قصة قصيرة
سعيد محمد سالمينذهب والده إلى جبهة القتال .. وكان الصبي الصغير وقتها في الخامسة عشرة من عمره، يعيش مع والدته وشقيقته الصغرى .. وكان صبياً متوسط الذكاء، لم تكن تقارير المدرسة توحي بشيء أكثر من أنه يحرص على تأدية واجباته المدرسية .. وأنه يحاول قدر المستطاع أن يستوعب ما يلقيه عليه المدرسون من علوم جديدة .. ولكنه لم يكن يقف دائماً في صفوف الناجحين.وفي مساء أحد الأيام عاد من مدرسته كعادته.. وكانت مفاجأة له عندما وجد أمه تبكي .. ماذا حدث؟لقد استشهد أبوك في الحرب يا بني .. إنني خائفة .. خائفة من المستقبل .. من الحياة في هذه الوحدة التي أصبحنا نعيش فيها نحن الثلاثة بعد غياب أبيك.وأخرج الصبي منديله من جيبه، وراح يجفف به دموع أمه .. لقد كانت تبكي لأنها في تلك اللحظة أحست بأنها تعيش في أرض غريبة .. لقد امتلأت مشاعرها وافكارها بذكريات أزمان مرت بها في الماضي ورسبت في أعماقها مع القلق والخوف .. ولكنها في هذه المرة تواجه أزمة مختلفة .. أزمة بلا حل .. فقد ذهب رجلها ورفيق عمرها، ولن تجد السلوى في غيابه أبداً معه عزاؤها الوحيد في هذه الذكرى التي تركها بها .. في الأبناء الذي ترى فيهم صورة الرجل الذي تزوجته واحبته حباً جماً.ومدت يدها تحتضن بها رأس ابنها الذي يجلس بجوارها وكان هو الآخر يبكي، فهو لم يفقد اباه فحسب، إنه يشعر أنه فقد العالم كله بعد رحيله، فهو الذي كان له أباً وأخاً وصديقاً.. اين يجد كل هؤلاء في رجل واحد يبادله الحب؟وانقضى النهار ثقيلاً بطيئاً مليئاً بالذكريات والهموم .. حتى إذا ما غربت الشمس، واقبل المساء، وأقبل الليل ذهبت الأم إلى غرفة نومها واحتضنت ابنتها ونامت بجوارها أو تظاهرت بالنوم حتى لاتزعجها، فكم تكن الصغيرة تعلم حتى هذه الساعة أن اباها ذهب ولن يعود.أما هو، فقد اغلق باب غرفته عليه، ووقف أمام صورة أبيه وراح يحدثه:أعدك يا أبي، بأنني سوف أكون رجلاً .. سوف أحقق لك كل أمانيك، وسوف أعود إليك دائماً هنا في هذه الحجرة لكي أحدثك واروي لك ماذا صنعت بنفسي .. وماذا صنعت بي الحياة.. وستكون دائماً فخورا بي .. لن اقف في طابور الفاشلين من اليوم.منذ تلك الليلة، لم تعرف الدموع طريقها إلى عيني الصبي الصغير .. فقد واجه الموقف الجديد، كما يواجهه أقوى (الرجال) .. لقد اصبح رجلاً.وانقضت عشر سنوات عندما خرج أهل قريته الصغيرة يحتفلون .. ما المناسبة. فقد تخرج الصبي الصغير من الجامعة وأكمل دراساته العليا واصبح محامياً يحمل درجة الماجستير. وفي حفل تسليم الشهادات، كان هناك ثلاثة يقفون في انتظار دورهم في مقدمة طابور المهنئين الأم الفخورة بأبنها، ثم شقيقته التي كبرت واصبحت عروساً، وخطيبها الشاب الذي زامله أيام الدراسة أيام دراسته العليا أو الثانوية التي كان حظه فيها قليلاً مع النجاح، إلى أن كانت تجربته المريرة مع رحيل والده.في ذلك اليوم منذ عشر سنوات، وقف الابن وحده في مواجهة هذه العالم الغريب.. لم يطلب مساعدة أحد، وحتى عندما كانوا يعرضونها عليه ويقدمونها له، كان يرفض أن يمد إليها يده .. لقد اعتمد على نفسه وراح في هدوء يشق طريقه في مدرسته .. في الجامعة سنة بعد أخرى، حتى أتم تعليمه .. لم يكن هناك أحد يدفعه .. كان الحافز دائما هو رغبته في أن يكون رجلاً جديراً بحب وصداقة الرجل الذي عرفه في طفولته وصباه .. انه يذكر آخر مرة رأى والده فيها قبل ان يترك البيت كان يلبس بدلته العسكرية، ويحمل سلاحه على كتفه، وكان يضحك .. وكانت آخر كلمة قالها لهم بعد أن قبلهم مودعاً: سوف أعود، فقط يريد ان يعود إلى هؤلاء الذين أحبهم واحبوه.وانتهى الحفل الذي اقامته الجامعة تكريماً للناجحين .. وعادوا جميعاً إلى البيت .. ولكنه لم يبق وسطهم طويلاً .. لقد ترك مكانه، وكأنه مع موعد والده، وراح يخاطبه.في تلك اللحظة أحس وهو يحدث والده أن ذراعا قوية قد امتدت تربت على كتفه في حنان، وقبلة حارة ترسلها شفتاه إلى وجنتيه لتعبر عن كل مشاعر الحب التي تعودها منه.