نبض القلم
بعد انتهاء موسم الحج، ها نحن نعيش أيام عيد الأضحى المبارك، فإن هذا العيد قد سمي بالأضحى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شرع فيه الأضحية، وهي سنة مؤكدة تذكرنا بالفداء الذي قصه علينا القرآن الكريم في قصة نبينا إبراهيم عليه السلام مع ولده اسماعيل، حيث أظهر ابراهيم حبه وطاعته لله عز وجل بامتثال أمره بذبح ولده، الذي جاءه على الكبر، ولنا أن نتصور محبة الأب لابنه وخوفه عليه في هذه الحالة، فإذا ضحى ابراهيم بابنه يكون قد ضحى بعزيز عليه، ولكن تنفيذ أمر الله أعز من كل شيء.بالإضافة إلى ذلك فإن الذابح لأبنه هو الوالد نفسه، والابن لم يعترض على أبيه، ولم يقل انها اضغاث أحلام أو غير ذلك، بل استجاب لأمر الله وأطاع والده، ولكن الله فداه بذبح عظيم.ففي عيد الأضحى المبارك يتقرب الموسرون من المسلمين الى الله تعالى بذبح الأضاحي شكراً لله على ما أسبغ عليهم من نعم، وكشف عنهم من ضر تأسياً بأبيهم إبراهيم عليه السلام.فالتضحية بالحيوان رمز لإحياء ذكرى الإعلان الإبراهيمي قبل أربعة آلاف سنة، بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، وتوديع عقلية العالم القديم في حل المشكلات بالعنف.لذا كان الحج في دلالاته الرمزية تدريباً سنوياً لشحن الإنسان بروح السلام، ونبذ العنف، فمظهر الحجاج وهم متشحون بالبياض، فيحرم عليهم ممارسة العنف بأشكاله وألوانه وامتداداته، فلا جدال في الحج، وينعم الجميع بالسلام، في أرض عير ذي زرع، ويأمن الطير والدواب والإنسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس لا يأمنون على أنفسهم، ويمتد السلام إلى عدم جواز نتف الشعر أو قص الأظفار، وينتهي بتدشين تجربة إنسانية لا تقبل الإلغاء أو التأجيل وهي الأشهر الحرم، التي يحرم فيها العنف والقتال.لقد دشن النبي إبراهيم عليه السلام هذه التجربة، التي صمدت خلال آلاف السنين، وكأنه يريد تعميم هذه التجربة على ظهر الأرض، في كل زمان ومكان، وفي كل الأوقات، فتتحول الأشهر كلها إلى أشهر حرم.والحج في صورته العامة كأنه تظاهرة إنسانية لإيقاف تقديم القرابين البشرية وتدشين الإسلام تجربة الشحن الروحي هذه التجربة الانسانية الفريدة، المتمثلة بالبيت الحرام، والأشهر الحرم وعندما يعود الحاج من مركز الشحن الروحي، والتربية الروحية التي تجسدت في موسم الحج، والتي تتكرر كل عام فإنها تدرب الجنس البشري على نبذ العنف في حياتهم العادية، وانتهاج الطرق السلمية لحل المشكلات الإنسانية، فالأسلوب الإبراهيمي القديم سيبقى ملهماً للإنسان المعاصر في حل مشكلاته، بدلاً من أسلوب العنف المتبادل الذي يؤدي إلى تدمير الكل.فالعنف المتبادل في الصراع الإنساني، لا يحل المشكلات، بل يزيدها تعقيداً، فهو ينطلق من مشاعر الكراهية والحقد والخوف من الآخر، فيولد مشاعر مماثلة لدى الطرف الآخر. فالكراهية تولد كراهية، والدم يولد الدم، في دائرة صراع تتداخل حلقاتها، وتغذي أطرافها بمشاعر الحقد والبغض والكراهية.فالحج بمناسكه المختلفة يعلمنا درس اللاعنف في حياتنا العامة، كونه يفضي إلى التوازن وحل المشكلات، من خلال شيوع الحب والتسامح، ونبذ الحقد و الكراهية. فالحب مشاركة الآخر وليس ثني ذراعه، في حين أن العنف ثني الطرف الآخر أو كسر ذراعه.آلية العنف تعمل على إلغاء الآخر وتهميشه بل وتحطيمه، والسيطرة عليه، وربما إلغائه بالكامل، في وهج مشاعر الغضب والحقد والكراهية والانتقام، الذي يصل إلى التدمير والقتل، واستمرار الأذية المتبادلة، وبقاء الحروب.والحج بمناسكه يذكرنا بخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في عرفة في حجة الوداع حين قال : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا وبلدكم هذا وشهركم هذا.. ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد).وقوله في الخطبة ذاتها : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض).[c1] خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان[/c]