لا يوقع القصيدة في شرك الصناعة البديعية ونظامها الإيقاعي الصارم، من مثل قول الشاعر : تعالي .. نسأل موجة َ ذاك الخليج تموز، ينهض الآنَ و يأتي مؤتلقاً في احتفال بهيج عشتار، تبيح أنوثتها بين أحضان تموز.. إنه العرس المقدس .. حتى، إذا ما الليل عسعس تمطتْ عروق النخل في عمق التراب. فالشاعر هنا استطاع أن يستثمر آلية الجناس و التقفية الداخلية، بالشكل الذي يمنح نصه إيقاعاً ملائماً، من دون الوقوع في شرك الصناعة البديعية المقصودة لذاتها. 6 - البحث عن نويات إيقاعية صغرى، قد تتمثل في الأسباب والأوتاد والفواصل، أو في زحافات التفاعيل الاعتيادية ، وخلق سياق نغمي جديد منها . إذا ما اعتقدنا أن في قصيدة النثر نوعاً من التفاعيل قصد إليه الشاعر قصداً، فهذا يعني الجزم بوجود نمط إيقاعي منتظم تبعثه هذه التفاعيل، وهذا أمر لا يقرره واقع قصيدة النثر التي تعتمد عناصر إيقاعية أخرى بعيدة عن نظام التفاعيل ، بيد أنه يمكن الحديث عن مقاطع صوتية وتشكيلاتها الزمانية والمكانية التي يمكن استثمارها في خلق سياق نغمي ملائم ، كما مر بنا آنفاً من خلال آليتي التوازي و التكرار. 7 - الاهتمام بخلق رؤية شعرية متكاملة على مستوى القصيدة أو ما يسمى بإيقاع الفكرة. وأعتقد أن القليل جداً من شعراء قصيدة النثر استطاع تمثل هذه الإمكانية بوعي تام ، من خلال نسيج ذهني يؤطر القصيدة لغرض استمرارية التواصل بين النص والمتلقي لتحقيق المقصدية الفنية والموضوعية ، من مثل قول الشاعر:الذي ألقى بي دفعة واحدة في سعير اللذة شدَّ وثاقي بمعدن اللهبْ ولما أندلعت بالجهات عدوى الحريق أردت الصراخ فأغلق فمي فحركة القصيدة هنا حركة ( ثيمية) لولبية في نسيج ذهني منشأة بؤرة واحدة (مناط الفكرة ) الخصائص الفنية : لا تختلف قصيدة النثر، من الناحية الفنية كثيراً ، عن سواها من الأنواع الأدبية الأخرى ذات الخصوصية الشعرية ، ذلك أن الشعر بوصفه خطاباً لا تتحقق شعريته، إلا بتوافره على مجموعة الخصائص الشعرية، وقد حدد الدرس اللساني الحديث ست وظائف للخطاب من خلال مرسومة جاكبسون الشهيرة التي تحدد طبيعة الخطاب وخصوصية الخطاب الأدبي :ويرى جاكبسون، أن تحديد ماهية الخطاب واتجاهه، إنما يتحدد بتركيز المرسل على أحدى هذه الوظائف دون غيرها، فالوظيفة الانفعالية تأتي للتعبير عن المرسل وطبيعته وانطباعاته الذاتية، أما الوظيفة الإبلاغية (الإيهامية )، فتتعلق بالمرسل إليه وأحواله، أما الوظيفة الإنشائية ( الشعرية)، فهي جوهر الرسالة التي يحملها الخطاب الأدبي ، وهي الوظيفة التي تجعل الرسالة هدفاً في ذاتها وتمنحها الشكل الذي يجعل منها نصاً أدبياً ، أما الوظيفة المعجمية فتعني وجود شفرة مفهومة بين طرفي الخطاب ( المرسل - المرسل إليه) أما ضمان صيرورة التواصل بينهما، فهذا ما تحققه الوظيفة الانتباهية وهذا يعني أن للخطاب الشعري خصيصات نوعية ، هي وحدها التي تميزه من سواه من خطابات الحياة اليومية، ولعل أهم هذه الخصيصات ، اللغة واستعمالاتها الخاصة التي تتجاوز الوظيفة الإبلاغية، وهذا ما عبر عنه جاكبسون في مرسومته بالوظيفة الإنشائية (الشعرية ) التي تجعل من الرسالة، بوصفها كياناً لغوياً هدفاً في ذاتها، فإذا كان الكلام العادي ينشأ عن مجموعة انعكاسات مكتسبة بالمران والملكة، فإن الخطاب الشعري صوغ للغة عن وعي وإدراك، إذ ليست اللغة فيه مجرد قناة عبور الدلالات، بل هي غاية تستوقف لذاتها ما يعني أن لغة