ظهر اليدومي بمسرح الثوريين، وهو لا ينتمي لأية ثورة، لأنه باختصار، قادم من خلفية ملكية. أبوه (عبدالله اليدومي) من الذين قاوموا ثورة سبتمبر بشدة في ستينيات القرن المنصرم، وكان قائماً بمقام الإمام في تعز، إلى حين تم تصفيته من قبل الجمهوريين. بعد إعدام أبيه ظل اليدومي الابن يتنقل من مكان إلى مكان ويحرض على الثورة - ثورة سبتمبر- وخوفاً منه من أن يلاقي مصير أبيه، كونه هو الآخر كان مفرطاً في مناوأة الثورة ومتطرفاً للملكية. وبعد المصالحة التي تمت بين الجمهوريين والملكيين، عين ضابط أمن في سجن (الشبكة) بتعز، وبعدما صار المسؤول الأول عن هذا السجن وبحسب ما كشف عنه الصحفي علي الصراري في صحيفة “المستقبل” التي كانت تصدر عن الحزب الاشتراكي سابقاً، فإن محمد اليدومي كان يمارس أساليب تعذيب غاية في البشاعة بحق المساجين (الجمهوريين) لأنه ببساطة مترف بالشمولية، وجذوره ضاربة أطنابها في الملكية. إلى ما قبل ظهور محمد اليدومي على شاشة “سهيل” يلقي خطابا طويلا-قليل القيمة- كان البعض يعتقد أن الإصلاح قد استطاع أخيراً تقنين خطابه المسف، وتجاوز مرحلة الانفعالات والتجييش العاطفي حيث كان يقيم، وما زال.إذ لا يبدو أن الحزب قد تخلص من صبيانية ما قبل فعل التوقيع على الاتفاق السياسي والظاهر انه يعيش خارج التوافق، بل قل خارج أسوار التاريخ في إقامة اجبارية.لست هنا بصدد التحامل على الإصلاح، لكن في لهجة اليدومي وظهوره المفاجئ وغير المعتاد يمارس السياسة على شكل انفعالات مثابر رجعي، في هذا التوقيت بالذات، ما يشي بالقلق ويحرض على مراس الاستفهام وان بطريقة غبية.فليس بريئا تماما، أن يظهر محمد اليدومي وهو رئيس الهيئة العليا للإصلاح عشية إجراء الانتخابات التوافقية يتحدث عن استكمال أهداف الثورة والحرس العائلي - الاستفزاز يتكثف في هذه العبارة بشدة- وتوصيفات أخرى لا تصلح للتداول في بورصة السياسة.لا يوجد شيء يمكن في ضوئه التكهن بان الإصلاح سيتجاوز مأزق التقوقع عند لحظات الانحطاط التاريخي أو اندثار الخطاب الشمولي.لقد افصح محمد اليدومي انه يعمل ضد منطق الأشياء بشكل سافر وعن رغبة مرضية للانتقام وعن ميولات انعزالية تسلطية مستحكمة في سلوك الحزب الاجتماعي وكم أنه فاقد القدرة على تحمل وجود الآخر، مجرد وجوده.وعلى الرغم من أن خطاب محمد اليدومي كان طويلا ومملا إلى حد كبير، إلا انه لم يكترث لتضمينه ما يمكن اعتباره مؤشراً على نضج سياسي راق، أو ما يوحي بأن شيئاً ما قد طرأ على فكر التنظيم الهلامي.لقد ذهب اليدومي يؤكد المؤكد ويثبت الثابت. وعلى ما يبدو أن الرجل لم يدخر جهدا لتقديم الإصلاح كجماعة/حزب راديكالي في جعبته كل شيء، عدا شيء واحد فقط:اللياقة بالمعنى الميكانيكي على الأقل.ومن يرغب في أن يرى الإصلاح جماعة ترتكز على نظام عقائدي مغلق. رغم أن الإصلاح لا يزال يعطي هذا الانطباع أحيانا، بل قل دائما، فعليه النظر إلى وجه محمد اليدومي.لا ريب في أن خطاب رئيس حزب (الإصلاح) الأسبوع الفائت قد عكس بوضوح مأزقاً حاداً بداخل هذا الحزب بسبب تعدد وتناقض مناهج التفكير والعمل؛ أفصح عن بعضها اليدومي في قوله (لقد شقت الثورة اليمنية طريقها عبر مسارين متكاملين من أجل تحقيق أهدافها، وحققت عبر مساري الفعل الثوري والفعل السياسي هدفها الأساس) وأكد على (أهمية استمرار المسارين حتى تستكمل الثورة أهدافها، وهو ما يتطلب- بكل تأكيد- بقاء الزخم الثوري)! إنه الانفصام المتوحش الذي يجرد الأشياء من معانيها.