في الذكرى (19) لرحيل عبدالله الدويلة الصحفي
عبدالعزيز الدويلة في البدء نود أن نستعرض ما تناوله الفقيد الصحفي والناقد الأدبي الراحل / عبدالله الدويلة في مادته الصحفية التي كتبها في صحيفة (14 أكتوبر) الغراء 15 / 4 / 86م بعنوان (هناك رواية ولكن !) حيث يقول : لم يحمل العمود الذي كتبه الزميل عوض با حكيم بتاريخ 7 / 4 / 86م أي رأي حول العنوان الذي توج عموده ( الرواية اليمنية) وإنما يحمل في أحشائه القصيرة دعوة إلى النقاش من اجل إثبات وجود الرواية اليمنية أو عدم وجودها وقد دبج العمود برأيين ليس له فيهما أي رأي غير عرضهما فقط . وعلى كل حال فقصيدي في هذه العجالة هو الإشارة الى بعض الأعمال التي تحمل مواصفات الرواية اليمنية لأننا بتجاهلها قد نطمس تلك الأعمال ونظلم الرواية اليمنية بوادها وإذا تجاهلناها فليس بإمكاننا أن نتجاهل وجودها.. ووجود الأعمال التي تتمثل في الروايات التالية. زيد مطيع دماج - الرهينة ، محمد عبدالولي - يموتون غرباء، احمد فدعق - حلم في القرية ، حسين مسيبلي - مرتفعات ردفان ، حسين باصديق - طريق الغيوم ، الإبحار على متن حسناء ، عذراء الجبل، عبدالمجيد القاضي - صراع في جزيرة الذهب وغيرهم لم تسعفني الذاكرة لذكرها. بديهياً لا يسعفني حيز العمود بتفاصيل أكثر حول الفنية والتقنية والشمولية والحبكة والحركة وغيرها من الدلالات التي تنم عن هشاشة المستوى او متانته وكل ما أريد قوله أو تأكيده .. بان هناك رواية يمنية ولكن القول الفصل متروك للنقاد عن سموها واكتمالها وازدهارها. وانطلاقاً مما اشرنا إليه آنفاً سنحاول هذه المرة وفي الذكرى التاسعة عشرة لرحيل والدنا المناضل والأديب / عبدالله علي مولى الدويلة استعراض أو تسليط الضوء على ما تناوله في كتاباته النقدية والتحليلية الموضوعية للقصة القصيرة وذلك لما لها من فضاءات إبداعية شائقة وممتعة ورؤى عميقة تجسد قدرة وحنكة وتقنية رواد القصة القصيرة الراسخة بالخبرة والدقة في رصد الأشياء والوقائع والأحداث التي تعكس عالم القصة المتطور وما يفرزه من أفكار وقضايا وابداعات صادقة في شتى مناحي الفن القصصي والحياة ومعاني الحرية. واليكم هنا ما كتبه الفقيد عبدالله الدويلة ( رحمة الله عليه) بالنقد والتحليل الموضوعي عن رواد القصة المخضرمين في كتابة الرواية وهي على النحو الآتي : يرى الناقد والصحفي عبدالله الدويلة ومن خلال رؤيته التفحصية النقدية في قصة القاص المبدع الشيخ عبدالله سالم باوزير المنشورة بملحق (14 أكتوبر) الثقافي بتاريخ 13 / 8 / 92م بعنوان “ معارك دون كيشوت” بان الباوزير يأخذنا - ولوجاً - متفحصاً في قرية “ الفقرية “ وهي من اشد القرى فقراً في المقاطعات الجنوبية كان ذلك هو الاسم المناسب لها حسب تعريف القاص. كان القاص مولعاً بوصف الفقر والفقراء وكان مولعاً بدقة العين الفاحصة ومن غير تكلف أو تصنع - فأسرة الحالمي - تعيش في كوخ لا تتعدى مساحته الأمتار الثلاثة طولاً وعرضاً اتخذه الزوجان مأوى لهما يخفيهما من الشمس أما في الليالي الباردة فلا يدفئهما غير التحامهما ببعض - يتخذان لحم بعضهم البعض وقوداً للتدفئة - وصف موخز لأقصى درجات الفقر لكن العلة التي يعيشها ويعانيها حميد الزوج جعلت له عمل انتشال الدلاء من البئر حيث وصفه بالعمل الخطير فقط - النزول الى البئر ليس بسيطاً للمعاقين فما بال ذلك للمعلولين - انه عمل صعب