مقاربة نقدية في مقال : (إشكاليات من واقع ثورة الفرصة الأخيرة) للدكتور ياسين نعمان
في إدانة (الثورة والثوار) وإسقاط النساء والثائرات من دائرة الاهتمام والحسبان:لم يكتف الدكتور ياسين في هذا المقال بتبرير وتسويغ “المبادرة الكارثية” والحصانة الفضيحة، ولي عنق الحقائق الجلية والسنن الطبيعية الغريزية الفطرية، التي يستحيل إنكارها، بل راح يدين ويعنف (الثوار الذين رفضوا بشدة هذه الصفقة المأفونة) من أصحاب (الخطاب الرافض والمحرض الذي يتهم (المسار السياسي) بالخيانة والتفريط وسرقة الثورة... إلخ، وهو الخطاب - كما يقول ياسين - الذي كان يحتاج إليه النظام... وكأن المهمة الأساسية لهذا الخطاب هي إشعال الحرائق لتمرير مشاريع تصفية الثورة، ولكن بلغة ثورية صاخبة ومشاكسة)!.هكذا يساوي السياسي المخضرم ياسين بين القوى التسلطية الاستبدادية التي تمتلك كل مقدرات القوة (السلطة والجيش والمال والإعلام وكل شيء تقريبـا مع جموع (الثوار) العزل الذين لا يمتلكون غير جلودهم وأصواتهم أو (خطابهم الرافض والمحرض)، أو كما يصفه “الصاخب والمشاكس” ويضعهم في مستوى واحد من المسئولية عن إشعال الحرائق والحرب، ومن ثم فجميعهم في نظره يخدمون مشاريع (النظام) و(تصفية الثورة ولكن بلغة ثورية) كما يقول.هل هذا منطق سياسي أو عقلي يا أخي؟! كم في هذا الكلام من عنف وعبث وإهانة، وفي سبيل تضخيم الذات الغائبة وإعلاء شأن “العملية السياسية” التي لا شأن ولا مصلحة للأخ ياسين بها وبمصالح أقطابها، حتى وإن توهم بأنـه من أبطالها، يذهب إلى تبرير عجزه وعجز أحزابه في (اللقاء المشترك) عن فعل أي شيء يذكر لزحزحة (النظام) الذي هم جزء منه، وجزء أساسي، كوجهي العملة منذ عام 1990م، والأحزاب في كل النظم السياسية القديمة أو الجديدة كما تقول حنه أرندت في كتابها المهم (في الثورة) هي النصف الآخر من النظام، ومن ثم فهي تقف على طرفي نقيض من “الثورة” كما أن تعبير (الثورة السياسية) هو خلف منطقي، تبدأ الثورة عندما تنتهي السياسة وتنتهي أي ثورة حينما تقتحمها السياسة، في حين أن ياسين يقصر مفهوم (النظام) على مجرد شخص الحاكم (علي صالح) الذي تقع مهمة تغييره وإزاحته واستبداله في صلب عمل (المعارضة) التي أثبتت عجزها عن تبرير وجودها لتجعل من (الثورة حصان طروادة) لبلوغه (وهي مهمة ما كان لها أن تتحقق بدون تلك التضحيات التي قدمها شباب الثورة) كما قال وهذا ما جعله يقابل بين طرفين (الحاكم والثوار) في موقفهم من (الحصانة) معتبرهم “مثلين للتدليل على سطحية وغوغائية هذا الخطاب المتبادل من طرفي كماشة الطرف الأول: ويأتي من أنصار صالح.... أما الثاني: فيأتي من داخل صفوف (الثورة) يرفض الحصانة ويطالب بمحاكمة صالح” - (وفي نبرة لا تخلو من شماتة واحتقار وتعال) يضيف (وكأنـه قد أصبح في قبضتهم، ودون أن يقولوا شيئـا عن كيفية تحقيق ذلك ودون أن يكون تحقيقه عمليـا مدعاة لحرب لن تبقي يمنـا تبنيه هذه الثورة في حالة انتصارها).