كتبها/ حسين محمد ناصرنعم .. هكذا كان يسميه جمهوره.. الملك .. الفنان الموسيقار الرائع قاسم ملك العود بدون منازع .. الملك ، الذي تتلمذ على يديه فنانون أضحوا كباراً ومنهم موسيقار اليمني أحمد فتحي.ترى ماذا يمكن أن نكتب عن هذا العملاق الكبير، الموسيقي الجميل ، الذي بدأ مسيرته الفنية منذ الصغر وواصلها بنضال ومعاناة وعشق كبير وعطاء كبرت به الأغنية اليمنية وأضحت مشهورة في الوطن العربي.درس الموسيقى وأحبها حتى الثمالة.قال عن نفسه ذات يوم إنه عبدالوهاب اليمن.وعندما قال ذلك لم يكن ينطلق من غرور، ولكنه قالها عن ثقة واقتدار.لحن .. فأطرب المستمع.وغنى .. فأسر قلوب عشاق الفن والغناء وعزف .. فأسكر النغم ذاته!لن نكتب أين ولد وكيف بدأ وغير ذلك من أشياء معروفة، ولن استعرض مراحل حياته الفنية، فكل مهتم فني يدركها، ولن أتحدث عن مكانته الموسيقية فقد كان في القمة، بشهادة جميع زملائه وتلامذته، ولكني أنشر هنا حديثاً لفنان كبير عرفه عن قرب، زامله قرأه فنياً وشهد له بعد مماته.ذات يوم رن هاتف منزلي، وجاء صوت يقول:سيتحدث معك عمي (أحمد) ـ كان يقصد الفنان أحمد قاسم ـ وتحدث معي الفنان الراحل مناقشاً مشروع حفلات فنية خاصة كنا نزمع إقامتها في أبين، له ولعدد من زملائه الفنانين يعود ريعها لصالحهم وللفنانين المرضى، وطلب مني الحضور إليه في مثلث جعار م/ أبين حيث سكن ابنته الدكتورة (فائزة) لكن ولظرف خاص وقاهر لم أتمكن من الذهاب إليه! رغم أن المسافة التي تفصلنا لا تستغرق أكثر من 15 دقيقة.لم يغضب القلب الكبير لكن ظلالة حزن كست وجهه لحظة اعتذاري رآها صديقي (الدكتور محمد) صهر الفنان الذي اخبرني إنه كان حريصاً على تنفيذ المشروع، لأنه كما قال يحب ابني كثيراً، ليس لأنها تحتضن ابنته.وأحفاده الأبينيين كما يسميهم ـ ولكنه يحبها لأنها فتحت ذراعيها له في يوم ما، ولأنه كما قال يحب البراءة والصدق في وجوه أهلها.سألت محمد الذيباني يوماً عن أحمد قاسم الإنسان.راح يحكي ويحكي الكثير ويستعرض وقائع جميلة لمسها وعاشها وعرضها عن قرب، فلم يكن أحمد قاسم ذو الشهرة الواسعة والكبيرة إلا طفلاً صغيراً .. بريئاً .. رقيقاً .. سريع التأثر والبكاء .. رحيماً .. متواضعاً .. أبي النفس كريماً .. شديد الاعتداد بشخصية وفنه .. عشق الفن فكان سر حياته وأكسيرها، كان يشكو تنكر وجحود البعض.في احد الأيام الأولى من شهر إبريل 93م اتصل بي زميلي الكبير (عبدالقادر خضر) حاملاً نبأ وفاة الملك: فكان وقع الخبر كبيراً، وتبادر إلى الذهن صولات وجولات الراحل،أغنياته .. الحانه .. موسيقاه .. نضاله العنيد الذي استطاع به أن يكتب اسمه بحروف من ذهب في سماء الفن اليمني الأصيل والخالد.كنت في ذلك الوقت أعد لإصدار العدد رقم (79) من صحيفة (الجديد) التي كنت أرأس تحريرها: وتساءلت كيف أستطيع أن نبعث للفنان الراحل تحية وفاء وتقدير ؟!فكرت بعدد من أشكال العمل الصحفي التي من خلالها يمكن نقل تحيتنا للراحل .. جميعها لم تصمد، ماعدا واحدة !ماذا لو استضيف أحد زملاء الراحل الكبار ليتحدث عنه عبر الصحيفة ؟!ومباشرة، كان أول من تبادر اسمه إلى ذهني هو الفنان المثقف محمد محسن عطروش.وكانت أجابته بعد الاتصال، إنه لا يمانع بالحديث عن الراحل الكبير.