وشاق وخطير لغير المعلولين وليس بسيطاً بأي حال من الأحوال فكيف بحميد المعلول أما إذا أراد القاص إنهاء حياته بالسقوط والموت في البئر غرقاً وما العلة إلا تمهيد لهذه النهاية فكيف بالمعلول. الخطير لا يمكن ان يكون بسيطاً لأنه مخيف وصعب إيقاعه على النفس قبل البدن ، فكيف إذا كان معلولاً جسداً لكن الباوزير يفرض فنه شئنا أم أبينا فهو يستعرض مسار الفقراء باقتدار عجيب وبتحليل نقدي مظلل بالفن فالفقراء يناضلون بالحلم والصمود باللمس في جبين الواقع البعض منهم ينتقمون من فقرهم فينحرفون وقد بدا حميد الحالمي بعد انتشال جثته شخصاً آخر حيث انتفخت بطنه الخاوية وتورم وجهه وتضخمت ساقاه فظهر أمام الجميع في صورة أهل الثراء المتخمين، نقد جميل مبطن فأهل الثراء كريهون حتى في أشكالهم التي تحمل أشكال الموتى المنتفخة التي لا تخلو من العفونة. أما “ دون كيشوت” الشخصية والرمز فقد كان إنساناً مصاباً بما تسمى بأحلام اليقظة - الا انه كان رجلاً طيباً .. فقد رأى في نفسه تمكن الفارس النبيل الذي ينقذ الضعفاء وينشر الأمان والطمأنينة في قلوب الغرباء والمسافرين .. ويتحدى الفرسان المتعجرفين ولكن “ عمر النعومي “ ابن تاجر قرية الفقرية كان منافقاً وانتهازياً رخيصاً ويركب الأمواج القذرة كي يتسلل الى مراتب الثورة ويرضي زعماءها صحيح انه كان يخلق أعداء وهميين في قرية هدها الفقر حتى أحالها إلى مستسلمة وقام بحركات ثورية في قرية الأعداء للثورة فيها - إذن نحن مع القاص في معارك وهمية دون كيشوتية في وهمها وفي عدم وجودها ولسنا مع القاص في معارك “ دون كيشوت” الذي هو عمر النعومي فعمر شخص قذر في دولاب الثورة وليس مريضاً بأحلام اليقظة كشخص دون كيشوت الطيب الذي أراد أن يقدم شيئاً حسناً دون ان يمتلك أدوات التنفيذ. ربما للقصة وجهان .. وجه يدين الثورة ببعض رموزها كعمر النعومي وإضرابه ووجه يبرئ الثورة كمحاولة منها لتحقيق حلم الفقراء إلا أن الفقراء أنفسهم قد ساهموا في نحرها وذلك بسلبية اهل القرية وخوفهم من عمر النعومي وتركهم اياه يصول ويجول بأعمال أنهكت روح الثورة قبل جسدها .. يتميز قاصنا المبدع بسرده الوصفي الممتع المثير والمثري ولكن دون كيشوت ليس كعمر النعومي - ميكافيليا أو ميكافيليا رخيصاً. يستعرض الأديب والمناضل الفقيد عبدالله الدويلة في قراءته لرواية القاص الأستاذ / حسين باصديق المنشورة في صحيفة (14 أكتوبر) 30 - 5 - 86م والتي بعنوان “ الإبحار على متن حسناء “ وبصورة موضوعية وهادنة تجسد أسلوب وسلاسة التعبير والسرد الذي استعمله المؤلف في روايته التي تميزت بالمرونة والحبكة من خلال تعميق الفكر وتحديد طبيعة العلاقات الإنسانية التي ارتبطت بأحداث وحوار ولهجة المناطق والمرتفعات الجنوبية والشمالية .. حيث يقول الدويلة:تدور أحداث رواية الإبحار على متن حسناء في بدايات ثورة 26 سبتمبر وفي ظل العمليات المسلحة التي تدور رحاها في عدن وبعض مناطق الجنوب وهي ثورة 14 أكتوبر ولكن محور الرواية سيظل هارباً فمسعد بطل الرواية هرب حتى من اسمه الحقيقي فحول اسمه من مسعد إلى مساعد والهارب مغترب حتى بين أهله هكذا تبدو لي الرواية كما فهمتها ولكن عنوان الرواية الإبحار على متن حسناء قبل قراءتي للرواية أوحى لي عنوانها بالتفاعل فلا يمنحني تصوري إلا إبحاراً سعيداً طالما مطيته حسناء ولكن مسعد في إبحاره الهروبي كان على متن