لو أن العزيز ياسين يعي معنى ما يقول لما أقدم على كتابة حرف واحد من هذا الكلام الذي يدين به نفسه ويكشف فيه عن عجزه، لا أقصد ذاته كفرد، بل كقوى معارضة تقليدية ارتضت لنفسها أن تمثل وتعبر وتدافع وتحارب وتقاتل من أجل المصالح والتطلعات الإستراتيجية التي تزعم المعارضة باسمها لجموع واسعة من أفراد المجتمع المغدور والمقهور، إنـه بادانته وتبخيسه (للخطاب السطحي الغوغائي الثوري المشاكس) الآتي من صفوف “الثورة” في (رفض الحصانة ومطالبته بمحاكمة صالح) والسخرية اللاذعة من عجزهم عن تحقيق ذلك “عمليـا بدون الحرب” كان يكشف عن مكنون نفسه، عن سيكولوجية المقهور بإزاء القاهر الذي يستحيل رفضه أو إزاحته، بل يجب الرضا به كالقدر المحتوم، وهذا يذكرني بالأخلاق (الرواقية) في زمن أفول نجم الحضارة اليونانية (الرضا التام بواقع العجز المهين حتى بأمل التغيير) وهذا ما عبر عنه الرواقي الشهير العبد (سينكا) حينما خاطب سيده وهو يعصر رجله حتى كسرها، قائلا له : ألم أقل لك يا سيدي بأنها ستكسر؟!!!ياسين يقول “للثوار” اصمتوا اخجلوا أخفضوا أصواتكم إن من يسمعكم يعتقد بأن (الطاغية) (أصبح في قبضتهم) اقبلوا بالحصانة ولا تلحوا على المحاكمة، فلستم قادرين على ذلك، دعونا نحن السياسيين ننقذ ماء وجوهكم ونرضى بالحاصل، حتى وإن كان هذا الحاصل يعني في آخر المطاف (ثورة حصانة النظام) و(تقاسم السلطة والسلطان).وهنا ينطبق المثل القائل: (ذهبت النعامة تبحث عن قرنين فعادت بلا أذنين)، فما الذي غنمته (الثورة) وما الذي جناه الثوار؟ولكن الأخ ياسين الذي أدان (الثوار) لمجرد رفع أصواتهم، وحملهم نتيجة العنف المستخدم ضدهم من قبل النظام، بل وجعلهم في سلة واحدة ومستوى واحد مع قاتلهم وقامعهم، هكذا يدينهم بسبب خطابهم بقوله : “كم هي مخيفة الأصوات الصاخبة التي لا سقف لها، أصحاب هذه الأصوات لا يستقرون على حال، وفي نهاية المطاف يستقرون في حضن الخصم الذي يثورون عليه” وهناك ألف ذريعة وذريعة إن شئت لإدانة الضحية، هكذا يفهم ياسين السياسة والثورة بعدها مجرد أصوات وصراخ وصخب وتحديات وغوغائية، لا فعل وممارسة بين قوى مادية وأجسام وبطون جائعة؛ قوى مادية ومصالح وأهداف وإستراتيجيات وتنافس وتدافع وتغالب وتقاتل من أجل الخيرات والمقدرات والحرية والكرامة والاعتراف، وحقوق وتضحيات وصراع في سبيل استحقاقات عادلة وحرمانات مزمنة ومظالم وعذابات وآلام لا حدود لها.ويبدو موقف ياسين في دفاعه عن (الحصانة) وإدانة من يرفضها أغرب موقف يمكن أن يقفه سياسي من خصمه اللدود، الذي أذاقه شتى أصناف القهر والظلم والهوان، إنني أفهم مثل هذا القول لو جاء من أي طرف آخر من أطراف اللعبة السياسية، من حميد (أو علي محسن أو صادق أو الجندي، أو منصور، أو أي شخص آخر شريك مصالح واضحة ومتحققة مع (صالح) لكن أن يأتي من السيد ياسين الزعيم الجنوبي الذي فتكت دولته وشعبه وحزبه وسفكت دماء رفاقه منذ العام الأول فهذا أمر خارج نطاق التعقل والفهم، بل ويرقى إلى مصاف (اللامعقول والتفريط والعبث بحقوق ودماء الضحايا) الذين يجب أن تكون يا دكتور ياسين أشد من يدافع عنها، وماذا تقول لشعبك في الجنوب الذي دمره (النظام) ، الذي ندبت نفسك للدفاع عن حصانته وارتكب بحقه جرائم بحربه الغاشمة ضده في 1994م ، وما الذي سوف تخسره لو أنـك وقفت بحزم ضد (المبادرة والحصانة) أو لو أنـك أظهرت معارضتك لها بالصمت والغضب والتبرم في أضعف الإيمان.