قُتل طارق الذهب، وهو أحد زعماء تنظيم القاعدة الذي كان لفترة وجيزة أميراً على مدينة رداع في اليمن، في وقت سابق من هذا الشهر على يد أخيه غير الشقيق إثرَ حادثةٍ تتخطى النزاعات العائلية. واقع الأمر أن السلطات المحلية مارست ضغوطاً على الأخ غير الشقيق، حزام، كي يتصدى لتهديد القاعدة في عقر دارها؛ الأمر الذي أدى، كما هو متوقّع، إلى موجة من الانتقام أسفرت في نهاية المطاف عن مقتل حزام. وعلى الرغم من وحشية ومأسوية هذه الرواية التي تبدو وكأنها قد تخطاها الزمن، تساعد تفاصيلها على تمهيد الطريق لسياسة أمريكية حيال تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والأهم من ذلك، حيال اليمن ككل.لا يمكن القول أن اليمن في “مرحلة” انتقالية، لأن في ذلك انتقاصاً للمراحل الانتقالية الكثيرة التي تمر بها البلاد، أبرزها انتهاء حكم علي عبدالله صالح، كما يبدو، بعد عقد من الزمن - وأقول “كما يبدو” لأنه لا أحد يعلم ما الذي خطّط له صالح بالضبط، حيث قد ينجح في تدبر هروب آخر يتحدى فيه الموت (بالمعنى الحرفي للكلمة في أحيانٍ كثيرة). وقد تحقّق هذا التحول مع انتخاب الفريق الركن عبد ربه منصور الهادي، نائباً للرئيس السابق والرئيس بالإنابة منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي (ناهيك عن أنه كان المرشح الوحيد للرئاسة)، رئيساً للبلاد بصورة رسمية هذا الأسبوع.على الولايات المتحدة أن تشجع الاستقلال الذاتي في الجنوب وفي مناطق الحوثيين إنما من دون قطع التواصل بين هذه المجموعات وصنعاء، أي الانفصال وليس الطلاق.لقد ركّزت السياسة الأمريكية على هذه الانتخابات الرئاسية، فساهمت في دفع مبادرة مجلس التعاون الخليجي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي التي تضمنت تنحي صالح من السلطة مقابل حصوله على الحصانة من الملاحقة القانونية. وقد سارعت الولايات المتحدة أيضاً إلى الاعتراف بهادي خلفاً له، وتباحثت معه بشأن إضفاء شرعية على حكمه من خلال توجيه مؤشرات واضحة بالتغيير نحو الإصلاح.لكن على الرغم من أهمية استثمار الولايات المتحدة لهذه اللحظة، إلا أنها أبعد من أن تكون ضمانة للاستقرار، فهذه ليست سوى واحدة من العديد من الثورات داخل اليمن. فأياً تكن هوية الشخص الذي يمسك مقاليد الحكم في صنعاء، ستكون سلطته محدودة: فقد خسرت منطقة الوسط مناطق الشمال والجنوب. في الشمال، استغلّ الحوثيون الفوضى التي أحدثتها الثورة لتثبيت سلطتهم، وهم يتصرفون (حالياً) وكأنهم يديرون منطقة تتمتع باستقلال ذاتي. أما الجنوب، فهو خليط غير مستقر من الانفصاليين الليبراليين والمقاتلين الإسلاميين، وليس هناك أي تنسيق بينهم. وعلى الرغم من أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لا يضم في صفوفه كل المقاتلين الإسلاميين، إلا أنه التنظيم الأبرز. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتوقّع أو تحاول فرض حكومة مركزية تبسط سلطتها على كامل أراضيها كما هي محددة في الخريطة، فالأراضي اليمنية لم تخضع قط إلى السيطرة المركزية، والمحاولات التي بذلها صالح لتحقيق ذلك في الأعوام العشرين التي تلت التوحيد منيت كلها بالفشل. غالباً ما تأخرت الولايات المتحدة في الإدراك بأن لقب “الرئيس” في اليمن لا يضمن السلطة، وبأن سن القوانين يختلف عن الاعتراف بها وتطبيقها. يكفي أن نتوقّف مثلاً عند حادثة الهجوم على المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول”، فقد طالبت الولايات المتحدة بتوقيف الفاعلين. لكن حتى لو كانت لدى صالح الرغبة في القيام بذلك، كان عليه أن يراعي في نهاية المطاف الامتيازات القبلية ويمتنع عن تخطّيها. كانت سلطة صنعاء محدودة للغاية.في حين أن هذه الانقسامات ليست دائمة، إلا أنه لا مجال لقيام دولة مبنية على المصالحة في المدى القصير. وقد ينشأ نظام مطابق لنظام صالح، حيث لن يسارع المتمردون سواء في الشمال أم الجنوب إلى السعي إلى إعادة التوحد، وذلك نتيجة إراقة الدماء التي لا يمكن محوها بمجرد رحيل صالح. لكن ثمة فرصة جيدة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار من دون مصالحة، فالحوثيون، الذين هم أكثر تدريباً من الحراك المبتدئة نسبياً ويملكون قيادة أكثر مركزية، يمكن أن يوقّعوا اتفاقاً مع الحكومة اليمنية. غير أنه بعد سنوات من الحرب، لا يمكن أن نتوقّع لا من الحوثيين ولا من الحراك العودة إلى حظيرة الدولة.