أيامي في الجزيرة العربية..حضرموت وجنوب الجزيرة (1934 – 1944م)
هذا كتاب صدر عن مكتبة الصالحية للنشر والتوزيع في حضرموت الطبعة العربية الأولى عام 2011م ترجمة الأستاذ نجيب سعيد باوزير ومؤلفة هذا الكتاب هي الشخصية البريطانية دورين انجرامز، زوجة الضابط السياسي والمستشار البريطاني هارولد انجرامز، تلك الشخصية التي لعبت عدة ادوار سياسية في رسم الحدود الجغرافية وتحديد معالم الاتجاه والعمل. دورين انجرامز كانت رفقة زوجها في الرحلات والعمل ما بين عدن وحضرموت ثم كان الاستقرار والعمل في هذه الدولة التي وضعتها السياسة البريطانية جغرافياً في حدود محميات عدن الشرقية وعبر رحلاتها واتصالاتها وتعرفها على الكثير من صفات المجتمع الحضرمي وحدود الدولة ومساحات التواصل في الداخل ومسافات الاتصال مع دول الجوار ، تركت لنا من البحوث والدراسات ما يقدم لنا قراءة لمراحل من التاريخ المتصل بدولة حضرموت في تلك الحقبة من الزمن. تقول ليلى انجرامز ابنة المؤلفة في مقدمة الكتاب : ( بعد أن أمضى هارولد ودورين فترة قصيرة في عدن ، كلفهما الحاكم بعمل دراسة استطلاعية عن حضرموت " كانت في ذلك الوقت جزءاً من محمية عدن".وتنفيذاً لهذا التكليف غادرا عدن في 29 أكتوبر من عام 1934م متجهين إلى المكلا على متن سفينة بخارية وبعد أن قضيا خمسة أيام في المكلا شرعا في رحلتها الاستكشافية التي استغرقت تسعة أسابيع حيث كانت وسيلتهما في التنقل تارة الحمير وتارة الجمال " كانت دورين تفضل ركوب الجمل". حملتهما الرحلة إلى وادي دوعن ثم واصلا إلى هينن ومن هينن انتقلا بالسيارة إلى شبام. مكثا بعض الوقت في شبام ثم استأنفا رحلتهما على الجمال عبر أراضي قبيلة الصيعر شبه المجهولة " بالنسبة للاوربيين وفي أثناء هذه المدة التي قضياها في وادي حضرموت زارا مدينتي تريم وسيئون. ومن تريم انطلقا على الجمال منحدرين عبر وادي المسيلة الذي لم تطأة حتى ذلك الوقت قدما أوروبي حتى وصلا إلى سيحوت على الساحل. كانت المادة التي جمعت من خلال هذا الاستطلاع التفصيلي الأول من نوعه عن حضرموت مادة واسعة شملت الحكام والتقسيمات القبلية والسكان عموماً والحالة الاقتصادية والاجتماعية والجغرافيا والتاريخ الطبيعي والآثار بما في ذلك إعداد خرائط لمناطق واسعه لم يسبق أن رسمت لها خرائط من قبل. ونشرت المعلومات التي جمعت من هذه الرحلة في كتاب صدر عام 1936م تحت عنوان : " تقرير عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حضرموت " و. هـ انجرامز. وكما كانت دورين مشاركة لهارولد في كل الأعمال التي قام بها كذلك كانت مساهمتها في هذا التقرير مساهمة كبيرة. بعد نشر هذا التقرير الرسمي عن حضرموت ، قررت الحكومة البريطانية إجراء مزيد من البحث لمعرفة مدى إمكانية تقديم المساعدة للسلطانين القعيطي والكثيري لتطوير دولتيهما ، فعاد هارولد ودورين إلى المكلا في نوفمبر من عام 1936م. وفي أغسطس 1937م وقع السلطان القعيطي معاهدة على أن يكون هارولد انجرامز أول مستشار للسلطان. وبعد أشهر قليلة وقع السلطان الكثيري معاهدة مماثلة ووفقاً لما ورد في هاتين المعاهدتين كان على السلطانين أن يقبلا بالمشورة التي يقدمها المستشار المقيم في كل الأمور ما عدا تلك المتعلقة بالدين الإسلامي وعادات البلاد). تركت لنا دورين انجرامز عدة أعمال ففي عام 1949م نشرت اصداراً عنــــــــــوانه ( دراسة استطلاعية عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية في محمية عدن). كما قامت بكتابة يومياتها في حضرموت واخذ منها هذا الكتاب عام 1970م ومن أعمالها الأخرى كتاب( وثائق عن فلسطين 1917 - 1922) وفي عام 1983م أصدرت كتاب ( صحوة العراقيات) وفي عام 1993م أصدرت عملها الكبير ( سجلات عن اليمن 1798 - 1960) المكون من ستة عشر مجلداً وهذا العمل يعد قمة الجهود التاريخية والسياسية لما قامت به من رحلات ودراسات كذلك كانت لها عدة إسهامات في الصحافة والجمعيات العلمية والبرامج الإذاعية وكل هذا ينصب في قضايا الشرق الأوسط وقد رحلت عن عالمنا في عام 1997م بعد أن تركت من الجهود العلمية ما يعزز مكانتها في سجل الدراسات الشرقية والتي تظل من أهم المصادر المعرفية في استدعاء التاريخ والأحداث عند مرحلة زمنية تكون فيها دورة السياسة تعيد صياغة مصالح وقرارات تهدف إلى تحويل المعلومة من ذاكرة معرفية إلى مشاريع تسعى إلى العودة نحو المساحات السابقة من جذور التكوين والهوية والانتماء. تقول دورين انجرامز : ( في عهد الحكم البريطاني لمدينة عدن، كان على القبيلي القادم إلى عدن من المناطق الداخلية أن يترك بندقيته لدى نقطة عسكرية وهذا يعني انه مقبل على عالم ليس فقط غير قبلي بل ،عالم نظامي كما لايمكن أن يتمثل إلا في مستعمرة بريطانية عالم على النقيض تماماً من حياة الفوضى القبلية في الإمارات المحمية. وفي الواقع فإن عدن نفسها لم تكن حتى عام 1937م تحت إدارة وزارة المستعمرات وإنما تحت إدارة ما كان يسمى آنذاك حكومة الهند. وكانت المحمية قد سبقت مستعمرة عدن بسنوات قليلة في انتقال مسؤوليتها إلى وزارة المستعمرات وهذا ما أتاح لها رولد الذي كان احد موظفي هذه الوزارة أن يصل إلى تحقيق رغبته التي كانت تراوده منذ زمن بعيد في العمل وفي الجنوب العربي إذ عين من قبل وزارة المستعمرات ضابطاً سياسياً في محمية عدن ولكنه كان ادارياً يتبع للمقيم السياسي بعدن الذي كان إلى ، جانب توليه منصب الحاكم العام لعدن لحساب حكومة الهند، معيناً من قبل وزارة المستعمرات كضابط مسؤول عن المحمية وهو ما كان يعبر عنه اصطلاحاً بلبس قبعتين. ولكن منذ عام 1937م أصبح المقيم البريطاني يتبع لجهة واحدة أو بعبارة أخرى يلبس قبعة واحدة، هي قبعة الحكام التابعين لوزارة المستعمرات المزينة بالريش والمرفوعة حافتها إلى الأعلى. وإلى ما قبل ثلاثين عاماً، كانت قبعات المراسيم هذه تبدو غير قابلة للتزحزح عن رؤوس لابسيها كما كانوا يتخيلون).في عدن سكنت دورين مع زوجها انجرامز في منزل بعيد يقع على قمة مرتفعة في الحي القديم من مدينة عدن، التي تحيط بها التلال البركانية، وكانت عدن في تلك الفترة مركز الحركة التجارية وتجمع السكان، وكانت من عادات القادم إلى عدن أن يعلق صندوقاً عند المدخل الأمامي لمنزله، وعلى من يرغبون في زيارته من الإنجليز الذين كانوا في المدينة، أن يضعوا بطاقاتهم في هذا الصندوق.وحول الاندماج في المجتمع العدني وتعلم المزيد من اللغة العربية تقول دورين انجرامز في هذا الجانب : (أخذت أتلقى الدروس على يد أحمد بأن صرنا نتحدث معاً ونقرأ القرآن، وعندئذ كان يلبس طربوشه، ويطفئ سيجارته ويتحرى ألا يتم لمس المصحف إلا بأيد نظيفة، وألا يوضع عليه كتاب آخر إذا فرغ من استعماله.كان أحمد إنساناً ودوداً شديد التهذيب، وكان يعمل صيدلياً وبواسطته بدأت علاقتي بأسرة علي جعفر، وهي أسرة عربية كان يعترف لها في عدن بالفضل في إمداد الحكومة بالموظفين ذوي الولاء والشعور بالمسؤولية.