رابعـا : في إدانة الثائرات وشرعنة إقصائهن:إن (خوفك من الأصوات الصاخبة التي لا سقف لها) هو إعلان صريح عن نزعة الثقافة الأبوية وسيكولوجيا الهيمنة البطريكية الثاوية في الأعماق، وهي فضلا عن كونها إدانة واضحة (للثائرات والثوار) الذين حلموا بالحرية والانعتاق والتحليق والطيران في فضاءات (الثورة) الفسيحة بدون قيود أو سقوف من أي نوع، هذه الدعوة تتناغم مع خطاب وهوى قوى وأقطاب الهيمنة الأبوية التقليدية الذين أفزعهم صوت “الثورة الهادر” ما بين المذبح والحصبة من مشايخ القبائل وشيوخ الإصلاح وجنود الفرقة، الذين صوروا “الثورة بالأنثى القاصرة التي تحتاج إلى ضبط وحماية ورعاية وتقنين وحدود وسقوف كي لا تترك على حل شعرها وسفور وجهها”، وهذا هو بالضباط ما فعله رجالات (الثورة) وحماتها حينما انقضوا بالضرب والشتم والتعنيف المفرط على السيدات والآنسات الثائرات الناضجات الواعيات الأديبات والكاتبات والإعلاميات والناشطات: هدى العطاس وأروى عثمان وأمل باشا وأخريات في مسيرة المذبح الشهيرة التي كشفت عن الوجه الحقيقي للثقافة الذكورية (والثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء)، في معناها الأنثروبولوجي.إن قولك (بالأصوات الصاخبة التي لا سقف لها) هو انتقاص مهين من أهلية “الثائرات والثوار” واتهامهم بالقصور الطبيعي، ومن ثم تبرير الحاجة إلى حمايتهم وتوجيههم وتهذيبهم ووضع الحدود والسقوف ليس فقط لحركتهم ومطالبهم وآمالهم بل ولأصواتهم الصاخبة المزعجة العالية التي قضت مضاجع (السلطان) وقد أثبت علم النفس وعالم التحليل النفسي سيجموند فرويد إن مكبوتات الذات النفس في اللاشعور (تظهر في زلات اللسان) وأنت (يا رمز الحداثة والمدنية) يا دكتور بماذا تبرر ذلك الغياب التام والإخفاء الكامل للمرأة وصوتها ورموزها من مقال طويل عريض عن (الثورة ومآلاتها) وعن (الثوار والقوى الثورية)، إذ خلا المقال من أي إشارة أو ذكر للنوع الاجتماعي، ذلك النصف الحلو من الإنسان، وبدا الأمر وكأنها لم تكن بالحسبان، فاختفت في عالم النسيان والوعي الذكوري الذي لا يتذكر في لحظة الكشف والإلهام إلا ما يستحق الاهتمام والتذكر والتفكير، وأنا هنا لا أشك في نواياك الطيبة، ربما لم تقصد ذلك عن وعي، لكن أليس الطريق إلى جهنم مفروشاً بذوي النوايا الطيبة، ماذا تقول للسيدة (بشرى المقطري) التي قادت مسيرة الحياة من تعز إلى صنعاء؟ وماذا تقول لصاحبة نوبل توكل كرمان التي تعتقد أنـها أم الثورة وأبوها؟!! وماذا تقول للشهيدات من السيدات والآنسات اللواتي سقين بدمائهن الزكية الساحات وتصدين بأصواتهن لوحشية النظام في تعز والحديدة وصنعاء وذمار وفي الجنوب المحتل في عدن والمكلا والضالع وأبين وردفان؟