(الإصلاح) لم يطرح نفسه كحزب سياسي مدني، على اعتبار أن الحزب صيغة تنظيم اجتماعي حديثة، تقوم نظريا على مبدأ المواطنين الأحرار. وليس تحاملا إن جرى تعريف (الإصلاح) بوصفه مجموعة دينية وعظية دون وطنية ولا عقلانية، تحركها الأوهام والخرافات والسرديات الكلية، وهي لا تنفتح إلا على قاعدة اجتماعية محدودة تتغذى من موروث تاريخي ضيق ومزيج من المؤثرات الدينية الوافدة والمحدثة.. ما من شك أن المتابع لن يلتمس العذر للإصلاح بعد سماع ما قاله اليدومي، في خطابه الذي ألقاه عشية إجراء الانتخابات التوافقية عبر قناة “سهيل” ولا يجد أنه-الإصلاح- مستعد للشروحات الثنائية المباشرة التي قد يجهد ناشط اصلاحي نفسه لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود.ظهر اليدومي-من خلال كلامه- حائراً بين مناهج وإرادات متناقضة في التفكير والعمل، حيث تجسدت في هذا التناقض ملامح أزمة عامة يعيشها حزب الإصلاح بأجنحته المختلفة التي لا يجمعها سوى المراهنة على إمكانية توظيف الدين من أجل تحقيق أهداف سياسية في إطار ما يعرف بالإسلام السياسي الحركي .بوسع القراءة الموضوعية لأسلوب وأفكار خطاب اليدومي أن تساعد على فهم ملامح الأزمة الداخلية التي يعيشها حزب الإصلاح تحت تأثير مفاعيل الديمقراطية التعددية بعد أن أضطر الإخوان المسلمون للقبول بها غداة توحيد الوطن في إطار الجمهورية اليمنية التي ارتبطت ولادتها يوم 22 مايو 1990م بالتحول نحو تأسيس ثقافة سياسية جديدة على أنقاض موروث فكري و ثقافي شمولي ذي نزعة أحادية إقصائية تدعي احتكار الحقيقة وترفض التعدد والتنوع، ولا تقبل التعايش مع الآخر المغاير.يثير الالتباس الحاصل في كلمة رئيس الهيئة العليا لحزب الإصلاح تساؤلات مشروعة حول مدى تحرر هذا الحزب من إرث الثقافة الشمولية التي مازالت تلعب دور حاضنةٍ تغذي خطاباً تحريضياً يستثير في المتلقي منطقة اللاوعي، ويستولد منها أفعالا عنيفة وعصبية ضد المغايرين والمخالفين الذين يدعو اليدومي ــ في الوقت نفسه ــ إلى إعلاء دور الكلمة في الحوار معهم، بينما يقدم في فقرة أخرى تأويلا حزبياً وسياسياً ضيقاً للدين بهدف توظيفه لتسويق خطاب المقاومة والاستئصال. فبحسب خطاب (اليدومي) التثقيفي الدعوي فإن (العمل السياسي هو لنصرة دين الله وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحجة على المرتابين. علماً بأن حزب (الإصلاح) يمتلك رصيداً لا ينكر من الخبرات في مجال إضفاء طابع تخيلي وتهييجي ــ في آن واحد ــ على الخطاب الدعوي الدعائي الذي ينتج ثقافة العنف والتعصب بهدف الحصول على استجابة حماسية تغيب عنها الرؤية ويسودها الانفعال الذي يتحول إلى عنف يستولد التطرف والقمع من رحم الإرث الفكري الشمولي.ما من شك في أن خلطة الأفكار التي قدمها اليدومي في خطابه الصحوي الأخير؛ تعبر عن حاجة الإصلاح إلى تقليص رقعة الخلافات بين جناحين متناقضين حرص اليدومي على التوفيق التعسفي بينهما في سياق التناقض الموضوعي بين العقل والكهانة، حيث يصر جناح الملالي على إضفاء نوع من السلطة المتماهية مع الدين على مواقفه و تصوراته وآرائه، بيد أن الاعتراف بهذا التناقض والتباين والمراهنة على إمكانية اختزالهما والجمع بينهما على نحو ما تدل عليه الخلطة التي تتشكل منها أفكار الخطاب ذاته، بحيث لا يجيز بأي حال من الأحوال التراجع عن نقد الآراء التي تدعو إلى إعلان الحرب على الديمقراطية عبر الدعوة المموّهة إلى مقاومة نظام الحكم واستئصال