أخبرني أحمد أن لديه ثلاث عمات يريدني أن أتعرف إليهن، وكنت، ونحن في الطريق إلى بيتهم، أتخيل أنني سأقابل بعد قليل نساء كبيرات في السن، فإذا بي أفاجأ بثلاث شابات رقيقات.وكان إبراهيم، والد أحمد، أخاً غير شقيق لهن وهو الذي قام بمهمة التعريف بيني وبين : فخرية وقدرية ورحيمة، مضيفاً : إنهن جميعاً عذارى. هذه الأسرة ترجع إلى أصول فارسية وتنتمي دينياً إلى الطائفة الشيعية، وهذا يعني أن هؤلاء البنات لا يمكنهن الزواج من عربي سني من أبناء البلد، وليس أمامهن إلا أن يتزوجن أما من أسرة جعفر الكبيرة وإما من أبناء عمومتهن أسرة حسن علي.إلا أن أسرة جعفر، رغم كبرها، لم يتقدم منها أحد لخطبة هؤلاء الثلاث اللائي أصبحن يواجهن خطر العنوسة، وهو وضع مؤلم في مجتمع لابد أن يكون مآل أي بنت فيه إلى الزواج وفي ظل عدم وجود أي إمكانية في ذلك الوقت أمامهن للحصول على عمل وقد ظلت الكبرى منهن وهي فخرية حبيسة البيت، أما قدرية فإنها بعد عدة سنوات أصبحت مدرسة خياطة في مدرسة البنات في عدن، وبذلك حصلت على مصدر دخل مستقل وعلى شيء من الحرية، بينما انتهى المطاف برحيمة الصغرى إلى أن تعمل ممرضة مساعدة في انجلترا.كانت رحيمة هذه تتميز عن أختيها بروح المغامرة، وكانت لديها رغبة شديدة في الانعتاق من أسر محيطها الضيق لكي ترى العالم، وقد بدأت مغامراتها عندما جاءت لتعيش معنا في حضرموت).استطاع هارولد انجرامز أن يقنع حكم عدن كولونيل (بي - آر - رايلي) كبير المقيمين (1933 - 1937م) في عام 1934م بالذهاب إلى حضرموت ذلك الإقليم البعيد الواقع في إطار محمية عدن الشرقية، لمعرفة الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السلطنتين الكثيرية والقعيطية.كانت فترة تلك الزيارة، وهي الأولى لهما، تسعة أسابيع تم فيها التحرك في الكثير من أراضي حضرموت، وهذا التحرك كان من العوامل التي ساعدت الكاتبة في التعرف على نوعية الحياة والتكوين الجغرافي لهذه المناطق وعادات وتقاليد التجمعات السكانية والأوضاع السياسية.وبعد الرحلة الأولى نشر التقرير الرسمي الذي أعده هارولد، حيث قررت الحكومة البريطانية الاستمرار في المزيد من الدراسات عن المنطقة لمعرفة ما يمكن تقديمه من مساعدات إلى السلطانين القعيطي والكثيري.في خريف عام 1936م عاد هارولد انجرامز إلى حضرموت لمعرفة كيف يمكن اختيار أفضل الوسائل الممكنة لتقديم المساعدات البريطانية لدولة حضرموت، وما هي الجوانب التي سوف تعمل فيها تلك المساعدات.يرحل الكتاب بنا في عدة فصول، ما بين حديث عن الحياة في المكلا والحياة العائلية ومجتمع الحريم وعرب حضرموت في سنغافورا وجاوا، وغيرها من المعالم المتصلة بتاريخ حضرموت في تلك الحقبة من الزمن.في شهر أغسطس من عام 1937م وقع السلطان القعيطي مع حكومة عدن البريطانية ممثلة بقيادة الكولونيل رايلي معاهدة الاستشارة التي تنص على تعيين هارولد انجرامز أول مستشار بريطاني مقيم للسلطان، وبعد تلك بعدة شهور وقع السلطان الكثيري معاهدة مع حكومة عدن يكون فيها انجرامز مستشاراً للسلطان.إن القيمة التاريخية لهذا الكتاب، توضح بعض جوانب الدور البريطاني في الأوضاع السياسية لدولة حضرموت، ودون شك فإن هناك الكثير من الوثائق والدراسات والخرائط المتصلة بتاريخ الجنوب، مازالت بحاجة لمن ينقلها إلى العربية حتى نتعرف على المزيد من تاريخ النفوذ البريطاني وسياسته في هذه المنطقة التي تعاملت بها بريطانيا مع محميات عدن الشرقية بالذات حيث تتجمع أكبر حقول للنفط والغاز.