ماذا تقول لأمهات الشهداء وزوجاتهم وجداتهم وأخواتهم ومئات الآلاف من النساء المحجبات والسافرات اللواتي رابطن في عموم الساحات وصرخن بأعلى الأصوات من أجل الحرية والكرامة والاعتراف بإنسانيتهن وذواتهن كائنات جديرة بالاحترام؟!.ومن - يا أخي العزيز - يمتلك الحق في تحديد (السقوف والحدود) والخطوط الحمراء لحركة وأصوات (الثوار والثائرات)؟!من يمتلك شرعية ذلك غير (الثوار) أنفسهم، لكنك حتى وإن لم تصرح في ذلك، أحلت الأمر إلى قوى خارج (الثورة)، إليكم أنتم أصحاب (المسار السياسي) الذي (استطاع أن يحمي الثورة بأن جسد بالملموس طابعها السلمي...) وهذا ما كان له أثره البالغ على الموقف الدولي في الضغط على النظام للسير في طريق نقل السلطة والتغيير بموجب المرجعية المتمثلة في المبادرة الخليجية والآلية المحكمة لها)، وماذا يعني ذلك يا ترى؟!!، أليس سرقة واغتصاب (الثورة) وادعاء تمثيلها سياسيـا، هكذا تعلي من شأن (العملية السياسية) وتمنحها حق (حماية الثورة) وتصوره وكأنـه حق طبيعي مكتسب وموروث وشرعي وبديهي لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه، بينما لم يكن في الواقع أكثر من جريمة اغتصاب ووأد وإجهاض جنين (الثورة) المفترضة من قبل قوى وجماعات وأطراف كانت وستظل المستهدف الأول لأي ثورة ممكنة، أقصد قوى الهيمنة التقليدية وكل ما يتصل بها من (نظام) ورموز وأشكال قديمة.خامسـا: تبرير المبادرة بمخاوف متخيلة:في السياسة بما فيها من علاقات قوة وصراع لا مجال للأوهام والخرافات والأحلام والتخيلات، بل هناك ممارسات وحقائق وقوى ومصالح وفاعلون وأفعال ورهانات وحسابات وإستراتيجيات وتكتيكات محسوسة ملموسة لا تخطئها العين، “والممارسة هي الكلمة التي تعبر بوضوح عن معناها” كما يقول الفرنسي بول فين، وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد، فذلك هو ما تجهد القوى المهيمنة والمتسلطة في إخفائه على الدوام بما تثيره من زوابع ونقع كثيف يظلل أرض المعركة بالغبار والدخان والرموز والأقنعة وهذه هي الوظيفة الجوهرية للأيديولوجيا السياسية، أنـها العمل الدؤوب على إخفاء وحجب الواقع السياسي الفعلي في واقع الممارسة الفعلية المتعينة، ولعل هذا هو ما قصده دوبريه بقوله : “طويلا ما أخفت السياسة عني السياسي”، إنـها تخفيه ليس بمعنى أن يخفي القطار قطارا آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكة التي يجري عليها، هناك مسافات كثيرة وفضاءات متعددة وأسطح متساوقة، ولكن هنا سكة حديدية واحدة مهيأة لسير جميع القطارات.