لقاء/ أثمار هاشم تصوير/ عرفان فيروزبترحاب وود شديدين استقبلنا العم جعفر - في منتصف عقده السادس - في بيته بمدينة التواهي الذي يكاد يكون شبه خال إلا من سرير حديدي قديم عليه فراش قذر يجلس عليه، وبجواره كرسي، فيما بقايا غداء اليوم السابق ما زالت موضوعة تحت السرير.وما كدنا نسأل مضيفنا عن أحواله وكيف يقضي أيامه حتى كسا الحزن ملامح وجهه وملأ الأسى صوته وبدأت عيناه تذرفان الدموع، وقال لنا:«انعدمت الرحمة في قلوب الناس، وتغيرت أحوالهم ولم يعد أحد يسأل عن الآخر».وتساءل قائلا: هل هذا هو الإسلام؟وأين الإيمان في قلوب الناس؟!أبنائي وبناتي يسعون إلى توفير لقمة العيش لأبنائهم، حتى ابني الذي يعيش في الطابق العلوي من المنزل شغلته الحياة عني.وأضاف انفق على نفسي من راتب الرعاية الاجتماعية الذي لا يتعدى (ألفي ريال) شهريـا، وأتسلمها كل (ثلاثة أشهر)، فهي لا تساوي شيئـا في هذا الزمن وفي بعض الأحيان يجود علي بعض المعارف الذين التقيهم مصادفة كلما ساعدتني قدامي على المشي خارج البيت .مستذكرا الماضي أدار العم جعفر نظره الضعيف في أرجاء الغرفة التي كنا نجلس فيها وقال:ولدت وتربيت في هذا البيت، الذي ورثته عن أبي وجدي اللذين كانا غنيين، وكان دائما مفتوحا امام الجميع وعندما أصبحت في سن الشباب عملت على متن الباخرة (قنا) التابعة لمصفاة عدن، وكنت سعيدا بعملي، ولم أكن حينها أحتاج لأحد، ولكن بعد التقاعد أخذت كافة مستحقاتي واستثمرت بعضـا منها، وفتحت بها كشكـا صغيرا، لكن المحافظة أغلقته بحجة أن مسلحين من خارج عدن يأتون للجلوس فيه، ورفضوا إعطائي أي تعويض، وعندما فكرت بالمطالبة بأملاك أبي وجدي اشترط علي مسؤول كبير بالمحافظة مقاسمتي تلك الأملاك مقابل مساعدته لي باسترجاعها، رغم أني صاحبها، وبالرغم من ذلك لم أتمكن من الحصول عليها، وضاعت مني الأملاك كما ضاعت أشياء كثيرة من حياتي.وتابع العم جعفر: في الماضي كانت الرحمة تملأ قلوب الناس، وإذا غاب أحد ليوم واحد نسأل عن أسباب غيابه، أما اليوم فأصبح الجار لا يرحم جاره، فقد يمر أسبوع أو أكثر دون أن يطرق أحدهم بابي أو يسأل إذا كنت أحتاج لشيء. يعيش معي في الحي نفسه جيران أعرفهم منذ أن كنت شابـا، لكن الحياة غيرتهم وملأت القسوة قلوبهم وجعلتهم ينسون أن للجار حقوقـا يجب مراعاتها، حتى أبناء أشقائي وشقيقاتي المتوفين على الرغم من حالة بعضهم المادية الجيدة إلا أنهم لا يسألون عني مطلقـا، وكأنني بالنسبة لهم شخص ميت، فلم يحدث أن كلف أحدهم نفسه، وقام بزيارتي أو الاتصال بي، حتى في فترة الأعياد أو المرض، لا يأتي أحد للسؤال عني، فلا الأهل يسألون ولا الجيران يرحمون، لقد تغير الناس كثيرا، ولم يعودوا يشبهون أولئك الذين عرفتهم في شبابي سوى بالشكل فقط.بعض الأشخاص الذين كانوا يعيشون في الحي نفسه، الذي يعيش فيه العم جعفر يشعرون بالأسف للحال التي وصل إليها، ومن قسوة الأيام عليه، غير مصدقين أن هذا الرجل الذي تملأ الأحزان والهموم قلبه الآن هو ذلك الشاب الذي كان يضج حيوية وشبابـا في الحي الذي يسكن فيه.على النقيض من هؤلاء هناك جيران للعم جعفر لا يشعرون بأي تعاطف معه ويعتقدون بأنه لا يستحق أي مساعدة لأنهم يرون أن ابنه مسئول عن رعايته.اليوم يعاني العم جعفر من ضعف بصره ومن أمراض الشيخوخة التي داهمته وبالرغم من امتلاكه رسالة من إحدى جمعيات المعاقين بعدن بتخفيض مبلغ العملية التي يتوجب عليه إجراؤها لعينيه إلا أن ضيق ذات اليد لم تسعفه لاستكمال المبلغ المطلوب منه ومع هذا فإن أكثر ما يعانيه ويسبب له الألم هو تلك الوحدة التي استوطنت قلبه مع تبدل أحوال الناس.ودعنا العم جعفر وكانت عبارته الأخيرة لنا انه يتمنى من الثورة أن تغير في نفوس الناس للأفضل كما نجحت في تغيير نظام الحكم .وهنا يأتي السؤال المهم: متى تقوم الدولة بواجبها تجاه المسنين وتوفر لهم الرعاية والتأمين الصحي المجاني؟ ومتى تتشكل جمعيات تهتم بالمسنين؟ وتدعو الناس للاهتمام بهذه الفئة التي تعيش بيننا دون أن نعيرها كثيرا من الاهتمام والعناية والتعامل معهم بإنسانية ويدركون أن شباب اليوم سيغدون مسنين ذات يوم.
أخبار متعلقة