جذوره بدعوى مقاومة الطغاة والطواغيت والمستبدين واستئصال الفكر الماكر. وعلاوة على كونه خطاباً بدائياً رديئاً للغاية.. فقد بدا بوضوح، وكأن رئيس حزب الإصلاح يحاول ترميم الجسور بين ثقافة العنف الجهادي التي ترسخت في أوساط واسعة من قواعد حزب الإصلاح بعد أن ارتبطت بالنشاط الحركي والتحريضي للحرس القديم المتنفذ في الحزب، وبين ما يعتقد عبثا أنها ثقافة متنورة قليلا أفرزت ــ تحت تأثير الانخراط بالعملية الديمقراطية ــ جيلاً جديدا من الإصلاحيين أقل عنفا وتطرفا من سابقيهم، والذين أصبحوا بفعل توجهاتهم ذات المنحى الحداثي المحدود في حالة صراع موضوعي مع جناح الملالي الذي يهيمن على مصادر القرار والأموال في حزب (الإصلاح) وجمعياته الخيرية واستثماراته وشركاته وعقاراته المسجلة بأسماء شيوخ هذا الجناح.ربما لو أن اليدومي تصنع في خطابه الانحياز إلى جانب التنوع والتعدد والقبول بالآخر كخيار ديمقراطي في العمل السياسي بدلا من تلغيمه بأفكار شمولية ورجعية أرساها على الأرجح حسن البنا في خمسينيات القرن المنصرم؛ لكان قد نجح، إلى حد ما، في إعطاء ما يؤشر إلى تحول مهم في الخطاب السياسي للتيار الإسلامي تحت تأثير مفاعيل العملية الديمقراطية التي ينخرط فيها، بقدر ما يؤشر أيضاً إلى ميول واضحة لتجاوز ميراث الثقافة الأحادية الإقصائية الشمولية التي تشكل إرثاً ثقيلاً لحزب (الإصلاح) بصفة عامة، وللرجل ذاته، اليدومي، بصفة خاصة لجهة رصيده القديم في التحاور بلغة أخرى مع خصومه من مكونات الطيف السياسي عندما كان ضابطاً في الاستخبارات.بيد أن الانحياز للشمولية والاستبداد والإقصاء والعنصرية كان المهيمن على خطاب الرجل إلى درجة الطغيان.. تبدى ذلك بطريقة سافرة.. لقد اثبت اليدومي مجددا انه طافح بالرجعية، وأن ثمة معضلات لا علاقة لها بالادعاء ولا بالنوايا الحسنة ولا يمكن إخفاؤها بالتعاطي مع الشعارات الديمقراطية أو حتى بارتداء ربطة عنق “إذ لا يسع أحد التخلص من جذره”؛ وعليه يجب تفهم حاجة الإصلاح للوقت للتخلص من جيوبه الرجعية.نحن الآن أمام خطاب أخر ملتبس اضطرته شروط الانخراط السلمي في العملية الديمقراطية إلى المواءمة بين الشعار المركزي للإخوان المسلمين الذي يتكون من مصحف وسيف وتحتهما كلمة (وأعدوا)، وبين متطلبات التكيف مع العملية الديمقراطية السلمية التي وجد الإخوانيون أنفسهم مضطرين للتعاطي معها من خلال التنظيمات التي يستخدمونها كغطاء للنشاط السياسي ووسيلة للوصول إلى السلطة وإقامة الدولة الدينية. حديث اليدومي عن ضرورة إعلاء دور الكلمة في النضال السلمي والحوار بين مكونات الطيف السياسي قد يبدو منطقياً من زاوية التكيف مع قواعد العملية الديمقراطية التي لا يوجد لدى الإخوان المسلمين رصيد فكري وسياسي يعمق ايمانهم بها وممارستها والتسليم لنتائجها باعتبارها (فكرة ماكرة تسهم في تخدير الناس واستسلامهم للأمر الواقع) في نظرهم. الأمر الذي يستوجب نبذ هذه الفكرة واستئصالها.ولئن كانت هذه الأفكار تتعارض مع قيم الحرية والديمقراطية التعددية، فإن القول بضرورة المقاومة والاستئصال ــ على نحو ما جاء في جانب من خطاب اليدومي ــ يتعارض هو الآخر مع أدوات التغيير الديمقراطي السلمي بواسطة المعارضة بالرأي والفكر، والدعوة إلى الإصلاح بالبرامج السياسية التي أشار إليها اليدومي بصورة ملتبسة في خطابه الأخير، ثم نسفها صراحة ً في فقرة لاحقة من نفس الخطاب.
|
آراء
جمهوري قادم من خلفية ملكية..!
أخبار متعلقة