هذا معناه أن الخطابات والشعارات والأيديولوجيات والتلويحات التي تطلقها السلطات هي جزء من أوراق اللعبة ورهانات التفاوض، ومن السذاجة أن تنطلي الخدع والأقنعة السياسية على المشتغلين في الشأن السياسي أمثال الدكتور العزيز ياسين الذي هب للدفاع عنهم، وتبرير وتسويغ (المبادرة الكارثية والحصانة الجريمة) بذريعة الخوف من الحرب والعنف والتفكك والانهيار وغير ذلك من الأوهام التي أخذت أطراف اللعبة السياسية التقليدية الشمالية المهيمنة في التلويح بها كفزاعة العصافير في حقول القمح!وكما قيل إنـه من (المضحك أن يموت المرء خوفـا من الموت ذاته)، فكذلك يمكن القول إنـه من المؤسف أن يبرر ويسوغ طرف سياسي إجهاض (الثورة) وتحويلها إلى (أزمة) وصفقة وحصانة، تحت ذريعة ومبررات مخاوف محتملة ومتخيلة هي الحرب، كما فعل صديقنا ياسين في تبرير (خيار الضرورة) وإدانته للأصوات والخطابات (الثورية) الرافضة لهذا الانزياح الخطير للمسار المفترض للثورة حتى إنجاز وعدها وانتصارها كما تم في تونس ومصر وليبيا وفي كل مكان شهد قيام (ثورات ناضجة) ياسين يقول إن البديل للمبادرة والحصانة هو (الحرب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر وإن اشتعلت - لا سمح الله -فلن نجد حينها يمنـا نبنيه أو نحكمه)، وما الفرق بين هذا القول وقول الحاكم وتخويفه (لمعارضيه) منذ أن اغتصب هرم السلطة، بالحرب والصوملة والتفكك والإرهاب والثعابين، وهنا يظهر السيد ياسين بمظهر الطرف الثالث المصلح المحايد الذي لا هم له غير التوفيق والتهدئة بين الأطراف السياسية المتنازعة بقوله: (من المهم أن لا نتجاهل الطريقة التي رسمت بها الثورة على الأرض في ظل موازين قوة أخذت تنهك البلاد والعباد وتنتج كل يوم عوامل انهيار (الدولة) - الهلالان من عندي - دون أن تغير من طبيعة النظام، حتى بعد تفككه، الذي لم يكن في الأساس نظامـا مؤسسيـا قابلا للتأثير بانهيار مؤسساته).إن هذه الفقرة تحمل نفيـا كليـا لقيام (الثورة) فليست ثورة تلك التي (رسمتها موازين قوة) ولاحظوا كم في هذا الكلام من تناقض واضطراب، فهو في البدء يتحدث عن (انهيار الدولة) ثم يقول إن هذا النظام (نظام غير مؤسسي)، وهل يمكن تخيل وجود (دولة) بدون مؤسسات؟! وما هي الدولة يا دكتور ياسين في اعتقادك؟.إن مقدمتك الكبرى هي - هناك دولة تنهار، والمقدمة الصغرى هناك نظام غير مؤسسي، فكيف ستكون النتيجة المنطقية الصورية الخالصة، ولماذا قامت (الثورة) لو أن لدينا (نظام دولة)؟ الدولة يا صديقي هي الغياب الكبير في صنعاء، (المركز المقدس)، وهي التي غنمتها الهيمنة على عدن.لكن ما يهمنا هو حديثه عن (موازين قوة) أخذت تشحذ السيوف وتدق طبول الحرب، وهذا ما يخشاه المفكر المصلح القادم من الجنوب المنزوع المخالب والأنياب، الجنوب الذي كان د . ياسين أحد قياداته السياسية منذ 1967م ولا زال موقعه ومكانته وحزبه محسوبا على الجنوب المنهوب، لكن ياسين هنا وهو يحاول تبرير “المبادرة” بالتخويف بالحرب، يتحدث وكأنـه يحلق خارج السرب، مشاهد محايد، وليس طرفا من أطراف اللاعبين السياسيين، فكل ما يهمه هو إصلاح ذات البين، بين قوى الصراع المتشابكة الأربع: صالح حاشدي من سنحان، وعلي محسن وفرقته حاشدي من سنحان، وشيخهما أو شيوخهما من آل الأحمر