خلافاً لبعض الآراء، ليس الإقرار بأن نموذج الدولة الغربية الحديثة غير قابل للتطبيق في اليمن، فكرة استعلائية. إذ أنه عند توقيع معاهدة وستفاليا، ألفية كاملة كانت قد مضت على قيام النظام السياسي المستند إلى اللامركزية والمفاوضات في اليمن، ولم يكن بحاجة إلى زخارف حديثة. والأهم من ذلك، يجب أن تدرك الولايات المتحدة أن محدودية سلطة الحكومة المركزية ليست سلبية في المطلق. فعلى النقيض من المخاوف التي يعبر عنها كثر من سيناريو يحول البلاد إلى صومال ثانية، لن تسود شريعة الغاب في اليمن، بل ستحكمها المفاوضات اللامركزية بين زعماء القبائل والمناطق.على الولايات المتحدة أن تشجع الاستقلال الذاتي في الجنوب وفي مناطق الحوثيين إنما من دون قطع التواصل بين هذه المجموعات وصنعاء، أي الانفصال وليس الطلاق. ولهذه الغاية، على الولايات المتحدة أن تبحث عن أصحاب النفوذ الحقيقيين في القبائل والمناطق التي تتمتع باستقلال ذاتي، فهؤلاء هم من يمارسون السلطة الفعلية على تصرفات الناس، ويحكمون في مناطق لا تصلها الحكومة المركزية. وإذا نأت الولايات المتحدة بنفسها عن العمل عبر آليات الفساد التابعة للحكومة المركزية، وعملت بدلاً من ذلك مع سماسرة السلطة الحقيقيين، فتستطيع تحقيق نجاح مزدوج: ستتمكن من مساعدة الشعب اليمني، فتحول بذلك دون انفجار البلاد من الداخل، كما أنها ستضعف تنظيم القاعدة إلى حد كبير.يقودنا هذا إلى ما تعتبره الولايات المتحدة الأولوية الأكثر إلحاحاً في اليمن: القضاء على تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الذي يشكّل الفرع الأشد خطورة بين الأذرع الممتدة لتنظيم القاعدة. ألتقي مع كثيرين على أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يجب ألا يكون الأولوية القصوى، وأن التركيز الحصري عليه على حساب المسائل الأخرى يعود بنتائج عكس المتوخاة. لكن لحسن الحظ أن الطريق إلى مطاردة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يلتقي مع الطريق إلى مساعدة اليمن في شكل عام.في المثال الذي افتتحت به المقال، وضع زعماء محليون مخططاً لقتل مسؤول في تنظيم القاعدة. لا حاجة إلى أن تكون السياسة الأمريكية عنيفة إلى هذا الحد، لكن يجب أن تقرّ بأن السلطة هي في قبضة القبائل المحلية. هؤلاء هم الأشخاص الذين ينبغي علينا فتح قنوات اتصال معهم. والقاعدة سبق أن فعلت ذلك عبر تزويج عناصرها من فتيات من القبائل، ما أتاح لها السيطرة على المدن وبناء جيش والاختباء من الطائرات غير المأهولة. ففي حالات عدة، اضطُرت قوات صالح إلى التراجع عن مطاردة عناصر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، على الرغم من الضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك تفادياً للدخول في حرب مع القبائل. وبالتالي، إذا كانت القبائل تؤمن ملاذاً لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، فالدافع ليس بالضرورة اصطفافاً ايديولوجياً، بل لأن القاعدة تتقيد بالقوانين المحلية وتعرف كيف تتقرب من العشائر، فلديهم ما يقدمونه للقبائل؛ ونحن أيضاً لدينا ما يمكن أن نقدمه لها.بإمكان القاعدة أن تؤمن المياه والطعام والأدوية إنما ليس بالقدر الذي تستطيع الولايات المتحدة تأمينه. هذا هو المفتاح لهزيمتهم ومساعدة اليمن. المشكلة الأكبر التي تواجهها البلاد الآن ليست الإرهابيين العابرين للأوطان، فهم لا يشكلون حتى سبباً أساسياً في المشاكل السياسية التي تشل البلاد. فالمسائل الرئيسة، على المدى الطويل، هي الجفاف والمجاعة والفقر المستشري والسكان الذين تتسع في أوساطهم الفئة العمرية الشبابية ويتعاظم قنوطهم. لكن المساعدات ليست الحل الوحيد، وهنا يأتي دور التواصل المباشر مع القبائل.يجب ألا يتم توزيع المساعدات من خلال صنعاء بل عن طريق القادة المحليين، ما يتيح التخلص من الطبقات التي تمر عبرها عملية التوزيع، وقطع الطريق أمام السرقة. يسمح هذا بتعزيز الثقة بين الأطراف، ويساهم في تقويض تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. في الواقع، لدى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بعض الخبرة في العمل خارج صنعاء، إذ تستهدف العديد من المجموعات الفرعية “الهشة” في مناطق محددة مثل الجوف، حيث يعتمد التوزيع أكثر على القنوات المحلية. وإذا نأت الولايات المتحدة بنفسها عن العمل عبر آليات الفساد التابعة للحكومة المركزية، وعملت بدلاً من ذلك مع سماسرة السلطة الحقيقيين، فتستطيع تحقيق نجاح مزدوج: ستتمكن من مساعدة الشعب اليمني، فتحول بذلك دون انفجار البلاد من الداخل، كما أنها ستضعف تنظيم القاعدة إلى حد كبير. يقتضي هذا التكتيك مهارة ومرونة ، وكذلك الاستعداد للعمل خارج الإطار الآمن للفاعلين المعتادين والمناصب المطمئنة - لكنها السياسة الوحيدة التي تملك فرصة حقيقية للنجاح.[c1]* متخصص في معهد كارينجي للسلام في شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية[/c]
|
آراء
على الولايات المتحدة أن تشجع الاستقلال الذاتي في الجنوب
أخبار متعلقة