الخطاب الأدبي، الشعري، تسعى إلى خلق لغة خاصة داخل اللغة، من خلال انزياحاتها عن معيارية اللغة، وتغليب القطب الصوتي على القطب الدلالي، بحيث تصبح الكلمة إشارة حرة تسبح في خيال المتلقي دون قيود دلالية مسبقة، لأن هدفها إثارة انفعال لا تقرير وقائع، فهي لغة إستشرافية بطبيعتها، لأنها لا تعرف اختزال المعنى، بل هي توسيع وتضييق بين الرمز والفكرة ، بين العلامة المكتوبة والمعنى المحدد، وإذا كانت قصيدة النثر تشترك مع الأنواع الشعرية الأخرى في هذه الخصيصات العامة، إلا أنها اعتمدت آليات فنية معينة تميزها نوعاً ما من سواها. من هذه الآليات :كسر أفق التوقع: ويعني خلخلة توقعات المتلقي ومفاجأته لإحداث الفجوة / مسافة التوتر كما عبر عنها د/ أبو ديب، يقول امبسون : ( إن المسألة الرئيسة في القصيدة هي المفارقة للتوفيق بين الحالات الواعية واللاواعية) . وعلى هذا الأساس أصبحت قصيدة النثر في كثير من الحالات تكتب ، من أجل إقامة هذه المفارقة من خلال كسر أفق التوقع، الأمر الذي جعلها تقع أسيرة التشابه الشكلي في بنائيتها، نتيجة اعتمادها شبه الكامل وتكلفها أحياناً في الإعداد لجملة المفارقة أو ( كسر أفق التوقع ) سعياً لإحداث الهزة أو مسافة التوتر، حيث تكتب القصيدة بتقريرية مقصودة لتقديم أفكار شبه مباشرة في الطرح، تمهيداً لإحداث هذه الهزة وصولاً إلى أقصى درجات المفارقة، وبهذا تكون طبيعة التلقي على امتداد النص مباشرة وبسيطة، لتفاجأ بهذا الكسر غير المتوقع، وأعتقد أن انصراف الشاعر الكلي إلى صناعة جملة ( كسر أفق التوقع ) أوقع كثيراً من نماذجها في شرك التقريرية المخلة، كما نلاحظ في هذا النص : إنني وقعت في الحب يوم الاثنين.. وتعذبت طوال يوم الثلاثاء وقدمت السؤال يوم الأربعاء .. وانتظرت طوال يوم الخميس.. وجاءت إجابتها يوم الجمعة .. وقررت بكل عزم وقوة أن أنهي حياتي يوم السبت ولكني غيرت رأيي يوم الأحد . فتقريرية النص ومباشرته واضحة ، ولا شك أن الشاعر وقع في ذلك نتيجة انصرافه كلياً للإعداد للجملة الأخيرة ) : ولكني غيرت رأيي في يوم الأحد ) لا شك أن هذه الجملة يمكن أن تحقق نوعاً من المفارقة، أو كسر أفق التوقع لدى المتلقي ، لأن المتلقي بعد سماعه لقرار الشاعر بإنهاء حياته ، من الطبيعي أن ينتظر ما بعد هذا القرار، ولكنه يفاجأ برجوع الشاعر عن قراره، وهذا ما لم يتوقعه، و إذا كان الشاعر قد نجح في إحداث المفارقة، و في أبسط مستوياتها إلا أنه وقع في التقريرية المباشرة، بيد أن هناك من الشعراء من استطاع التعامل مع هذه الآلية بأسلوب فني بعيداً عن هذه التقريرية : أحبابي صمتاً ..[c1]هذا سر لا تفشوه لأحد[/c] في ليلة صيف، غادرت ثلاث سمكات البحر، إلى النخلة الأولى قالت للقمر : انزل قليلاً ، لأرى وجهي بمرآتك الثانية قالت للنخلة : زينيني ببلحك ، عطريني بتربك ، غداً عرسي الثالثة التقطت قطرة من دم الشهيد ، لتنير بها ظلام البحر الطويل . فالشاعر هنا استطاع تحقيق الهزة و الوصول إلى جملة كسر أفق التوقع، في السطر الأخير : ( الثالثة التقطت قطرة من دم الشهيد لتنير بها ظلام البحر الطويل )، من دون خلل في منظومة اللغة الشعرية ، فالمتلقي الطبيعي، يفترض أن يتوقع من السمكة الثالثة طلب شيء ما قريب من طلبات الأولى والثانية ، ولكنه يفاجأ بهذا الانحراف السياقي والسلوكي مندهشاً بهذه المفارقة .
|
ثقافة
قصيدة النثـــر.. الخصوصيـة والانفتاح
أخبار متعلقة