قال عطروش:جاء أحمد قاسم إلى أبين عام 1956م وفتح صفاً لتعليم الموسيقى بمساعدة الفنان الكبير يحيى مكي الذي كان يعمل في أبين في تلك الفترة وكان هذا العمل يؤكد طموحه منذ البداية، لكنه اصطدم بواقع يرى في طموحه ضرباً من الجنون !!كان يمتلك طاقة كبيرة وإمكانيات إبداعية ضخمة أراد أن يفجرها ولكن رغم كل ما أبدعه فناننا الكبير إلا أن إبداعه كان سيكون كبيراً وأكثر روعة لو حصل على دعم أكبر من الدولة.قلت للعطروش : حدثني عن حكايات ومواقف جمعت بينكما خلال مسيرتكما الفنية ؟!أجاب: ذات يوم سألته: لماذا المصريون يغنون البيات والحجازي بشكل طغى على كل أو معظم ماقدموه ؟!فأجابني الراحل: هناك عوامل عديدة، يعود إليها سبب ذلك، منها الطقس، السيكولوجية الاجتماعية والنفسية : هناك الطبيعة بشكل عام، ونحن هنا لا تؤهلنا خصائص الطبيعة إلى أن نغنى الحجاز أو الرصد .. لقد حاولت ذات مرة أن اعمل عملاً على نفس ذلك الطابع فوجدت أن فرقنا الموسيقية ستعجز عن تنفيذه، فلم أعمله!قلت: وماذا أيضاً ؟!قال: أذكر أن الفنانة الصديقة (فتحية الصغيرة) زوجة الراحل كانت حاملاً وكنت على رأس فرقة أبين في استديو الإذاعة (عدن) نستعد لتسجيل بعض الأغنيات: وعندما علم احمد قاسم بوجودنا جاء إلينا يطلب مشاركة فتحية بالعزف معها وتسجيل ثلاثة أعمال من ألحانه، فقلت: له أنه ربما لا تستطيع الفرقة استيعاب الألحان بهذه الفترة الزمنية القصيرة!فأجابني: يا أخ محمد .. أنا واثق أنهم سيتقنون الأعمال بسرعة وواثق أيضاً أن الفرق الأخرى لن تستطيع تنفيذ أعمال فرقة أبين، وفعلاً استوعبت الفرقة الألحان وسجلت فتحية أعمالها للإذاعة بمصاحبة فرقة أبين، اعتقد أن من بين تلك الأعمال نشيد (شعبنا حقق مناه) وحتى الكورس في هذا النشيد هم من أبين !!قلت للعطروش: هل حدثك الراحل يومأً عن أعمالك الفنية ؟!قال: نعم .. لقد انتزعت منه أحسن الأحكام !قلت كيف؟!قال : ذات مرة قال لي زميلي الراحل:ياخبيث .. كيف استطعت أن تلحن هذا العمل؟! إنني لو خيرت أن اختار لحناً من الحان غيري لاخترت لحن أغنية (الأيد جنب الأيد) التي غناها الفنان الراحل (محمد صالح غزاني)!قلت” ولكن ماسبب اختياره لهذا اللحن ؟!قال: اللحن فيه حجاز كاكورد ثم غيرته بيات !!وهذا الجانب لم يدركه الا احمد قاسم بروعته وعلمه الى درجة انه قال: هذا العمل فلتة من فلتات محمد محسن عطروش!!قلت: هل صاحبك الراحل يوماً في العزف ؟!قال : مرة واحدة فقط .. ولا زال عزفه يسمع في أغنية (ياهلي) حيث شارك معي فيها بالعزف على الكمان التي يجيد العزف عليه ولو دققت عند سماعك للأغنية تجد أنه يتخللها صول لكمان أحمد.قلت: ولكن .. متى تعرفت على الراحل ؟قال: كنت اسمع عنه وأنا مبتدئ .. في القاهرة التقينا وتعرفت عليه بشكل أكثر.قلت: .. وهل خطرت لأحدكما فكرة أن يقدم عملاً للآخر؟قال الأستاذ عطروش: لا لا .. لأن أحمد قاسم كان فناناً معروفاً بينما كنت لازلت مبتدئاً !!قلت: سمعتك ذات يوم تقول أنك قمت بتلحين أغنية (مش مصدق) بعد أن لحنها قبلك المرشدي وقاسم؟!