حميد وصادق وحمير وغيرهم، والإمام الحوثي، إمام الزيدية.. هذه الأطراف هي الأقوى والأقدر على الحرب والحل والعقد والفعل والنهي والأمر والحشد والتفاوض وهي مؤسسات تقليدية أبوية شمالية قديمة جدا قبل (الثورة بطبعتها الأولى) وقبل الدولة وقبل الإنجليز وقبل الأحزاب والمعارضة والجمهورية والدولة والوحدة والديمقراطية وقبل كل ما يتصل بالمؤسسات والعلاقات والنظم والقيم والرموز الحديثة التي نمت وازدهرت في الجنوب، هذه الأطراف التي تشغل الملعب السياسي بعنف وقوة ورسوخ وقدرة ونفوذ، في ما كان يفترض أنـه (العاصمة السياسية) (للوحدة) بين دولة الجنوب الحديثة وسلطة الشمال التقليدية، التي أسهم الجنوب فيها بثلثي مساحة (الجمهورية اليمنية) وبأكثر من (80 %) الثروة، أين يمكن للجنوب أن يتعرف على ذاته فيها، أقصد عاصمة (الوحدة) المعمدة بالدم، هل هي هذه (الوحدة) التي سقتم الجنوب إلى حظيرتها؟ وما هي مصلحتك السياسية - باعتبارك الطرف المهزوم والمسحوق والمقصي، منذ 1994م - من لعب دور المصلح الديني والداعية الطيب المسالم في الإصلاح بين الأطراف السياسية والاجتماعية ذاتها، التي تحالفت عليك وسحقتك في أبشع حرب (احتلال مقدس).ألا تعلم بأن التلويح بالحرب والعنف هو إستراتيجية رهان من رهانات أطراف اللعبة السياسية المهيمنة التي تجيد اللعب، والتي نذرت نفسك للترويج لها ومبادرتها وحصانتها ومصالحها، ألم تكن ذريعة الحرب المحتملة هي الذريعة التي جعلتكم تقدمون على توقيع اتفاقية (الوحدة) الفخ عام 1990م فضعتم ولم تمنعوها وهي أهم أدوات وأوراق اللعبة السياسية.لقد حيرني موقفك هذا الذي لم أسمع أو اقرأ بمثله في تاريخ الفكر السياسي برمته وعلى ماذا تخاف أنت بالذات من الحرب المتخيلة التي ليس لك فيها لا ناقة ولا جمل؟، بل ربما كنت أنت (ولا أقصد هنا شخصك الكريم) بل موقعك السياسي وقواك المفترض أنـك تحمل مشروعها، ربما كنت أنت بمنطق السياسي البسيط آخر طرف من الأطراف تصديقـا لخرافتها بما تراكم لديك وعليك من ثأرات سياسية عند الأطراف المعنية يستحيل التغاضي عنها والتنصل عن استحقاقاتها بهذه الطريقة السلامية الهلامية المثيرة للتعجب، إنني أفهم موقفك هذا لو كنت في وضع “العفو عند المقدرة” لو أنـك تمتلك من القوة والقدرة والنفوذ ما يفوق قوة الأطراف الأخرى في الميدان العام بما يمكنك من السماح أو التنازل عن مظالم أو حقوق كنت قادرا على أخذها لو أردت، ولكنك فضلت خيار الشجعان بأن تسامح وتتنازل عن جرائم وانتهاكات فادحة وقاسية وتضحيات لا حصر لها، بل وتدافع عن القوى والأطراف التي ارتكبتها بدون مقابل أو ثمن أو مصلحة سياسية، وهذا لعمرك ما لم يفعله السيد المسيح عيسى بن مريم مع خصومه، بل ربما كنت أنت الوحيد الذي تمتلك الأسباب والدوافع والمبررات القوية لرفض إجهاض (الثورة) ورفض المبادرة الخليجية والوقوف بحزم وحسم ضد تمرير (قانون الحصانة) حتى لو قامت القيامة، واحترقت صنعاء بمن فيها لا سمح الله، وعليك أن ترعى إبلك أما صنعاء فلها رب يحميها يا دكتور.