بساطه اضطراباً في اضطراب حيث ترك خلفه ضحايا فابتداء من تجربته الأولى بزهراء ومن ثم بخديجة وترجرجه ما بين هذه وتلك وفشله في التجربة الأولى من زواجه بسلمى هذه الريفية الحسناء التي عانت منه الإهمال والهجر والفراق - الطلاق - التعسفي لقد هرب من الجميع واتخذ من “ شيفليد“ المدينة البريطانية ملجأ له ولهروبه. وعندما عاد بعد مدة طويلة من الاغتراب لم يستطع أن يواجه القرية فغير اسمه من مسعد إلى الشيخ مساعد ورغم ندمه وذلك بالتفكير عن إساءته هذا التفكير الممثل في تبرعاته ومساهماته للمشاريع التي يبنيها التوجه الجديد والذي كما يبدو بأنه لمس القرية لم يستطع ان يقابل ابنته كلثوم من زوجته التي ماتت حزنا وألماً على الوحدة والضياع ولا ابنته من خديجة .. لقد اكتفى بتسجيل وصيته بان تكون لكلثوم وأختها جميلة الرعاية الخاصة عندما تكونان في حاجة إلى رعاية - دار أم كلثوم للأمومة - نعم لقد طلب من المسؤولين أن يتم بناء هذه الدار على نفقته الخاصة وان تسمى بدار أم كلثوم وهي سلمى التي هجرها عسفا عندما عرفت كلثوم بان باني الدار أبوها سالت عما إذا كان بالإمكان اللقاء به قيل لها بأنه قد غادر القرية للحج. لقد قالت لزوجها ياسر: علينا أن نغفر له ونسامحه ولكنه غادر القرية، ومما يؤكد على استمرائه الهروب عندما خاطبت أم عبده وهي التي حضنت كلثوم .. عندما خاطبت “ ياسر زوج كلثوم قائلة “ اتركه يا ياسر .. هذا رجل ألف الهروب ما عاد يقدرش للمواجهة وما بيقدرش لكلثوم لأنها بتعطيه حقه”. في الرواية تناولات بارعة وعلى درجة عالية في الحبكة والدقة وفي بعض الأحيان بالنسبة للإثارة - الحوار في مقيل القات - مثلاً بمناسبة عرس مسعد وذلك في حديث مقبل عن ذكرياته “ ذكرت قصة الإمام احمد لما أرسل متطوعين يمنيين حفاة مساكين إلى فلسطين.. لمحاربة اليهود قال احدهم “ الجيش الحافي لما راح عمل صولة وجولة وهز الميدان هزوز” . أجاب آخر “ يا أخي ما كانش جيش هذه كانت فرقة من الشباب اللي كان الإمام خايف منهم أرسلهم كده بلا نظام ولا ترتيب.. لا بأس من مثل آخر عن الإثارة”. وفي الرواية صور صادقة عن القرية اليمنية بآلامها وأحلامها وأمالها.. صور من الواقع لماض تعيس يعيش فيه شعبنا دامي القلب منهك الجسد .. حتى أتى يوم الخلاص ببزوغ فجري 26 سبتمبر و14 أكتوبر. رواية لا يمكن إلا أن يشاد بها ولكني في رحلتي ما امتطيت إلا عنوانا رومانسياً ولم اذكر أنني أبحرت على متن حسناء بل كان إبحاري الحقيقي في يم مزدحم بآلام الإنسان اليمني المتطلع نحو غده الأفضل والمشرق. يقول الناقد والصحفي عبدالله الدويلة حول قصة الانفجار للقاص إبراهيم الكاف : الانفجار يعتبر حديثاً فتاريخه يعود إلى عام 81م والضغط كما يقولون يولد الانفجار وبطلنا في الانفجار يعاني ضغطاً لا قبل له به واستعان القاص بأسلوب (الفلاش باك) كي يثبت للقارئ التراكمات الضغوطية التي يعاني منها بطله ( بادعيدع) منها مثلاً الضغط الأسري ومن طابع القصة يبدو أن الدولة هنا .. دولة قاهرة لصالح أقلية محتكرة تحت رداء التجارة الحرة - أمه تعتقد بأنه سوف يعود إليها محملاً بالنقود والذهب غير انها نفضت يديها منه عندما سمعت بأنه ينفق كل دخله في شراء الكتب> ضغط من الضغوطات لا يبارح ذهنه كلما فكر في أمه هذه تداعية أولى (فلاش باك صفحة 73) وكانت أمي تحذرني من التفكير في الأمور غير العادية لكنها كانت تلح علي بالسفر باستمرار وكانت تلعن الفقر وتقول انه يجعل المرء مهاناً.