قال: نعم حدث ذلك.. فقد عرض علي الشاعر الكبير المرحوم لطفي جعفر أمان أن أقوم بتلحين كلمات (مش مصدق) وذلك عبر رسالة استلمتها منه، وأجبت عليه بأنه لا داعي لدخولي طرفاً ثالثاً، ولكنه قال لي بعد ذلك، أنني أريد منك أن تعطي الكلمات مسحة أبينية، وفعلاً لحنت الكلمات وأرسلت اللحن في شريط من مصر إلى لطفي مع الأستاذ (كمال حيدر) وبعد سماعه أصر لطفي على تسجيله مع أني كنت بالنسبة للعملاقين (لسه صغير) وعند عودتي من مصر أجرى معي المذيع عبدالحميد سلام لقاءً في منزله وكان لطفي موجوداً حيث قال: لماذا تتهيب تسجيل العمل؟ إن الكلمات كلماتي وما قمت به من جهد ينبغي أن يسمع، وأي جهد فني لا ينبغي أن يقاس بالتجربة السابقة.. وحاول كثيراً إقناعي.. لكنني أصريت على الرفض!قلت: وماذا عن آخر مرة اجتمعت فيها بالراحل؟قال: كانت ليلة رمضانية: زرته برفقة زميلي الفنان (عبدالرحمن الحداد) وفي هذا اللقاء تحدث كثيراً عن همومه وما يواجهه من تجاهل واستمرت تلك الجلسة حتى الساعة الثالثة صباحاً.وذكر لنا كيف أنه حاول الاتصال بأحد الوزراء.. فإذا به يسمع الوزير يحدث مدير مكتبه مشيراً إليه بالإجابة بأن الوزير غير موجود! وكم شعر بالأسى لذلك!!قلت: كيف تلقيت نبأ وفاته؟قال: من وحي ما ذكرته لك من حديث لك أن تتصور مشاعر الحزن التي اعترتني عند سماعي نبأ وفاة زميلي الكبير (أحمد قاسم) لقد سرت في جنازته والهاجس لا يفارقني، وقد أوحى إلي بقصيدة من (80) بيتاً ومطلعها مستوحى من ذلك الموقف، حيث كان الناس يحملون صورة كبيرة للراحل وهو يحمل عوده مبتسماً حتى وهو ذاهب إلى القبر!وكان المطلع:أحدفه يا أبو أحمد ما حد لعودك حدففي ناس تحدف جبن وناس تحدف هدفوقد شاهدت زميلي الفنان طه فارع يبكي بحرقة مستمرة من وقت الصلاة على المرحوم حتى مواراته القبر.وسألت العطروش: كفنان كيف ينبغي أن يكون تكريم الراحل؟قال: في أربعينيته.. أرى إقامة شهر ثقافي فني يتناول أعماله الفنية ويتم فيه أيضاً تسجيل أعماله (قطع موسيقاه - أناشيده.. أغنياته.. ألحانه).. وتابع كاستيات ويعود ريعها لصالح أسرته، ثم أرى أن يطلق على معهد الفنون بعدن اسم الفنان أحمد قاسم مع إصدار كتاب عن حياته.قلت: أليس في مقترح إطلاق اسم أحمد قاسم على معهد الفنون تقليلاً من مكانته خاصة في ظل معاناة المعهد وإهمال الدولة لأوضاعه؟قال: نعم.. هو كذلك إذا استمر المعهد على هذا الوضع وذلك الإهمال المتعمد، ولكني أرى أن هذه التسمية ستكون باعثاً على الاهتمام به نحو الأفضل كجلب مدرسين أكفاء ملمين بالموشحات والشعر والعروض والمقامات وعلوم الموسيقى والمجالات الفنية الأخرى.. أنني أتمنى أن تكون أربعينية أحمد قاسم بداية جديدة للنهوض بأوضاعنا الفنية!قلت: نسيت أن أسألك ما هو اللحن الذي كنت تتمنى أن تكون صاحبه؟قال: عربياً قلت لك أغنية وديع الصافي (الله يرضى عليك يا ابني) ويمنياً لن يكون غير لحن أغنية (صدفة التقينا) للراحل الكبير موضوع حديثنا اليوم.تلك كانت كلمات العطروش عن زميله الفنان الكبير (أحمد قاسم) مضى عليها زمن يتجاوز الـ (18) عاماً، ترى كيف حال اليوم معهد الفنون بعد هذه الفترة؟ كيف حال أغنيتنا اليمنية؟ كيف حال الفرق الفنية الموسيقية؟ بل كيف هو حال واقعنا الثقافي بشكل عام؟ أسئلة أتمنى أن يجيب عنها المهتمون بالشأن الفني وعبر هذه الصفحة!
|
فنون
أحمد قاسم.. مسيرة عشق وعطاء أثرت الأغنية اليمنية
أخبار متعلقة