إنك بخوفك المزعوم من (نشوب الحرب وتفكك البلاد) وتبرير المبادرة وتشريع الحصانة، قد أوقعت نفسك في طائفة مركبة من الأخطاء الفادحة، خطأ التنازل عن (الثورة) وصيرورتها (أزمة) وخطأ التنازل عن دماء وحقوق آلاف الضحايا والجرائم البشعة التي ارتكبتها (أطراف الأزمة) ضد الجنوب من 90 - 1994م، حتى الآن، وخطأ التنازل عن دماء وتضحيات النساء والرجال الذين سقطوا على درب الحرية والتحرير في تعز وعدن وصنعاء وحضرموت والحديدة وإب وذمار... إلخ، الذين كانوا يرون فيك نصيرهم ومرشدهم الأمين، وخطأ تسليم البلاد والعباد إلى سيادة أيدي قوى هيمنة وأطراف خارجية عربية وعالمية وخليجية ووضعها تحت الوصاية الدولية حقـا وفعلا بما ليس له مثيل.وأنت بذلك بوعي أو بدونه قد ارتكبت عنفـا هو أشد وأفدح وأضر وأشر مما كان يمكن أن تفعله الحرب المزعومة، التي أفزعتك نتائجها المحتملة، وأنت بهذا الموقف الغريب العجيب قد ضحيت (بالثورة والثوار والثائرات) وضحيت بالجنوب وقضيته، وضحيت بالسيادة والقرار، وقويت الأطراف التي يتشكل منها (النظام) ومنحتها حصانة دائمة ضد كل سؤال، في حين أنـك لم تمنع قيام الحرب، ولم تضعف القوى التقليدية المهيمنة القادرة على خوضها، ولم تقو طرفك وقواك المفترضة (حداثية أو مدنية) شمالية أو جنوبية، عدنية أم تعزية، وطنية أم وحدوية بل بالعكس يا أخي عززت ورقة التلويح بالحرب بأيدي القادرين عليها، كخيار مجرب لتحقيق مكاسب إضافية وامتلاك قوة تفاوضية على حساب الخائفين منها، يقول سارتر: (إن أردت أن تحتفظ بيديك نظيفتين من الدماء فلا تشتغل بالسياسة)، وأنت يا صاحبي كيف رضيت الاشتغال بالسياسة إذا كانت نفسك تتأفف من أدواتها وقواعدها وأساليبها ومكرها وقساوتها وعنفها ودسائسها وخدعها، وألاعيبها وفحشها ولا أخلاقيتها كما شرحها ميكافيللي في كتابه الأمير إنجيل السياسة والسياسيين في العصر الحديث أو كتاب مقدمة بن خلدون، فليس بمقدورك أن تختار أدوات اللعبة السياسية على هواك بل هي “فن الممكن” أي عليك أن تمارس لعبتها بما تتيحه من قواعد وأدوات ممكنة وفاعلة ومتاحة، وإلا فأنت كمن يرغب في ممارسة السباحة على الشاطئ دون أن يلامس الماء.والسياسة - يا أخي العزيز ياسين - هي الزمن الذي لا يمر لا يعرف التجديد والاكتشاف. وكل لحظة من لحظات التاريخ السياسي للمجتمعات تمثل درجة الصفر، وكل جيل يمسك بالخيط من أوله ويردد في الوقت ذاته أنـه يبتدع - هستيريات تحقيق الذات، والهلوسات الجماعية والفصامات الطائفية والهذيانات الدفاعية، والتبريرية، وكما أن المراهق يتعلم المضاجعة دون أن يعلمه إياها أحد، ولكن من دون أن يمارسها “خيرا” مما مارسها جدوده، فإن كل حقبة اجتماعية تعاود اختراع السياسة وكأنـها لم تكن قط هي.. هي سياسة كل زمان ومكان التي تؤثر في حياة الناس بأشد مما تفعل بهم الظواهر الطبيعية: المناخ والجدب والخصب، والحر والبرد والزلازل والبراكين... إلخ.[c1]يتبع[/c]