(صفحة 75): وكانوا يعلموننا أن الإنسان مجبور في هذه الحياة لا اختيار له ولا قدرة انه لا يستطيع أن يفعل إلا ما قدر له أي ان هناك أعمالاً قدرت عليه ولا بد أن تصدر عنه . هذه كلها أشياء تشكل في عقله الباطني وهو الفتى الذي وقع في عشق الكتاب تراكمات ضاغطة تلح على ذهنه كتداعيات وظفها قاصنا والبطل ماثل أمام كبير الشرطة .. وعليه ونتيجة لذلك استخدم القاص أيضاً في بعض من فقرات الحوار أسلوب الأقرب إلى اللامعقول كبير الشرطة يتكلم عن الواقع وبادعيدع يتكلم عن حلم وهكذا اختلط الواقع بالحلم والحلم بالواقع قد يكون حلماً قد يكون واقعاً إلا أن الظلم الذي يشكل ضغطاً على ذهن (بادعيدع) انفجر كواقع ليطبق على عنق كبير الشرطة رمز النظام وراح يضغط.. ويضغط ويضغط حتى تداعى جثة هامدة.. تصوير استطاع قاصنا “ ابرهيم “ استخدام التقنية الحديثة فيه بفهم وإدراك وتجاوز مزالق الضباب. وفي هذا السياق نختتم قراءتنا هذه بما تناوله الشاعر والصحفي الراحل عبدالله الدويلة في ندوة قصصية أثارت صخباً من التجادل والنقاش والمشورة في صحيفة (14 أكتوبر) الغراء 22 - نوفمبر 1991م حيث يقول : ما زال الجدل بين تعريف القصة الطويلة والرواية قائماً ولم يحسم حتى يومنا هذا .. والنقاد في عالمنا العربي ما زالوا يتأرجحون في إصدار الأحكام ولم يصلوا إلى رأي موحد أو حيثيات معينة تحدد نوعية هذه أو تلك فهذه لا تكون في نوعيتها إلا قصة مهما بلغ طولها وهذه في تكوينها لا يجوز إلا أن تكون رواية حتى وان كانت اقصر من القصة الطويلة مثلاً . ولربما أن دخلت في مسألة التعريف هذا دخولاً موسعاً .. لتطلب الأمر إلى ديباجة قد تكون مطولة .. حتى مسألة النقد فكم دخل في النقد - الحق - الذي أريد به باطل وكم لوي عنقه من قبل - عين الرضا وعين السخط أو كما قال الشاعر - وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدى المساويا - وكم امتصت السفسطية حقيقة النقد لتجعلها باهتة أحيانا أو أنها قالت ولكنها لم تقل شيئاً في أحايين كثيرة أو ربما تأخذها إلى حبائل الردى. ويضيف الدويلة .. إنني لم أرد ان اقفل الباب تماماً ولكن الذي يجب أن نعترف به هو ان النقد كائن ويجب أن يكون وهو الضمير الذي يحث المبدع نحو الأفضل والأجود والأجمل حتى ولو تلكا دوره أو انحرف في أسوا الأحوال .. وازعم من غير مبالغة بأنني قد أنصت وشاركتني أيضاً أسماع واعية .. أنصتنا جميعاً إلى أصوات ناقدة مؤتلفة أو مختلفة عن القصص التي تليت من قبل القاصين الثلاثة إبراهيم الكاف، حسين السيد وعبدالرحمن عبدالخالق . وشكراً للقاص والصحفي المبدع سالم الفارص على إدارته الندوة والتي أدارها بصرامة واقتدار. بقي أن نشير في الأخير إلى أن أعمال الفقيد عبدالله الدويلة الإبداعية ما زالت حتى يومنا هذا في طي النسيان بل إن عدم استجابة الجهات المعنية وذات العلاقة بالمثقفين والمبدعين بتبني طباعة ديوان الشاعر الراحل عبدالله الدويلة وكذا طباعة مختلف أعماله الإبداعية الأخرى تجعلنا نتأسف ونستغرب ونلوم أيضاً هذه القنوات الإبداعية والجهات المختصة التي تدعي أحياناً بالاهتمام ورعاية المبدعين والمفكرين وهي في حقيقة الأمر لا تنظر في واقع حياة المبدعين الحقيقيين في حياتهم او بعد مماتهم وهذا هو قدر المبدعين في هذه البلاد.